{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
أي : كل أهل دين وملة ، له وجهة يتوجه إليها في عبادته ، وليس الشأن في استقبال القبلة ، فإنه من الشرائع التي تتغير بها الأزمنة والأحوال ، ويدخلها النسخ والنقل ، من جهة إلى جهة ، ولكن الشأن كل الشأن ، في امتثال طاعة الله ، والتقرب إليه ، وطلب الزلفى عنده ، فهذا هو عنوان السعادة ومنشور الولاية ، وهو الذي إذا لم تتصف به النفوس ، حصلت لها خسارة الدنيا والآخرة ، كما أنها إذا اتصفت به فهي الرابحة على الحقيقة ، وهذا أمر متفق عليه في جميع الشرائع ، وهو الذي خلق الله له الخلق ، وأمرهم به .
والأمر بالاستباق إلى الخيرات قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات ، فإن الاستباق إليها ، يتضمن فعلها ، وتكميلها ، وإيقاعها على أكمل الأحوال ، والمبادرة إليها ، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات ، فهو السابق في الآخرة إلى الجنات ، فالسابقون أعلى الخلق درجة ، والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل ، من صلاة ، وصيام ، وزكوات{[106]} وحج ، عمرة ، وجهاد ، ونفع متعد وقاصر .
ولما كان أقوى ما يحث النفوس على المسارعة إلى الخير ، وينشطها ، ما رتب الله عليها من الثواب قال : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فيجمعكم ليوم القيامة بقدرته ، فيجازي كل عامل بعمله { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى }
ويستدل بهذه الآية الشريفة على الإتيان بكل فضيلة يتصف بها العمل ، كالصلاة في أول وقتها ، والمبادرة إلى إبراء الذمة ، من الصيام ، والحج ، والعمرة ، وإخراج الزكاة ، والإتيان بسنن العبادات وآدابها ، فلله ما أجمعها وأنفعها من آية " .
ثم قال تعالى : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فاستبقوا الخيرات } .
أي : ولكل أهل ملة قبله يتجهون إليها في عباداتهم ، فسارعوا أنتم جهدكم إلى ما اختاره الله لكم من الأعمال التي تكسبكم سعادة الدارين ، والتي من جملتها التوجه إلى البيت الحرام .
ثم ساق الله - تعالى - وعداً لمن يطيع أمره ، ووعيداً لمن ينصر عن الخير . فقال - تعالى - : { أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعاً } .
أي : في أي بقعة يدرككم الأجل ، وتموتون فيها ، يجمعكم الله - تعالى - يوم القيامة .
لتقفوا بين يديه للحساب ، لأنه - سبحانه - قادر على جمعكم بعد مماتكم من قبوركم حيث كنتم ، وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم ، كما أنه - سبحانه - قدير على كل شيء ، وما دام الأمر كذلك ، فبادروا بالأعمال الصالحة شكراً لربكم ، وحافظوا على قبلتكم ، حتى لا تضلوا كما ضل اليهود ومن على طريقتهم في الكفر والعناد .
ونعود إلى السياق فنراه يصرف المسلمين عن الاستماع لأهل الكتاب والانشغال بتوجيهاتهم ، ويوحي إليهم بالاستقامة على طريقهم الخاص ووجهتهم الخاصة . فلكل فريق وجهته ، وليستبق المسلمون إلى الخير لا يشغلهم عنه شاغل ، ومصيرهم جميعا إلى الله القادر على جمعهم وعلى مجازاتهم في نهاية المطاف :
( ولكل وجهة هو موليها ، فاستبقوا الخيرات ، أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا ، إن الله على كل شيء قدير ) . .
وبهذا يصرف الله المسلمين عن الإنشغال بما يبثه أهل الكتاب من دسائس وفتن وتأويلات وأقاويل . . يصرفهم إلى العمل والاستباق إلى الخيرات . مع تذكر أن مرجعهم إلى الله ، وأن الله قدير على كل شيء ، لا يعجزه أمر ، ولا يفوته شيء .
قال العوفي ، عن ابن عباس : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } يعني بذلك : أهل الأديان ، يقول : لكل قبلة يرضونها ، ووجهة الله حيث توجه المؤمنون .
وقال أبو العالية : لليهودي وجهة هو موليها ، وللنصراني وجهة هو موليها ، وهَداكم أنتم أيتها الأمة [ الموقنون ]{[2955]} للقبلة التي هي القبلة . وروي عن مجاهد ، وعطاء ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، والسدي نحو هذا .
وقال مجاهد في الرواية الأخرى : ولكن أمَرَ كلَّ قوم أن يصلوا إلى الكعبة .
وقرأ ابن عباس ، وأبو جعفر الباقر ، وابن عامر : " ولكلٍ وجهة هو مُوَلاها " .
وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا } [ المائدة : 48 ] .
وقال هاهنا : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : هو قادر على جمعكم من الأرض ، وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم .
{ ولكل وجهة } ولكل أمة قبلة ، أو لكل قوم من المسلمين جهة وجانب من الكعبة ، والتنوين بدل الإضافة { هو موليها } أحد المفعولين محذوف ، أي هو موليها وجهه ، أو الله تعالى موليها إياه . وقرئ : { ولكل وجهة } بالإضافة ، والمعنى وكل وجهة الله موليها أهلها ، واللام مزيدة للتأكيد جبرا لضعف العامل . وقرأ ابن عامر : " مولاها " أي هو مولى تلك الجهة أي قد وليها { فاستبقوا الخيرات } من أمر القبلة وغيره مما ينال به سعادة الدارين ، أو الفاضلات من الجهات وهي المسامتة للكعبة { أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا } أي : في أي موضع تكونوا من موافق ومخالف مجتمع الأجزاء ومفترقها ، يحشركم الله إلى المحشر للجزاء ، أو أينما تكونوا من أعماق الأرض وقلل الجبال ، يقبض أرواحكم ، أو أينما تكونوا من الجهات المتقابلة ، يأت بكم الله جميعا ويجعل صلواتكم كأنها إلى جهة واحدة . { إن الله على كل شيء قدير } فيقدر على الأماتة والإحياء والجمع .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.