{ 66 - 67 ْ } { أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَْ }
يخبر تعالى : أن له ما في السماوات والأرض ، خلقًا وملكًا وعبيدًا ، يتصرف فيهم بما شاء{[406]} من أحكامه ، فالجميع مماليك لله ، مسخرون ، مدبرون ، لا يستحقون شيئًا من العبادة ، وليسوا شركاء لله بوجه الوجوه ، ولهذا قال : { وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ْ } الذي لا يغني من الحق شيئًا { وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ْ } في ذلك ، خرص كذب وإفك وبهتان .
فإن كانوا صادقين في أنها شركاء لله ، فليظهروا من أوصافها ما تستحق به مثقال ذرة من العبادة ، فلن يستطيعوا ، فهل منهم أحد يخلق شيئًا أو يرزق ، أو يملك شيئًا من المخلوقات ، أو يدبر الليل والنهار ، الذي جعله الله قياما للناس ؟ .
ثم قال - تعالى - { ألا إِنَّ للَّهِ مَن في السماوات وَمَنْ في الأرض } أى : ألا إن لله وحده ملك جميع من في السموات ومن في الأرض من إنس وجن وملائكة .
وجاء التعبير القرآني هنا بلفظ { من } الشائع في العقلاء ، للإِيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بغيرهم ، لأنهم إذا كانوا مع شرفهم وعلو منزلتهم مملوكين لله - تعالى - كان غيرهم ممن لا يعقل أولى بذلك .
قال صاحب الكشاف قوله : { ألا إِنَّ للَّهِ مَن في السماوات وَمَنْ في الأرض } يعني العقلاء المميزين وهم الملائكة والثقلان ، وإنما خصهم بالذكر ليؤذن أن هؤلاء إذا كانوا له وفى ملكه ، فهم عبيد كلهم ، وهو - سبحانه - ربهم ، ولا يصلح أحد منهم للربوبية ، ولا أن يكون شريكاً له فيها ، فما وراءهم مما لا يعقل أحق أن لا يكون له ندا وشريكاً ، وليدل على أن من اتخذ غيره ربا من ملك أو إنس ، فضلاً عن صنم أو غير ذلك ، فهو مبطل تابع لما أدى إليه التقليد وترك النظر .
وقوله : { وَمَا يَتَّبِعُ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله شُرَكَآءَ } .
أى : وما يتبع هؤلاء المشركون في عبادتهم لغير الله شركاء في الحقيقة ، وإنما يتبعون أشياء أخرى سموها من عند أنفسهم شركاء جهلا منهم ، لأن الله - تعالى - تنزه وتقدس عن أن يكون له شريك أو شركاء في ملكه أو في عبادته .
وعلى هذا التفسير تكون { ما } في قوله { وَمَا يَتَّبِعُ } نافية ، وقوله { شُرَكَآءَ } مفعول يتبع ، ومفعول يدعون محذوف لدلالة ما قبله عليه ، أى : وما يتبع الين يدعون من دون الله آلهة شركاء .
ويجوز أن تكون { ما } استفهامية منصوبة بقوله { يتبع } ، ويكون قوله { شُرَكَآءَ } منصوب بقوله { يَدْعُونَ } وعليه يكون المعنى .
أي شيء يتبع هؤلاء المشركون في عبادتهم ؟ إنهم يعبدون شركاء سموهم بهذا الاسم من عند أنفسهم ، أما هم في الحقيقة فلا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا .
وقوله : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } أى : ما يتبعون في عبادتهم لغير الله إلا الظن الذي لا يغني عن الحق شيئاً ، وإلا الخرص المبني على الوهم الكاذب ، والتقدير الباطل .
وأصل الخرص : الحزر والتقدير للشيء على سبيل الظن لا على سبيل الحقيقة .
قال الراغب : وحقيقة ذلك أن كل قول مقول عن ظن وتخمين يقال له خرص ، سواء أكان مطابقاً للشيء أو مخالفاً له ، من حيث إن صاحبه لم يقله عن علم ولا غلبة ظن ولا سماع ، بل اعتمد فيه على الظن والتخمين كفعل الخارص في خرصه - أى : كفعل من يخرص الثمرعلى الشجر - وكل من قال قولاً على هذا النحو قد يسمى كاذباً وإن كان قوله مطابقاً للمقول المخبر عنه .
وقيل : الخرص : الكذب كما في قوله - تعالى - { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } أي يكذبون .
وفي ملك يده كل من في السماوات وكل من في الأرض من إنس وجن وملائكة ، وفي عصاة وتقاة ، فكل ذي قوة من خلقه داخل في سلطانه وملكه :
( ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض ) . .
وهذه حكمة ذكر( من )هنا لا " ما " لأن المقصود إثبات أن الأقوياء كالضعفاء كلهم في ملك يده سواء . فالسياق جار فيها مجراه .
( وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ) . .
فهؤلاء الشركاء الموهومون ليسوا في حقيقتهم شركاء لله في شيء ؛ وعبادهم ليسوا على يقين مما يزعمون لهم من شركة :
ثم أخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض ، وأن المشركين يعبدون الأصنام ، وهي لا تملك شيئا ، لا{[14329]} ضرًا ولا نفعا ، ولا دليل لهم على عبادتها ، بل إنما يتبعون في ذلك ظنونهم وتخرصهم وكذبهم وإفكهم .
{ ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض } من الملائكة والثقلين ، وإذا كان هؤلاء الذين هم أشرف الممكنات عبيدا لا يصلح أحد منهم للربوبية فما لا يعقل منها أحق أن لا يكون له ندا أو شريكا فهو كالدليل على قوله : { وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء } أي شركاء على الحقيقة وإن كان يسمونها شركاء ، ويجوز أن يكون { شركاء } مفعول { يدعون } ومفعول { يتبع } محذوف دل عليه . { إن يتّبعون إلا الظن } أي ما يتبعون يقينا وإنما يتبعون ظنهم أنها شركاء ، ويجوز أن تكون { ما } استفهامية منصوبة ب { يتبع } أو موصولة معطوفة على من وقرئ " تدعون " بالتاء الخاطبية والمعنى : أي شيء يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين ، أي أنهم لا يتبعون إلا الله ولا يعبدون غيره فما لكم لا تتبعونهم فيه كقوله : { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة } فيكون إلزاما بعد برهان وما بعده مصروف عن خطابهم لبيان سندهم ومنشأ رأيهم . { وإن هم إلا يخرُصون } يكذبون فيما ينسبون إلى الله أو يحزرون ويقدرون أنها شركاء تقديرا باطلا .
ثم استفتح بقوله { ألا إن لله من في السماوات والأرض } أي بالملك والإحاطة ، وغلب من يعقل في قوله { من } إذ له ملك الجميع ما فيها ومن فيها ، وإذا جاءت العبارة ب «ما » فذلك تغليب للكثرة إذ الأكثر عدداً من المخلوقات لا يعقل ، ف { من } تقع للصنفين بمجموعهما ، «وما » كذلك « ، ولا تقع لما يعقل إذا تجرد من أن تقول : ما قائل هذا القول ؟ هذا ما يتقلده من يفهم كلام العرب ، وقوله { وما يتبع } يصح أن تكون { ما } استفهاماً بمعنى التقرير وتوقيف نظر المخاطب ، ويعمل { يدعون } في قوله { شركاء } ويصح أن تكون نافية ويعمل { يتبع } في { شركاء } على معنى أنهم لا يتبعون شركاء حقاً ، ويكون مفعول { يدعون } محذوفا ، وفي هذا الوجه عندي تكلف{[6159]} . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : [ تدعون ] بالتاء ، وهي قراءة غير متجهة{[6160]} ، وقوله وقوله { إن } نافية و { يخرصون } معناه يحدسون ويخمنون لا يقولون بقياس ولا نظر ، وقرأت فرقة » ولا يُحزنك «من أحزن ، وقرأت فرقة » ولا يَحزنك «من حزن .
المقصود بتوجيه هذا الكلام هم المشركون لتأييسهم من كل احتمال لانتصارهم على النَّبيء عليه الصلاة والسلام والمسلمين ، فإن كثيراً منهم حين يفهم ما في الآيات الخمس السَّابقة من قوله : { وما تكون في شأن } [ يونس : 61 ] إلى هنا من التصريح بهوان ، شأنهم عند الله وعند رسوله ومن التعريض باقتراب حلول الغلبة عليهم يخامرهم بعض الشك في صدق الرسول وأنّ ما توعَّدهم به حق ، ثمّ يغالطون أنفسهم ويسلون قلوبهم بأنَّه إن تحقَّق ذلك سيجدون من آلهتهم وساطة في دفع الضر عنهم ويقولون في أنفسهم : لمثل هذا عبدناهم ، وللشَّفاعة عند الله أعددناهم ، فسيق هذا الكلام لقطع رجائهم منهم بالاستدلال على أنَّهم دون ما يظن بهم .
فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ومناسبة وقوعها عقب جملة { ولا يحزنك قولهم } [ يونس : 65 ] أن أقوالهم دحضت بمضمون هذه الجملة . وأما وقوعها عقب جملة { إن العزة لله جميعاً } [ يونس : 65 ] فلأنها حجَّة على أنّ العزّة لله لأنّ الذي له من في السماوات ومن في الأرض تكون له العزّة الحق .
وافتتاح الجملة بحرف التنبيه مقصود منه إظهار أهميَّة العلم بمضمونها وتحقيقه ولذلك عقب بحرف التأكيد ، وزيد ذلك تأكيداً بتقديم الخبر في قوله : { لله من في السماوات ومن في الأرض } وباجتلاب لام الملك .
و { مَنْ } الموصولة شأنها أن تطلق على العقلاء وجيء بها هنا مع أن المقصد الأوّل إثبات أنّ آلهتهم ملك لله تعالى ، وهي جمادات غير عاقلة ، تغليباً ولاعتقادهم تلك الآلهة عقلاء وهذا من مجاراة الخصم في المناظرة لإلزامه بنهوض الحجَّة عليه حتَّى على لازم اعتقاده . والحكم بكون الموجودات العاقلة في السماوات والأرض ملكاً لله تعالى يفيد بالأحرى أن تلك الحجارة ملك الله لأن من يملك الأقوى أقدر على أن يملك الأضعف فإن من العرب من عَبَد الملائكة ، ومنهم من عبدوا المسيح ، وهم نصارى العرب .
وذكر السماوات والأرض لاستيعاب أمكنة الموجودات فكأنه قيل : ألا إنّ لله جميع الموجودات .
وجملة : { وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء } الخ معطوفة على جملة : { لله من في السماوات ومن في الأرض } . وهي كالنتيجة للجملة الأولى إذ المعنى أن جميع الموجودات ملك لله ، واتّباع المشركين أصنامهم اتباع خاطئ باطل .
و ( ما ) نافية لا محالة ، بقرينة تأكيدها ب ( إنْ ) النَّافية ، وإيراد الاستثناء بعدهما . و { شركاء } مفعول { يدْعون } الذي هو صلة { الذين } .
وجملة : { إن يتبعون } تَوكيدٌ لَفظي لجملة { ما يتبع الذين يدعون } وأعيد مضمونها قضاء لحق الفصاحة حيث حصل من البعد بين المستثنى والمستثنى منه بسبب الصلة الطويلة ما يشبه التعقيد اللفظي وذلك لا يليق بأفصح كلام مع إفادة تلك الإعادة مفاد التأكيد لأن المقام يقتضي الإمعان في إثبات الغرض .
و { الظن } مفعول لِكلا فعلي { يتَّبعُ ، ويتْبعون } فإنهما كفعل واحد . وليس هذا من التنازع لأن فعل التوكيد اللفظي لا يطلب عملاً لأن المقصود منه تكرير اللفظ دون العمل فالتقدير : وما يتبع المشركون إلا الظنّ وإن هم إلا يخرصون .
والظنُّ : هنا اسم منزل منزلة اللازم لم يقصد تعليقه بمظنون معين ، أي شأنهم اتباع الظنون . والمراد بالظن هنا العلم المخطئ .
وقد بينت الجملة التي بعدها أنّ ظنهم لا دليل عليه بقوله : { وإن هم إلا يخرصون } .
والخرْص : القول بالحزر والتخمين . وتقدّم نظير هذه الآية في سورة الأنعام ( 116 ) وهو قوله : { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلاّ الظنّ وإن هم إلا يخرصون . }