{ 41 - 42 } { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }
يقول تعالى لعباده المؤمنين -مهيجا لهم على النفير في سبيله فقال : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا } أي : في العسر واليسر ، والمنشط والمكره ، والحر والبرد ، وفي جميع الأحوال .
{ وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي : ابذلوا جهدكم في ذلك ، واستفرغوا وسعكم في المال والنفس ، وفي هذا دليل على أنه -كما يجب الجهاد في النفس- يجب الجهاد في المال ، حيث اقتضت الحاجة ودعت لذلك .
ثم قال : { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : الجهاد في النفس والمال ، خير لكم من التقاعد عن ذلك ، لأن فيه رضا اللّه تعالى ، والفوز بالدرجات العاليات عنده ، والنصر لدين اللّه ، والدخول في جملة جنده وحزبه .
وبعد هذا التذكير للمؤمنين بما كان منه - سبحانه - من تأييد لرسوله عند هجرته ، أمرهم - جل شأنه - بالنفير في كل حال فقال : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : اعلم أنه - تعالى - لما توعد من لا ينفر مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وضرب له من الأمثال ما وصفنا ، ابتعه بهذا الأمر الجازم فقال : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } .
والمراد : انفروا سواء أكنتم على الصفة التي يخف عليكم الجهاد فيها ، أو على الصفة التي يثقل . وهذا الوصف يدخل تحته أقسام كثيرة .
منها : { خِفَافاً } في النفور لنشاطكم له ، و { وَثِقَالاً } عنه لمشقته عليكم .
ومنها : { خِفَافاً } لقلة عيالكم ، و { وَثِقَالاً } لكثرتها .
ومنها : { خِفَافاً } من السلاح ، و { وَثِقَالاً } منه .
والصحيح ما ذكرنا ، إذ الكل داخل فيه ، لأن الوصف المذكور وصف كلى يدخل فيه كل هذه الجزئيات .
والمعنى : { انفروا } - أيها المؤمنون - { خِفَافاً وَثِقَالاً } أى : في حال سهولة النفر عليكم ، وفى حال صعوبته ومشقته .
{ وَجَاهِدُواْ } أعداءكم ببذل أموالكم . وببذل أنفسكم { فِي سَبِيلِ الله } أى : في سبيل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
فمن استطاع منكم الجهاد بالمال والنفس وجب عليه الجهاد بها . ومن قدر على أحدهما دون الآخر ، وجب عليه ما كان في قدرته منهما .
قال القرطبى روى أبو داود عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم " .
وهذا وصف لأكمل ما يكون الجهاد وأنفعه عند الله - تعالى - فقد حض - سبحانه - على كمال الأوصاف .
وقدم الأموال في الذكر ، إذ هي أول مصرف وقت التجهيز ، فرتب الأمر كما هو في نفسه .
واسم الإِشارة في قوله : { ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } يعود إلى المذكور من الأمرين السابقين وهما : النفور والجهاد .
أى : ذلكم الذي أمرتم به من النفور والجهاد في سبيل الله ، خير لكم في دنياكم وفى آخرتكم من التثاقل عنهما ، إن كنتم من أهلا لعلم بحقيقة ما بين لكم خالقكم ومربيكم على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
ولقد أدرك المؤمنون الصادقون هذا الخير فامتثلوا أمر ربهم ، ونفروا للجهاد في سبيله خفاقاً وثقالاً ، بدون تباطؤ أو تقاعس .
وقد ساق المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآية كثيراً من الأمثة التي تدل على محبة السلف الصالح للجهاد في سبيل الله ، ومن ذلك .
ما جاء عن أنس أن أبا طلحة قرأ سورة براءة ، فأتى على هذه الآية : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } فقال : أى بنى ، جهزونى جهزونى . فقال بنوه . يرحمك الله ! ! لقد غزوت مع النبى - صلى الله عليه وسلم - تحتى مات ، ومع أبى بكر حتى مات . ومع عمر حتى مات . فنحن نغزو عنك . فقال : لا ، جهزونى . فغزا في البحر فمات في البحر ، فلما يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فدفنوه فيها ، ولم يتغير - رضى الله عنه .
وقال الزهرى : خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له : إنك عليل : فقال : استنفر الله الخفيف والثقيل ، فإن لتم يمكنى الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع .
وأخرج ابن جرير عن حيان بن زيد الشرعبى قال : نفرنا مع صفوان بن عمرو : وكان والياً على حمص ، فلقيت شيخاً كبيراً هرما ، لى راحلته فيمن نفر ، فأقبلت عليه فقلت : يا عماه لقد أعذر الله إليك .
قال : فرفع حاجبيه فقال . يا ابن أخى ، استنفرنا الله خفافا وثقالا ، من يحبه الله يتليه ، ثم يعيده فيبقيه ، وإنما يبتلى الله من عباده من شكر وصبر وذكر ، لوم يعبد إلا الله .
وعن أبى راشد الحبرانى قال . وافيت المقداد بن الأسود ، فارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالساً على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص ، وهو يريد الغزو - وقد تقدمت به السن - فقلت : له لقد أعذر الله إليك .
فقال : أبت علينا سورة البعوث ذلك . يعنى هذه الآية : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } .
هذا ، ومن العلماء من يرى أن هذه الآية تجعل الجهاد على الجميع حتى المريض والزمن والفقير . . وليس الأمر كذلك ، فما معنى هذا الأمر ؟
قلت . من العلماء من حمله على الوجوب ثم إنه نسخ بقوله - تعالى - { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى } ومنهم من حمل هذا الأمر الندب .
والصحيح أنها منسوخة ، لأن الجهاد من فروض الكفاية ، ويدل عليه أن هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك ، وأن النبى - صلى الله عليه وسلم - خلف في المدينة في تلك الغزوة النساء وبعض الرجال ، فدل ذلك على أن الجهد من فروض الكفايات ، وأنه ليس على الأعيان .
ويرى بعض العلماء أن الاية ليست منسوخة ، فقد قال الإِمام القرطبى - ما ملخصه - واختلف في هذه الآية ، فقيل إنها منسوخة بقوله - تعالى - { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى }
روى ابن عباس عن أبى طلحة في قوله - تعالى - { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } قال : شباناً وكهولا . ما سمع الله عذر أحد . فخرج إلى الشام فجاهد حتى مات .
ثم قال - بعد أن ساق نماذج متعددة لمن خرجوا للجهاد خفافاً وثقالا - فلهذا وما كان مثله مما روى عن الصحابة والتابعين قلنا . إن النسخ لا يصح .
فقد تكون هناك حالة يجب فيها نفير الكل ، وذلك إذا تعين الجهاد لغلبة العدو على قطر من الأقطار الإِسلامية ، أو بحلوله في العقر . ففى هذه الحالة يجب على جميع أهل الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافاً وثقالاً ؛ شباباً وشيوخاً ، كل على قدر طافته . ولا يتخلف أنحد يقدر على الخروج .
فإن عجز أهل تلك البلدة عن صد عدوهم ؛ كان على من قاربهم أن يخرجوا معهم لصد العدو ، وكذلك الشأن بالنسبة لكل من علم بضعفهم عن عدوهم فالمسلمون كلهم يد على من سواهم .
حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل العدو عليها ، سقط الفرض على الآخرين .
ثم قال - رحمه الله - ومن الجهاد أيضاً ما هو نافلة ، وهو إخراج الإِمام طائفة . . لإِظهار القوة ، وإعزاز دين الله .
ثم قال : وقال ابن العربى ، ولقد نزل بنا العدو - قصمه الله . سنة سبع وعشرين وخمسمائة : فجاس ديارنا ، وأسر خيرتنا ، وتوسط بلادنا . . فقلت للوالى والمولى عليه : عدو الله قد حصل في الشرك والشبكة ، فلتكن عندكم بركة ، ولتظهر منكم إلى نصرة الدين المعينة عليكم حركة ، فليخرج إليه جميع الناس . . فيحاط به فيهلك .
فغلبت الذنوب ، ورجفت القلوب بالمعاصى ، وصار كل أحد من الناس ثعلباً يأوى إلى وجاره ، وإن رأى المكيدة بجاره .
فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
والذى نراه . أن ما ذهب إليه الإِمام القرطبى ، من أن الآية الكريمة ليست منسوخة ، أولى بالاتباع .
لأن الجهاد قد يكون فرض كفاية في بعض الحالات ، وقد يكون فرض عين في حالات أخرى والآية الكريمة التي معنا تدعو المؤمنين إلى النفي العام في تلك الحالات الأخرى التي يكون الجهد فيها فرض عين وبذلك يمكن الجمع بين الآيات التي تدعو إلى النفير العام . والآيات التي تعفى بعض الن عاسن مشاقه ومتاعبه .
ومن كل ما تقدم يتبين لنا أن هذه الآيات الأربع قد عاتبت المؤمنين الذين تخلفوا عن الجهاد في غزوة تبوك عتاباً شديداً ؛ وأنذرتهم بالعذاب الأليم إن لم ينفروا . . وذكرتهم بما كان من نصر الله لنبيه حين أخرجه الذين كفروا ثانى اثنين . . وأمرتهم بالنفور إلى الجهاد خفافاً وثقالا . وبمجاهدة المشركين بأموالهم وأنفهسم ، فذلك هو الخير لهم في عاجلتهم وآجلتهم .
وفي ظلال هذا المثل الواقع المؤثر يدعوهم إلى النفرة العامة ، لا يعوقهم معوق . ولا يقعد بهم طارئ ، إن كانوا يريدون لأنفسهم الخير في هذه الأرض وفي الدار الاخرة :
( انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله . ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) . .
انفروا في كل حال ، وجاهدوا بالنفوس والأموال ، ولا تتلمسوا الحجج والمعاذير ، ولا تخضعوا للعوائق والتعلات .
( ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) .
وأدرك المؤمنون المخلصون هذا الخير ، فنفروا والعوائق في طريقهم ، والأعذار حاضرة لو أرادوا التمسك بالأعذار . ففتح اللّه عليهم القلوب والأرضين ، وأعز بهم كلمة اللّه ، وأعزهم بكلمة اللّه ، وحقق على أيديهم ما يعد خارقة في تاريخ الفتوح .
قرأ أبو طلحة - رضي اللّه عنه - سورة براءة فأتى على هذه الآية فقال : أرى ربنا استنفرنا شيوخاً وشباناً ، جهزوني يا بني . فقال بنوه : يرحمك اللّه قد غزوت مع رسول اللّه [ ص ] وعلى آله وسلم حتى مات ، ومع أبي بكر حتى مات ، ومع عمر حتى مات ، فنحن نغزو عنك . فأبى فركب البحر فمات ، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد تسعة أيام ، فلم يتغير ، فدفنوه بها .
وروى ابن جرير بإسناده - عن أبي راشد الحراني قال : " وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول اللّه - [ ص ] - جالساً على تابوت من توابيت الصيارفة ، وقد فضل عنها من عظمه يريد الغزو ؛ فقلت له قد قد أعذر اللّه إليك . فقال : أتت علينا سورة البعوث . "
وروى كذلك بإسناده - عن حيان بن زيد الشرعبي قال : نفرنا مع صفوان بن عمرو ، وكان والياً على حمص قبل الأفسوس إلى الجراجمة فرأيت شيخا كبيراً هما ، قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار ، فأقبلت إليه فقلت : يا عم لقد أعذر اللّه إليك . قال : فرفع حاجبيه فقال يا ابن أخي استنفرنا اللّه ، خفافاً وثقالاً . ألا إنه من يحبه اللّه يبتليه ، ثم يعيده فيبقيه ، وإنما يبتلي اللّه من عباده من شكر وصبر وذكر ، ولم يعبد إلا اللّه عز وجل .
وبمثل هذا الجد في أخذ كلمات اللّه انطلق الإسلام في الأرض ، يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة اللّه وحده ، وتمت تلك الخارقة في تلك الفتوح التحريرية الفريدة .
قال سفيان الثوري ، عن أبيه ، عن أبي الضحَى مسلم بن صَبيح : هذه الآية : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا }
وقال معتمر بن سليمان ، عن أبيه قال : زعم حَضْرمي أنه ذكر له أن ناسا كانوا عسى أن يكون أحدهم عليلا أو كبيرا ، فيقول : إني لا آثم ، فأنزل الله : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا } الآية .
أمر الله تعالى بالنفير العام مع الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، عام غزوة تبوك ، لقتال أعداء الله من الروم الكفرة من أهل الكتاب ، وحَتَّم على المؤمنين في الخروج معه على كل حال في المَنْشَط والمَكْرَه والعسر واليسر ، فقال : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا }
وقال علي بن زيد ، عن أنس ، عن أبي طلحة : كهولا وشَبَابًا{[13518]} ما أسمع الله عَذَر أحدًا ، ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قُتل .
وفي رواية : قرأ{[13519]} أبو طلحة سورة براءة ، فأتى على هذه الآية : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } فقال : أرى ربنا يستنفرنا شيوخًا وشَبَابًا{[13520]} جهزوني يا بَنِيَّ . فقال بنوه : يرحمك الله ، قد غزوت مع رسول الله حتى مات ، ومع أبي بكر حتى مات ، ومع عمر حتى مات ، فنحن نغزو عنك . فأبى ، فركب البحر فمات ، فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد تسعة أيام ، فلم يتغير ، فدفنوه بها{[13521]} وهكذا روي عن ابن عباس ، وعِكْرِمة وأبي صالح ، والحسن البصري ، وشَمْر بن عطية ، ومقاتل بن حَيَّان ، والشعبي وزيد بن أسلم : أنهم قالوا في تفسير هذه الآية : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا } قالوا : كهولا وشبابا{[13522]} وكذا قال عِكْرِمة والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، وغير واحد .
وقال مجاهد : شبابا{[13523]} وشيوخا ، وأغنياء ومساكين . وكذا قال أبو صالح ، وغيره .
وقال الحكم بن عُتيبة : مشاغيل وغير مشاغيل .
وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا } يقول : انفروا نشاطا وغير نشاط . وكذا قال قتادة .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مُجاهد : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا } قالوا : فإن فينا الثقيل ، وذا الحاجة ، والضيعة{[13524]} والشغل ، والمتيسر به أمر ، فأنزل الله وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا خفافا وثقالا وعلى ما كان منهم .
وقال الحسن بن أبي الحسن البصري أيضا : في العسر واليسر . وهذا كله من مقتضيات العموم في الآية ، وهذا اختيار ابن جرير .
وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي : إذا كان النفير إلى دُروب الروم نفرَ الناس إليها خفافا وركبانا ، وإذا كان النفير إلى هذه السواحل نفروا إليها خفافا وثقالا وركبانا ومشاة . وهذا تفصيل في المسألة .
وقد روي عن ابن عباس ، ومحمد بن كعب ، وعطاء الخراساني وغيرهم أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ } وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله .
وقال السدي قوله : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا } يقول : غنيًا وفقيرًا ، وقويًا وضعيفًا فجاءه رجل يومئذ ، زعموا أنه المقداد ، وكان عظيما سمينًا ، فشكا إليه وسأله أن يأذن له ، فأبى فنزلت يومئذ{[13525]} { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا } فلما نزلت هذه الآية اشتد على الناس شأنها فنسخها الله ، فقال : { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } [ التوبة : 91 ] .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، حدثنا أيوب ، عن محمد قال : شهد أبو أيوب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا ثم لم يتخلف عن غَزاة للمسلمين إلا وهو في آخرين إلا عاما واحدًا قال : وكان أبو أيوب يقول : قال الله : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا } فلا أجدني إلا خفيفًا أو ثقيلا{[13526]} وقال ابن جرير : حدثني سعيد بن عمر السَّكُوني ، حدثنا بَقِيَّة ، حدثنا حَرِيز ، حدثني عبد الرحمن بن ميسرة ، حدثني أبو راشد الحُبْراني قال : وافيت المقدام بن الأسود فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص ، وقد فضل عنها من عظمه ، يريد الغزو ، فقلت له : لقد أعذر الله إليك فقال : أتت علينا سورة " البعوث{[13527]} { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا }{[13528]} وبه قال ابن جرير : حدثني حيان بن زيد الشَّرْعِبي قال : نفرنا مع صفوان بن عمرو ، وكان واليا على حمص قِبَل الأفسُوس ، إلى الجراجمة فلقيت شيخًا كبيرًا هما ، وقد سقط حاجباه على عينيه ، من أهل دمشق ، على راحلته ، فيمن أغار . فأقبلت إليه{[13529]} فقلت : يا عم ، لقد أعذر الله إليك . قال : فرفع حاجبيه{[13530]} فقال : يا ابن أخي ، استنفرنا الله خفافا وثقالا إنه من يحبه الله يبتليه ، ثم يعيده الله فيبقيه{[13531]} وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر ، ولم يعبد إلا الله ، عز وجل{[13532]}
ثم رغب تعالى في النفقة في سبيله ، وبذل المهج في مرضاته ومرضاة رسوله ، فقال : { وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : هذا خير لكم في الدنيا والآخرة ، ولأنكم تغرمون في النفقة قليلا فيغنيكم الله أموال عدوكم في الدنيا ، مع ما يدخر لكم من الكرامة في الآخرة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " وتَكفَّل الله للمجاهد{[13533]} في سبيله إن{[13534]} توفاه أن يدخله الجنة ، أو يرده إلى منزله نائلا ما نال من أجر أو غنيمة " {[13535]} ولهذا قال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 216 ] .
ومن هذا القبيل ما رواه الإمام أحمد :
حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ ، عن حميد ، عن أنس ؛ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل : " أسلم " . قال : أجدني كارها . قال : " أسلم وإن كنت كارها " {[13536]}
{ انفروا خفافا } لنشاطكم له . { وثقالا } عنه لمشقته عليكم ، أو لقلة عيالكم ولكثرتها أو ركبانا ومشاة ، أو خفافا وثقالا من السلاح ، أو صحاحا ومراضا ولذلك لما قال ابن أم مكتوم لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أعلي أن أنفر قال " نعم " . حتى نزل { ليس على الأعمى حرج } . { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } بما أمكن لكم منهما كليهما أو أحدهما . { ذلكم خير لكم } من تركه . { إن كنتم تعلمون } الخير علمتم أنه خير ، أو إن كنتم تعلمون أنه خير إذ إخبار الله تعالى به صدق فبادروا إليه .
هذا أمر من الله عز وجل أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالنفر إلى الغزو فقال بعض الناس هذا أمر عام لجميع المؤمنون تعين به الفرض على الأعيان في تلك المدة ، ثم نسخه الله عز وجل ، بقوله : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة }{[5662]} ، روي ذلك عن الحسن وعكرمة ، وقال جل الناس : بل هذا حض والأمر في نفسه موقوف على فرض الكفاية ولم يقصد بالآية فرضه على الأعيان ، وأما قوله { خفافاً وثقالاً } فنصب على الحال من الضمير في قوله { انفروا } ، ومعنى الخفة والثقل هنا مستعار لمن يمكنه السفر{[5663]} بسهولة ومن يمكنه بصعوبة ، وأما من لا يمكنه كالعمي ونحوهم فخارج عن هذا .
وروي أن ابن أم مكتوم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أعليَّ أن أنفر ؟ فقال له نعم ، حتى نزلت { ليس على الأعمى حرج }{[5664]} ، وذكر الناس من معاني الخفة والثقل أشياء لا وجه لتخصيص بعضها دون بعض ، بل هي وجوه متفقة ، فقيل «الخفيف » الغني «والثقيل » الفقير : قاله مجاهد ، وقيل الخفيف الشاب والثقيل الشيخ قاله الحسن وجماعة ، وقيل الخفيف النشيط والثقيل الكاسل ، قاله ابن عباس وقتادة ، وقيل المشغول ومن لا شغل له قاله الحكم بن عيينة وزيد بن علي ، وقيل الذي له ضيعة هو الثقيل ومن لا ضيعة له هو الخفيف قاله ابن زيد : وقيل الشجاع هو الخفيف والجبان هو الثقيل حكاه النقاش ، وقيل الرجل هو الثقيل والفارس هو الخفيف قاله الأوزاعي .
قال القاضي أبو محمد : وهذان الوجهان الآخران ينعكسان ، وقد قيل ذلك ولكنه بحسب وطأتهم على العدو فالشجاع هو الثقيل وكذلك الفارس والجبان هو الخفيف وكذلك الراجل وكذلك ينعكس الفقير والغني فيكون الغني هو الثقيل بمعنى صاحب الشغل ومعنى هذا أن الناس أمروا جملة .
وهذه الأقوال إنما هي على معنى المثال في الثقل والخفة ، وقال أبو طلحة : ما أسمع الله عذراً أحداً وخرج إلى الشام فجاهد حتى مات .
وقال أبو أيوب : ما أجدني أبداً إلا ثقيلاً أو خفيفاً ، وروي أن بعض الناس رأى في غزوات الشام رجلاً سقط حاجباه على عينيه من الكبر ، فقال له يا عم إن الله قد عذرك ، فقال يا ابن أخي إنَّا قد أمرنا بالنفر خفافاً وثقالاً ، وأسند الطبري عمن رأى المقداد بن الأسود بحمص وهو على تابوت صراف وقد فضل على التابوت من سمنه وهو يتجهز للغزو فقال له لقد عذرك الله ، فقال أتت علينا سورة البعوث { انفروا خفافاً وثقالاً } ، وروي سورة البحوث ، وقوله تعالى : { بأموالكم وأنفسكم } وصف لأكمل ما يكون من الجهاد وأنفسه عند الله تعالى : فحض على كمال الأوصاف ، وقدمت الأموال في الذكر إذ هي أول مصرف وقت التجهيز فرتب الأمر كما هو في نفسه ، ثم أخبر أن ذلك لهم خير للفوز برضى الله وغلبة العدو ووراثة الأرض ، وفي قوله : { إن كنتم تعلمون } تنبيه وهز للنفوس .
الخطاب للمؤمنين الذين سبق لومهم بقوله : { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذ قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } [ التوبة : 38 ] ، فالنفير المأمور به ما يستقبل من الجهاد . وقد قدّمنا أنّ الاستنفار إلى غزوة تبوك كان عامَّاً لكلّ قادر على الغزو : لأنّها كانت في زمن مشقّة ، وكان المغزُوُّ عدوّاً عظيماً ، فالضمير في { انفروا } عام للذين استُنفروا فتثاقلوا ، وإنّما استُنفِر القادرون ، وكان الاستنفار على قدر حاجة الغزو ، فلا يقتضي هذا الأمر توجّه وجوب النفير على كلّ مسلم في كلّ غزوة ، ولا على المسلم العاجز لعمىً أو زَمانة أو مرض ، وإنّما يجري العمل في كلّ غزوة على حسب ما يقتضيه حالها وما يصدر إليهم من نفير . وفي الحديث : " وإذا استنفرتم فانْفِروا " .
و { خفافا } جمع خفيف وهو صفة مشبّهة من الخفّة ، وهي حالة للجسم تقتضي قلّة كمية أجزائه بالنسبة إلى أجسام أخرى متعارفة ، فيكون سهْلَ التنقّل سهل الحمل . والثقال ضدّ ذلك . وتقدّم الثقل آنفاً عند قوله : { اثاقلتم إلى الأرض } [ التوبة : 38 ] .
والخفاف والثقال هنا مستعاران لما يشابههما من أحوال الجيش وعلائقهم ، فالخفّة تستعار للإسراع إلى الحرب ، وكانوا يتمادحون بذلك لدلالتها على الشجاعة والنجدةِ ، قال قُريط بن أنيف العنبري :
قومٌ إذا الشرُّ أبدَى ناجِذَيْه لهم *** طَاروا إليه زَرَافَات ووُحدانا
فالثقل الذي يناسب هذا هو الثبات في القتال كما في قول أبي الطيب :
ثِقال إذا لاقَوْا خِفاف إذا دُعوا
وتستعار الخفّة لقلّة العدد ، والثقلُ لكثرة عدد الجيش كما في قول قُريط : « زَرافات ووُحدانا » .
وتستعار الخفّة لتكرير الهجوم على الأعداء ، والثقل للتثبّت في الهجوم . وتستعار الخفّة لقلّة الأزوَاد أو قلّة السلاح ، والثقل لضدّ ذلك . وتستعار الخفّة لقلّة العيال ، والثقل لضدّ ذلك وتستعار الخفّة للركوب لأنّ الراكب أخفّ سيراً ، والثقل للمشي على الأرجل وذلك في وقت القتال . قال النابغة :
على عارفاتٍ للطِّعان عوابِــسٍ *** بهِنَّ كلوم بين دامٍ وجـــــالب{[246]}
إذ استُنزلوا عنهنّ للضَّرب ارقلوا *** إلى الموت ارْقالَ الجمال المصَاعب
وكلّ هذه المعاني صالحة للإرادة من الآية ولمّا وقع { خفافاً وثقالاً } حالاً من فاعل { انفروا } ، كان محمل بعض معانيهما على أن تكون الحال مقدّرة والواو العاطفة لإحدى الصفتين على الأخرى للتقسيم ، فهي بمعنى ( أو ) ، والمقصود الأمر بالنفير في جميع الأحوال .
والمجاهدة : المغالبة للعدوّ ، وهي مشتقّة من الجُهد بضمّ الجيم أي بذل الاستطاعة في المغالبة ، وهو حقيقة في المدافعة بالسلاح ، فإطلاقه على بذل المال في الغزو من إنفاقٍ على الجيش واشتراءِ الكراع والسلاح ، مجاز بعلاقة السببية .
وقد أمر الله بكلا الأمرين فمن استطاعهما معاً وجبا عليه ، ومن لم يستطع إلاّ واحداً منهما وجب عليه الذي استطاعه منهما .
وتقديم الأموال على الأنفس هنا : لأنّ الجهاد بالأموال أقلّ حُضوراً بالذهن عند سماع الأمر بالجهاد ، فكان ذكره أهمّ بعد ذكر الجهاد مجملاً .
والإشارة ب { ذلكم } إلى الجهاد المستفاد من { وجاهدوا } .
وإبهام { خير } لقصد توقّع خير الدنيا والآخرة من شعب كثيرة أهمها الاطمئنان من أن يغزوهم الروم ولذلك عُقب بقوله : { إن كنتم تعلمون } أي إن كنتم تعلمون ذلك الخير وشعبه . وفي اختيار فعل العلم دون الإيمان مثلاً للإشارة إلى أنّ من هذا الخير ما يخفى فيحتاج متطلّب تعيين شعبه إلى إعمال النظر والعلم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{انفروا} إلى غزاة تبوك {خفافا وثقالا}، يعنى نشاطا وغير نشاط، {وجاهدوا} العدو {بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله}، يعني الجهاد، {ذلكم خير لكم} من القعود، {إن كنتم تعلمون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
واختلف أهل التأويل في معنى الخفة والثّقل اللذين أمر الله من كان به أحدهما بالنّفر معه؛ فقال بعضهم: معنى الخفة التي عناها الله في هذا الموضع: الشباب، ومعنى الثقل: الشيخوخة...
عن أبي طلحة:"انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً" قال: كهولاً وشبانا، ما أسمع الله عذرَ أحدا فخرج إلى الشام فجاهد حتى مات...
وقال آخرون: معنى ذلك مشاغيل وغير مشاغيل...
وقال آخرون: معناه: انفروا أغنياء وفقراء... وقال آخرون: معناه: نِشَاطا وغير نِشاط... وقال آخرون: معناه: ركبانا ومشاة... وقال آخرون: معنى ذلك: ذَا ضَيْعة، وغير ذي ضيعة... وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين بالنفر لجهاد أعدائه في سبيله خفافا وثقالاً وقد يدخل في الخفاف كلّ من كان سهلاً عليه النفر لقوّة بدنه على ذلك وصحة جسمه وشبابه، ومن كان ذا تيسر بمال وفراغ من الاشتغال وقادرا على الظهر والركاب. ويدخل في الثقال كلّ من كان بخلاف ذلك من ضعيف الجسم وعليله وسقيمه، ومن معمر من المال ومشتغل بضيعة ومعاش، ومن كان لا ظهر له ولا ركاب، والشيخ وذو السنّ والعيال. فإذ كان قد يدخل في الخفاف والثقال من وصفنا من أهل الصفات التي ذكرنا ولم يكن الله جلّ ثناؤه خصّ من ذلك صنفا دون صنف في الكتاب، ولا على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نصب على خصوصه دليلاً، وجب أن يقال: إن الله جلّ ثناؤه أمر المؤمنين من أصحاب رسوله بالنفر للجهاد في سبيله خفافا وثقالاً مع رسوله صلى الله عليه وسلم على كلّ حال من أحوال الخفة والثقل...
"وجَاهَدُوا بأمْوَالِكمْ وأنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تعْلَمُونَ".
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاهدوا أيها المؤمنون الكفار بأموالكم، فأنفقوها في مجاهدتهم على دين الله الذي شرعه لكم، حتى ينقادوا لكم فيدخلوا فيه طوعا أو كرها، أو يعطوكم الجزية عن يد صغارا إن كانوا أهل كتاب، أو تقتلوهم "وأنْفُسِكُمْ "يقول: وبأنفسكم فقاتلوهم بأيديكم يخزهم الله وينصركم عليهم. "ذلكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ" يقول: هذا الذي آمركم به من النفر في سبيل الله تعالى خفافا وثقالاً وجهاد أعدائه بأموالكم وأنفسكم خير لكم من التثاقل إلى الأرض إذا استنفرتم والخلود إليها والرضا بالقليل من متاع الحياة الدنيا عوضا من الاَخرة، إن كنتم من أهل العلم بحقيقة ما بين لكم من فضل الجهاد في سبيل الله على القعود عنه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (انفروا خفافا وثقالا)... مستخفين ومستثقلين؛ أي أنفروا خف عليكم الخروج أو ثقل...
وقوله تعالى: (ذلكم خير لكم) في الدنيا والآخرة. أي اعلموا أن ذلك خير لكم من المقام وترك النفر (إن كنتم تعلمون)...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا أمر من الله عز وجل أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالنفر إلى الغزو، فقال بعض الناس هذا أمر عام لجميع المؤمنون تعين به الفرض على الأعيان في تلك المدة، ثم نسخه الله عز وجل، بقوله: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة}..
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: اُخْتُلِفَ فِي أحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ نَسْخِهَا قَوْله عَلَى قَوْلَيْنِ بَيَّنَّاهُمَا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا غَيْرَ مَنْسُوخَةٍ، وَقَدْ تَكُونُ حَالَةٌ يَجِبُ فِيهَا نَفِيرُ الْكُلِّ إذَا تَعَيَّنَ الْجِهَادُ عَلَى الْأَعْيَانِ بِغَلَبَةِ الْعَدُوِّ عَلَى قُطْرٍ من الْأَقْطَارِ، أَوْ بِحُلُولِهِ بِالْعُقْرِ؛ فَيَجِبُ عَلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ الْجِهَادُ وَالْخُرُوجُ إلَيْهِ؛ فَإِنْ قَصَّرُوا عَصَوْا...
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إذَا كَانَ النَّفِيرُ عَامًّا لِغَلَبَةِ الْعَدُوِّ عَلَى الْحَوْزَةِ، أَوْ اسْتِيلَائِهِ عَلَى الْأُسَارَى كَانَ النَّفِيرُ عَامًّا، وَوَجَبَ الْخُرُوجُ خِفَافًا وَثِقَالًا، وَرُكْبَانًا وَرِجَالًا، عَبِيدًا وَأَحْرَارًا، مَنْ كَانَ لَهُ أَبٌ من غَيْرِ إذْنِهِ، وَمَنْ لَا أَبَ لَهُ، حَتَّى يَظْهَرَ دينُ اللَّهِ، وَتُحْمَى الْبَيْضَةُ، وَتُحْفَظَ الْحَوْزَةُ، وَيُخْزَى الْعَدُوُّ، وَيُسْتَنْقَذَ الْأَسْرَى. وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا...
اعلم أنه تعالى لما توعد من لا ينفر مع الرسول، وضرب له من الأمثال ما وصفنا، أتبعه بهذا الأمر الجزم؛ فقال: {انفروا خفافا وثقالا} والمراد انفروا سواء كنتم على الصفة التي يخف عليكم الجهاد أو على الصفة التي يثقل، وهذا الوصف يدخل تحته أقسام كثيرة.
فإن قيل: أتقولون إن هذا الأمر يتناول جميع الناس حتى المرضى والعاجزين؟
قلنا: ظاهره يقتضي ذلك، عن ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أعلي أن أنفر، قال: «ما أنت إلا خفيف أو ثقيل» فرجع إلى أهله ولبس سلاحه ووقف بين يديه، فنزل قوله تعالى: {ليس على الأعمى حرج}...
واعلم أن القائلين بهذا القول الذي قررناه يقولون: هذه الآية صارت منسوخة بقوله تعالى: {ليس على الأعمى حرج} وقال عطاء الخراساني: منسوخة بقوله: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة}.
ولقائل أن يقول: اتفقوا على أن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك، واتفقوا على أنه عليه الصلاة والسلام خلف النساء وخلف من الرجال أقواما، وذلك يدل على أن هذا الوجوب ليس على الأعيان، لكنه من فروض الكفايات، فمن أمره الرسول بأن يخرج، لزمه ذلك خفافا وثقالا، ومن أمره بأن يبقى هناك، لزمه أن يبقى ويترك النفر. وعلى هذا التقدير: فلا حاجة إلى التزام النسخ. ثم قال تعالى: {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} وفيه قولان:
القول الأول: أن هذا يدل على أن الجهاد إنما يجب على من له المال والنفس، فدل على أن من لم يكن له نفس سليمة صالحة للجهاد، ولا مال يتقوى به على تحصيل آلات الجهاد لا يجب عليه الجهاد.
والقول الثاني: أن الجهاد يجب بالنفس إذا انفرد وقوي عليه، وبالمال إذا ضعف عن الجهاد بنفسه، فيلزم على هذا القول أن من عجز أن ينيب عنه نفرا بنفقة من عنده فيكون مجاهدا بماله لما تعذر عليه بنفسه، وقد ذهب إلى هذا القول كثير من العلماء.
ثم قال تعالى: {ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}. فإن قيل: كيف يصح أن يقال: الجهاد خير من القعود عنه، ولا خير في القعود عنه. قلنا: الجواب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أن لفظ {خير} يستعمل في معنيين: أحدهما: بمعنى هذا خير من ذاك.
والثاني: بمعنى أنه في نفسه خير كقوله: {إني لما أنزلت إلي من خير فقير} وقوله: {وإنه لحب الخير لشديد} ويقال: الثريد خير من الله، أي هو خير في نفسه، وقد حصل من الله تعالى، فقوله: {ذلكم خير لكم} المراد هذا الثاني، وعلى هذا الوجه يسقط السؤال. الوجه الثاني: سلمنا أن المراد كونه خيرا من غيره، إلا أن التقدير: أن ما يستفاد بالجهاد من نعيم الآخرة خير مما يستفيده القاعد عنه من الراحة والدعة والتنعم بهما، ولذلك قال تعالى: {إن كنتم تعلمون} لأن ما يحصل من الخيرات في الآخرة على الجهاد لا يدرك إلا بالتأمل، ولا يعرفه إلا المؤمن الذي عرف بالدليل أن القول بالقيامة حق، وأن القول بالثواب والعقاب حق وصدق.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
...لما بلغت هذه المواعظ من القلوب الواعية مبلغاً هيأها به للقبول، أقبل عليها سبحانه بالأمر فقال: {انفروا خفافاً وثقالاً} والمراد بالخفة كل ما يكون سبباً لسهولة الجهاد والنشاط إليه، وبالثقل كل ما يحمل على الإبطاء عنه؛ وقال أبو حيان: والخفة والثقل هنا مستعار لمن يمكنه السفر بسهولة ومن يمكنه بصعوبة، وأما من لا يمكنه كالأعمى ونحوه فخارج عن هذا -...
ولما كانت هذه الآية في سياق المعاتبة لمن تثاقل إلى الأرض عن الجهاد عند الاستنفار في غزوة تبوك، وكان سبب التثاقل ما كان في ذلك الوقت من العسرة في المال والشدة بالحر وما كان من طيب الظلال في أراضي الجنان وقت الأخذ في استواء الثمار -كما هو مشهور في السير؛ اقتضى المقام هنا تقديم المال والنفس بخلاف ما مضى فإن الكلام كان في المفاضلة بين الجهاد في سبيل الله وخدمة البيت ومن يحجه في هذه السورة التي صادف وقت نزولها بعد مواطن الجهاد وطول المفارقة للأموال، والأولاد وقدم المال لأن النظر إليه من وجهين: قلته، ومحبة الإقامة في الحدائق إيثاراً للتمتع بها وخوفاً من ضياعها مع أن بها قوام الأنفس، فصار النظر إليها هو الحامل على الشح بالأنفس فقال تعالى: {بأموالكم وأنفسكم} أي بهما معاً على ما أمكنكم أو بأحدهما {في سبيل الله} أي الملك الأعلى أي حتى لا يبقى منه مانع {ذلكم} أي الأمر العظيم {خير} أي في نفسه حاصل {لكم} أي خاص بكم، ويجوز أن يكون أفعل تفضيل بمعنى أن عبادة المجاهد بالجهاد خير من عبادة القاعد بغيره كائناً ما كان، كما قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله: هل يمكن بلوغ درجة المجاهد؟ فقال: هل تستطيع أن تقوم فلا تفتر وتصوم فلا تفطر؟ وختم الآية بقوله: {إن كنتم تعلمون} إشارة إلى أن هذا الأمر وإن كان عاماً فإنما ينتفع به ذوو الأذهان الصافية والمعالم الوافية، فإن العلم- ولا يعد علماً إلا النافع -يحث على العمل وعلى إحسانه بإخلاص النية وتصحيح المقاصد وتقوية العزم وغير ذلك وضده يورث ضده...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... وجه اتصال الآية بما قبلها فهو أنه تعالى لما وبخ الله المؤمنين على التثاقل عن النفر لما استنفرهم الرسول صلى الله عليه وسلم قفى عليه ببيان حكم النفير العام الذي يوجب القتال على كل فرد من الأفراد بما استطاع، ولا يعذر فيه أحد بالتخلف عن الإقدام، وترك طاعة الإمام، فقال: {انفروا خفافا وثقالا} الخِفاف (بالكسر) جمع خفيف والثقال جمع ثقيل. والخفة والثقل يكونان بالأجسام وصفاتها من صحة ومرض، ونحافة وسمن، وشباب وكبر، ونشاط وكسل، ويكونان بالأسباب والأحوال، كالقلة والكثرة في المال والعيال، ووجود الظهر [الراحلة] وعدمه، وثبوت الشواغل وانتفائها. فإذا أعلن النفير العام، وجب الامتثال إلا في حال العجز التام، وهو ما بينه تعالى في الآية 91 من هذا السياق: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله...}، وعذر القسم الثالث مشروط بما إذا لم يجد الإمام أو نائبه ما ينفق عليهم كما ذكر في الآية وستأتي.
وما ورد عن مفسري السلف من تفسير الخفاف والثقال ببعض ما ذكرنا من الكليات فهو للتمثيل لا للحصر...
ومما هو نص في إرادة عموم الأحوال قول أبي أيوب الأنصاري وقد شهد المشاهد كلها إلا غزاة واحدة- قال الله تعالى: {انفروا خفافاً وثقالاً}، فلا أجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً. رواه ابن جرير. وروي عن أبي راشد الحراني قال: وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص وقد فضل عنها من عظمه يريد الغزو فقلت له: قد أعذر الله إليك، فقال أبت علينا سورة البعوث يعني براءة {انفروا خفافاً وثقالاً}. وروي عن حيان بن زيد الشرعبي قال: نفرنا مع صفوان بن عمرو وكان والياً على حمص قبل الأفسوس إلى الجراجمة، فرأيت شيخاً كبيراً همَّا قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار، فقلت: يا عم قد أعذر الله إليك، قال فرفع حاجبيه عن عينيه فقال: يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً، ألا إنه من يحبه الله يبتليه، ثم يعيده فيبقيه، وإنما يبتلي الله من عباده من صبر وشكر وذكر، ولم يعبد إلا الله عز وجل.
أقول: بمثل هذا الفهم للقرآن والاهتداء به فتح سلفنا البلاد، وسادوا العباد، وكانوا خيرا لهم من أبناء جلدتهم، والمشاركين لهم في ملتهم. ولم يبق لأحد من شعوب أمتنا حظ من القرآن إلا تغني بعضهم بتلاوته من غير فهم ولا تدبر، واشتغال آخرين بإعراب جمله ونكت البلاغة في مفرداته وأساليبه من غير علم ولا فقه فيها، ولا فكر ولا تدبر لما أودع من العظات والعبر في مطاويها، فهم يتشدقون بأن {خفافاً وثقالاً} منصوبان على الحال، ولا يرشدون أنفسهم ولا غيرهم إلى ما أوجباه على ذي الحال. وقد يذكر من يسمى الفقيه فيهم ما قيل من أن الآية منسوخة بقوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفردوا كافة} [التوبة:112]، وهو زعم مخالف لما عليه الأئمة كافة، من أنه لا تعارض بين الآيتين كما سيأتي في تفسير الثانية، وبمثل هذا وذاك أضاع المسلمون ملكهم، وصار أكثرهم عبيداً لأعدائهم. ثم بين تعالى ما يجب من هذا النفر بقوله:
{وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} أي وجاهدوا أعداءكم الذين يقاتلون في سبيل الطاغوت من العلو والفساد في الأرض، ببذل أموالكم وأنفسكم في سبيل الله الموصلة إلى الحق وإقامة ميزان العدل. فمن قدر على الجهاد بماله وبنفسه معاً وجب عليه الجهاد بهما، ومن قدر على أحدهما دون الآخر وجب عليه ما كان في قدرته منهما. كان المسلمون في الصدر الأول ينفق كل على نفسه في القتال، ومن كان عنده فضل من المال بذل منه في تجهيز غيره كما فعل عثمان رضي الله عنه في تجهيز جيش العسرة في هذه الغزوة، وكما فعل غيره من أغنياء الصحابة رضي الله عنهم، وهكذا يفعل أهل نجد الآن.
ولما صار بيت المال غنياً بكثرة الغنائم صار الأئمة والسلاطين يجهزون الجيش من بيت المال، وأئمة اليمن يدخرون المال لأجل القتال، وينفقون على طائفة من الناس طول السنة لتكون مستعدة للقتال كلما استنفرت له. والدول المنظمة تقرر في كل عام مبلغاً معيناً من المال في ميزانية الدولة للنفقات الحربية من برية وبحرية وهوائية. وإذا وقعت الحرب يزيدون في هذه المبالغ، ويجددون لها كثيراً من الضرائب، بل يجعلون جميع أموال الدولة والأمة ومصالحها ومرافقها تحت نفوذ قواد الحرب يتصرفون فيها بالنظام لا بالاستبداد، والمسلمون أولى منهم بكل ما ذكر.
{ذلكم خير لكم} أي ذلكم الذي أمرتم به من النفر والجهاد الذي هو أبعد مرامي الأمم في حفظ حقيقتها، وعلو كلمتها، وتقرير سياستها خير لكم في دنياكم وآخرتكم، أي خير في نفسه بصرف النظر عن مقابله، أو خير من القعود والبخل عنه، أما الدنيا فلا حياة للأمم فيها ولا عز ولا سيادة إلا بالقوة الحربية، والقعود عن القتال عند الحاجة إليه يغري الأعداء بالقاعدين العاجزين، وحب الراحة يجلب التعب، وأما الآخرة فلا سعادة فيها إلا لمن ينصر الحق، ويقيم العدل، ويتحلى بالفضائل، ويتخلى عن الرذائل، باتباع الدين القويم، والعمل بالشرع العادل الحكيم. ولا يمكن هذا كله إلا باستقلال الأمة بنفسها، وقدرتها على حفظ سيادتها وسلطاتها بقوتها، كما تقدم تفصيله في تفسير الآيات الكثيرة من سورة الأنفال ولا سيما {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} [الأنفال: 60] وفي أوائل هذه السورة.
{إن كنتم تعلمون} أي إن كنتم تعلمون حقية هذه الخيرية علما إذعانيا يبعث على العمل. وجواب إن محذوف دل عليه ما قبله، أي يكن خيراً لكم، ويقدره بعضهم أمراً بالامتثال، أي فانفروا وجاهدوا. وقد علم تلك الخيرية وامتثل هذا الأمر المؤمنون الصادقون، واستأذن بعض المنافقين النبي صلى الله عليه وسلم في التخلف فأذن لهم على ضعف أعذارهم، وتخلف منهم ومن المؤمنين أناس آخرون فأنزل الله في الجميع الآيات الآتية في أثناء السفر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي ظلال هذا المثل الواقع المؤثر يدعوهم إلى النفرة العامة، لا يعوقهم معوق. ولا يقعد بهم طارئ، إن كانوا يريدون لأنفسهم الخير في هذه الأرض وفي الدار الاخرة: (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله. ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون).. انفروا في كل حال، وجاهدوا بالنفوس والأموال، ولا تتلمسوا الحجج والمعاذير، ولا تخضعوا للعوائق والتعلات. (ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون). وأدرك المؤمنون المخلصون هذا الخير، فنفروا والعوائق في طريقهم، والأعذار حاضرة لو أرادوا التمسك بالأعذار. ففتح اللّه عليهم القلوب والأرضين، وأعز بهم كلمة اللّه، وأعزهم بكلمة اللّه، وحقق على أيديهم ما يعد خارقة في تاريخ الفتوح. قرأ أبو طلحة -رضي اللّه عنه- سورة براءة فأتى على هذه الآية فقال: أرى ربنا استنفرنا شيوخاً وشباناً، جهزوني يا بني. فقال بنوه: يرحمك اللّه قد غزوت مع رسول اللّه [ص] وعلى آله وسلم حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك. فأبى فركب البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد تسعة أيام، فلم يتغير، فدفنوه بها...
ألا إنه من يحبه اللّه يبتليه، ثم يعيده فيبقيه، وإنما يبتلي اللّه من عباده من شكر وصبر وذكر، ولم يعبد إلا اللّه عز وجل. وبمثل هذا الجد في أخذ كلمات اللّه انطلق الإسلام في الأرض، يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة اللّه وحده، وتمت تلك الخارقة في تلك الفتوح التحريرية الفريدة...
وهكذا يفتح الحق باب الوصول إليه؛ ليهبّوا إلى نصرة الرسول ويزيل الضباب من أذهانهم، ويفتح لهم باب الوصول إليه لأنهم خلق الله وعياله، فهو سبحانه يريد منهم أن يكونوا جميعا مهديين، وأن يشاركوا في نُصرة الدعوة إليه. والقتال في سبيل الله قد يكون مشقة في ظاهر الأمر، ولكنه يَهَبُ الدعوة انتشارا واستقرارا. وحين يقوم المسلمون بنصر الدعوة إلى الله، ففي هذا القيام مغفرة وتوبة، وهو رحمة من الله بهم...
وبعد أن لام الحق سبحانه المسلمين، لأنهم لم يتحمسوا للجهاد، يفتح أمامهم باب التوبة فقال: {انفروا} أي: اخرجوا للقتال، وهذا أمر من الله يوقظ به سبحانه الإيمان في قلوب المسلمين، وفي الوقت نفسه يفتح أمامهم باب التوبة لتباطئهم عن الخروج للقتال في غزوة تبوك. ولذلك قال {انفروا خفافا وثقالا}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
الدعوة إلى النفور خفافاً وثقالاً:
ويعود النداء الإلهي من جديد، ليستحثهم ويحرّك فيهم إرادة الجهاد من خلال إرادة الإيمان الحي في نفوسهم، فماذا ينتظر المؤمن أمام نداء الله إلا أن يستجيب له، لأن في ذلك الخير كل الخير، والنجاح كل النجاح، لو وعى الإنسان حقيقة الموقف وحقيقة الإيمان. نداء النفير العام {انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً} لأن القضيّة ليست في ما ترزحون تحته من أثقال المسؤوليات الحياتية أو في ما تملكونه من حرية الحركة من خلال الحمل الخفيف الذي تتحرك فيه مسؤوليتكم، فإن الأمر في الحالتين سواء، فلا عذر لمن يتمكن من الخروج ولا يخرج للجهاد الذي يمثل قصة المصير في حركة الإسلام في الحياة، إن النداء يشبه الدعوة إلى النفير العام على كلّ حالٍ، بعيداً عن الظروف المعوّقة أو المنشّطة.. {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ} وذلك بأن تقدّموا للمعركة من أموالكم المقدار الذي تحتاجه مما يمكنكم بذله، فذلك هو لونٌ من ألوان الجهاد، في ما يمثّله من تضحيةٍ وجهدٍ ومشقّةٍ وتعب {وَأَنفُسِكُمْ} وذلك بأن تقفوا في خطّ المواجهة في المعركة، لتقاتلوا ولتقتحموا على العدوّ ساحته وتواجهوا الخطر كله {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لأنكم مدعوّون إلى القتال من أجل حماية الإسلام والمسلمين من كل التحديات التي يوجهها إليهم الكفر كله، والشرك كله. فأنتم في سبيل من سُبُل الله، وبذلك فإن أجركم يقع على الله إن بقيتم على الحياة أو متُّم {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} من الاسترخاء في ظلال الكسل وحب الراحة والبعد عن المسؤوليّة، لأن ذلك لن ينقذكم من المشاكل الصعبة التي يفرضها عليكم الذلّ في حالة السلم من قِبَل الأعداء، إذا تخلصتم من مشاكل الحرب، {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} وتعون دقّة المرحلة من خلال ما تفرضه من مجابهةٍ ورقابةٍ ومحاسبةٍ ودراسةٍ للوضع كله بعيداً عن حالات التشنّج والحيرة والضياع...