{ 113 - 114 } { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ }
يعني : ما يليق ولا يحسن للنبي وللمؤمنين به { أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ْ } أي : لمن كفر به ، وعبد معه غيره { وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ْ } فإن الاستغفار لهم في هذه الحال غلط غير مفيد ، فلا يليق بالنبي والمؤمنين ، لأنهم إذا ماتوا على الشرك ، أو علم أنهم يموتون عليه ، فقد حقت عليهم كلمة العذاب ، ووجب عليهم الخلود في النار ، ولم تنفع فيهم شفاعة الشافعين ، ولا استغفار المستغفرين .
ثم بين - سبحانه - أنه لا يصح للنبى - صلى الله عليه وسلم - ولا للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين مهما بلغت درجة قرابتهم ، لأن رابطة العقيدة هي الوشيجة الأساسية فيما بينهم فقال - تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ . . . . مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } .
قال الفخر الرازى : اعلم أنه - تعالى - لما بين من أول هذه السورة إلى هذا الموضوع وجوب إظهر البراءة عن الكفار والمنافقين من جميع الوجوه ، بين في هذه الآية أنه تجب البراءة عن أمواتهم وإن كانوا في غاية القرب من الإِنسان ، كما أوجبت البراءة عن أحيائهم ، والمقصود منه بيان وجوب مقاطعتهم على أقصى الغايات ، والمنع من مواصلتهم بسبب الأسباب .
والمعنى : ما كان من شأن النبى - صلى الله عليه وسلم - ولا من شأن أصحابه المؤمنين ، أن يدعوا الله - تعالى - بأن يغفر للمشركين في حال من الأحوال ، ولو كان هؤلاء المشركون من أقرب أقربائهم { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ } أى : للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه ، أن هؤلاء المشركين من أصحاب الجحيم ، بسبب موتهم على الكفر ، وإصرارهم عليه ، وعدم اعترافهم بدين الإِسلام .
قال الآلوسى ما ملخصه : والآية على الصحيح " نزلت في أبى طالب ، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن المسيب بن حزن قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة ، دخل عليه النبى - صلى الله عليه وسلم - وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبى أمية فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - أى عم ، قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله . فقال أبو جهل يا أبا طالب أترغب من ملة عبد المطلب ؟ فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه . وأبو جهل وعبد الله بن أمية يعاودانه بتلك المقالة . فقال ابو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول : لا إله إلا الله . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأستغفرون لك ما لم أنْهَ عن ذلك فنزلت : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } الآية " .
ثم قال . واستبعد بعضهم ذلك ، لأن موت أبى طالب كان قبل الهجرة بثلاث سنين ، وهذه السورة من أواخر ما نزل بالمدينة .
وهذا الاستبعاد مستبعد ، لأنه لا بأس من أن يقال : كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يستغفر لأبى طالب من ذلك الوقت إلى وقت نزول هذه الآية وعليه فلا يراد من قوله " فنزلت " في الخبر أن النزول كان عقيب القول بل يراد أن ذلك سبب النزول فحسب . فتكون الفاء للسببية لا للتعقيب .
وقال القرطبى : هذه الآية تضمنت قطع موالاة الكفار حيهم وميتهم ، فإن الله لم يجعل للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين . فطلب الغفران للمشرك مما لا يجوز ، وقال كثير من العلماء . بأنه لا بأس أن يدعو الرجل لأبويه الكافرين ما داما حيين ، فأما من مات على الكفر فقد انقطع عنه الرجاء فلا يدعى له .
والمؤمنون الذين اشترى اللّه منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، أمة وحدهم ، العقيدة في اللّه بينهم هي وشيجة الارتباط والتجمع الوحيدة . وهذه السورة التي تقرر العلاقات الأخيرة بين الجماعة المسلمة ومن عداها ، تحسم في شأن العلاقات التي لا تقوم على هذه الوشيجة . وبخاصة بعد ذلك التخلخل الذي أنشأه التوسع الأفقي الشديد في المجتمع المسلم عقب فتح مكة ، ودخول أفواج كثيرة في الإسلام لم يتم انطباعها بطابعه ؛ وما تزال علاقات القربى عميقة الجذور في حياتها . والآيات التالية تقطع ما بين المؤمنين الذين باعوا تلك البيعة وبين من لم يدخلوا معهم فيها - ولو كانوا أولي قربى - بعد ما اختلفت الوجهتان واختلفت العاقبتان في الدنيا والآخرة :
( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين - ولو كانوا أولي قربى - من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم . وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه ، فلما تبين له أنه عدو للّه تبرأ منه ، إن إبراهيم لأواه حليم . وما كان اللّه ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ، إن اللّه بكل شيء عليم . إن اللّه له ملك السماوات والأرض ، يحيي ويميت ، وما لكم من دون اللّه من ولي ولا نصير )
والظاهر أن بعض المسلمين كانوا يستغفرون لآبائهم المشركين ويطلبون إلى رسول اللّه - [ ص ] - أن يستغفر لهم ؛ فنزلت الآيات تقرر أن في هذا الاستغفار بقية من تعلق بقرابات الدم ، في غير صلة باللّه ، لذلك ما كان للنبي والذين آمنوا أن يفعلوه . . ما كان لهم قطعاً وليس من شأنهم أصلاً . . أما كيف يتبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ، فالأرجح أن يكون ذلك بموتهم على الشرك ، وانقطاع الرجاء من أن تكون لهم هداية إلى الإيمان .
إن العقيدة هي العروة الكبرى التي تلتقي فيها سائر الأواصر البشرية والعلاقات الإنسانية . فإذا انبتَّت وشيجة العقيدة انبتَّت الأواصر الأخرى من جذورها ، فلا لقاء بعد ذلك في نسب ، ولا لقاء بعد ذلك في صهر . ولا لقاء بعد ذلك في قوم . ولا لقاء بعد ذلك في أرض . . إما إيمان باللّه فالوشيجة الكبرى موصولة ، والوشائج الأخرى كلها تنبع منها وتلتقي بها . أو لا إيمان فلا صلة إذن يمكن أن تقوم بين إنسان وإنسان :
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبيه قال : لما حَضَرت أبا طالب الوفاة{[13898]} دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل ، وعبد الله بن أبي أمية ، فقال : " أيْ عَمّ ، قل : لا إله إلا الله . كلمة أحاجّ لك بها عند الله ، عز وجل " . فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب ، أترغب عن ملَّة عبد المطلب ؟ [ قال : فلم يزالا يكلمانه ، حتى قال آخر شيء كلمهم به : على{[13899]} ملة عبد المطلب ] . {[13900]} فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك " . فنزلت : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } قال : ونزلت فيه : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] أخرجاه . {[13901]} وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، أخبرنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الخليل ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : سمعت رجلا يستغفر لأبويه ، وهما مشركان ، فقلت : أيستغفر الرجل لأبويه وهما مشركان ؟ فقال : أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه ؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } إلى قوله : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ } قال : " لما مات " ، فلا أدري قاله سفيان أو قاله إسرائيل ، أو هو{[13902]} في الحديث " لما مات " . {[13903]} قلت هذا ثابت عن مجاهد أنه قال : لما مات .
وقال الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا زهير ، حدثنا زبيد بن الحارث اليامي{[13904]} عن محارب بن دثار ، عن ابن بُرَيْدة ، عن أبيه قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب ، فصلى ركعتين ، ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تَذْرِفان ، فقام إليه عمر بن الخطاب وفَداه بالأب والأم ، وقال : يا رسول الله ، ما لك ؟ قال : " إني سألت ربي ، عز وجل ، في الاستغفار لأمي ، فلم يأذن لي ، فدمعت عيناي رحمة لها من النار ، وإني كنت نهيتكم عن ثلاث : نهيتكم عن زيارة القبور
فزوروها ، لتذكركم زيارتُها خيرًا ، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث ، فكلوا وأمسكوا ما شئتم ، ونهيتكم عن الأشربة في الأوعية ، فاشربوا في أي وعاء{[13905]} ولا تشربوا مسكرا " . {[13906]} وروى ابن جرير ، من حديث علقمة بن مَرْثد ، عن سليمان بن بُرَيدة ، عن أبيه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى رَسْمَ قبر ، فجلس إليه ، فجعل يخاطب ، ثم قام مستعبرًا . فقلنا : يا رسول الله ، إنا رابنا ما صنعت . قال : " إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي ، فأذن لي ، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي " . فما رئي باكيا أكثر من يومئذ . {[13907]} وقال ابن أبي حاتم ، في تفسيره : حدثنا أبي ، حدثنا خالد بن خِداش ، حدثنا عبد الله بن وهب ، عن ابن جرَيج عن أيوب بن هانئ ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود قال : خرجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما إلى المقابر ، فاتبعناه ، فجاء حتى جلس إلى قبر منها ، فناجاه طويلا ثم بكى فبكينا لبكائه ثم قام فقام إليه عمر بن الخطاب ، فدعاه ثم دعانا ، فقال : " ما أبكاكم ؟ " فقلنا : بكينا لبكائك . قال : " إن القبر الذي جلستُ عنده قبر آمنة ، وإني استأذنتُ ربي في زيارتها فأذن لي " {[13908]} ثم أورده من وجه آخر ، ثم ذكر من حديث ابن مسعود قريبا منه ، وفيه : " وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي ، وأنزل علي : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى } فأخذني ما يأخذ الولد للوالدة ، وكنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، فإنها تذكر الآخرة " . {[13909]} حديث آخر في معناه : قال الطبراني : حدثنا محمد بن علي المروزي ، حدثنا أبو الدرداء عبد العزيز{[13910]} بن منيب ، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن كَيْسَان ، عن أبيه ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقبل من غزوة تبوك واعتمر ، فلما هبط من ثنية عُسْفان أمر أصحابه : أن استندوا إلى العقبة حتى أرجع إليكم ، فذهب فنزل على قبر أمّه ، فناجى ربَّه طويلا ثم إنه بكى فاشتد بكاؤه ، وبكى هؤلاء لبكائه ، وقالوا : ما بكى نبي الله بهذا المكان إلا وقد أُحدثَ في أمته شيء لا تُطيقه . فلما بكى هؤلاء قام فرجع إليهم ، فقال : " ما يبكيكم ؟ " . قالوا : يا نبي الله ، بكينا لبكائك ، فقلنا : لعله أحدث في أمتك شيء لا تطيقه ، قال : " لا وقد كان بعضه ، ولكن نزلت على قبر أمي فدعوت الله أن يأذن لي في شفاعتها يوم القيامة ، فأبى الله أن يأذن لي ، فرحمتها وهي أمّي ، فبكيت ، ثم جاءني جبريل فقال : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } فتبرّأ أنت من أمك ، كما تبرأ إبراهيم من أبيه ، فرحمْتُها وهي أمي ، ودعوت ربي أن يرفع عن أمتي أربعًا ، فرفع عنهم اثنتين ، وأبى أن يرفع عنهم اثنتين : دعوتُ ربي أن يرفع عنهم الرجم من السماء والغَرَق من الأرض ، وألا يلبسهم شيعا ، وألا يذيق بعضهم بأس بعض ، فرفع الله عنهم الرجم من السماء ، والغرق من الأرض ، وأبى الله أن يرفع عنهم القتل والهرج " . وإنما عدل إلى قبر أمه لأنها كانت مدفونة تحت كَداء{[13911]} وكانت عُسْفان لهم . {[13912]} وهذا حديث غريب وسياق عجيب ، وأغرب منه وأشد نكارة ما رواه الخطيب البغدادي في كتاب " السابق واللاحق " بسند مجهول ، عن عائشة في حديث فيه قصة أن الله أحيا أمَّه فآمنت ثم عادت . {[13913]} وكذلك ما رواه السهيلي في " الروض " بسند فيه جَمَاعة مجهولون : أن الله أحيا له أباه وأمه{[13914]} فآمنا به . {[13915]} وقد قال الحافظ ابن دِحْيَةَ : [ هذا الحديث موضوع يرده القرآن والإجماع ، قال الله تعالى : { وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } [ النساء : 18 ] . وقال أبو عبد الله القرطبي : إن مقتضى هذا الحديث . . . وردَّ عَلَى ابن دِحية ]{[13916]} في هذا الاستدلال بما حاصله : أن هذه حياة جديدة ، كما رجعت الشمس بعد غيبوبتها فصلى عَلِيٌّ العصر ، قال الطحاوي : وهو [ حديث ]{[13917]} ثابت ، يعني : حديث الشمس .
قال القرطبي : فليس إحياؤهما يمتنع عقلا ولا شرعا ، قال : وقد سمعت أن الله أحيا عمه أبا طالب ، فآمن به . {[13918]}
قلت : وهذا كله متوقف على صحة الحديث ، فإذا صح فلا مانع منه{[13919]} والله أعلم .
وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } الآية ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأمه ، فنهاه الله عن ذلك{[13920]} فقال : " فإنّ إبراهيم خليل الله استغفر لأبيه " ، فأنزل الله : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ }{[13921]} الآية .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في هذه الآية : كانوا يستغفرُون لهم ، حتى نزلت هذه الآية ، فلما [ نزلت{[13922]} أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ، ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا ]{[13923]} ثم أنزل الله : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ } الآية .
وقال قتادة في هذه الآية : ذُكر لنا أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : يا نبي الله ، إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ، ويصل الأرحام ، ويفُكّ العاني ، ويوفي بالذمم ؛ أفلا نستغفر لهم ؟ قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بلى ، والله إني لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه " . فأنزل الله : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } حتى بلغ : { الْجَحِيمِ } ثم عذر الله تعالى إبراهيم ، فقال : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } قال : وذُكر لنا أن نبي الله قال : " أوحى إليّ كلمات ، فدخلن في أذني ووقَرْن في قلبي : أمِرْتُ ألا أستغفرَ لمن مات مشركا ، ومن أعطى فَضْلَ ماله فهو خيرٌ له ، ومن أمسك فهو شرٌ له ، ولا يلوم الله على كَفاف " .
وقال الثوري ، عن الشيباني ، عن سعيد بن جُبير قال : مات رجل يهودي وله ابن{[13924]} مسلم ، فلم يخرج معه ، فذكر ذلك لابن عباس فقال : فكان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه ، ويدعو له بالصلاح ما دام حيا ، فإذا مات وكَّله إلى شأنه ثم قال : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } لم يَدْعُ .
[ قلت ]{[13925]} وهذا يشهد له بالصحة ما رواه أبو داود وغيره ، عن علي بن أبي طالب قال : لما مات أبو طالب قلت : يا رسول الله ، إن عمك الشيخ الضال قد مات . قال : " اذهب فَوَاره ولا تُحْدثَنَّ شيئا حتى تأتيني " . وذكر تمام الحديث . {[13926]} ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مَرّت به جنازة عمه أبي طالب قال : " وَصَلتكَ رَحِمٌ يا عم " . {[13927]}
وقال عطاء بن أبي رباح : ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة ، ولو كانت حبشية حبلى من الزنا ؛ لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا على المشركين ، يقول الله ، عز وجل : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } .
وروى ابنُ جَرير ، عن ابن وَكِيع ، عن أبيه ، عن عصمة بن زامل ، عن أبيه قال : سمعت أبا هريرة يقول : رحم الله رجلا استغفر لأبي هريرة ولأمه . قلت : ولأبيه ؟ قال : لا . قال : إن أبي مات مشركا{[13928]} . وقوله : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } قال ابن عباس : ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه . وفي رواية : لما مات تبين له أنه عدو لله .
وكذا قال مجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وغيرهم ، رحمهم الله .
وقال عُبَيْد بن عمير ، وسعيد بن جُبَيْر : إنه يتبرأ منه [ في ]{[13929]} يوم القيامة حين يلقى أباه ، وعلى وجه أبيه الغُبرة والقُتْرة فيقول : يا إبراهيم ، إني كنت أعصيك وإني اليوم لا أعصيك . فيقول : أيْ رَبي ، ألم تعدني ألا تخزني يوم يبعثون ؟ فأيّ خزْي أخزى من أبي الأبعد ؟ فيقال : انظر إلى ما وراءك ، فإذا هو بِذِيخٍ متلطخ ، أي : قد مسخ ضِبْعانًا ، ثم يسحب بقوائمه ، ويلقى في النار .
وقوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } قال سفيان الثوري وغير واحد ، عن عاصم بن بَهْدَلة ، عن زِرّ بن حُبَيش ، عن عبد الله بن مسعود أنه قال : الأواه : الدَّعَّاء . وكذا روي من غير وجه ، عن ابن مسعود .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى : حدثنا الحجاج بن مِنْهال ، حدثنا عبد الحميد بن بَهْرام ، حدثنا شَهْر بن حَوشب ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس قال رجل : يا رسول الله ، ما الأوّاه ؟ قال : " المتضرع " ، قال : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } {[13930]} ورواه{[13931]} ابن أبي حاتم من حديث ابن المبارك ، عن عبد الحميد بن بَهْرَام ، به ، قال : المتضرع : الدَّعَّاء .
وقال الثوري ، عن سلمة بن كُهَيْل ، عن مسلم البَطِين عن أبي العُبَيْديْن أنه سأل ابن مسعود عن الأواه ، فقال : هو الرحيم .
وبه قال مجاهد ، وأبو ميسرة عمرو بن شُرَحْبيل ، والحسن البصري ، وقتادة : أنه الرحيم ، أي : بعباد الله .
وقال ابن المبارك ، عن خالد ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : الأوَّاه : الموقن بلسان الحبشة{[13932]} . وكذا قال العوفي ، عن ابن عباس : أنه الموقن . وكذا قال مجاهد ، والضحاك . وقال علي بن أبي طلحة ، ومجاهد ، عن ابن عباس : الأواه : المؤمن - زاد علي بن أبي طلحة عنه : المؤمن التواب . وقال العوفي عنه : هو المؤمن بلسان الحبشة . وكذا قال ابن جُرَيْج : هو المؤمن بلسان الحبشة .
وقال أحمد : حدثنا موسى ، حدثنا ابن لهِيعة ، عن الحارث بن يزيد ، عن علي بن رباح ، عن عقبة بن عامر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له " ذو البِجادين " : " إنه أواه " ، وذلك أنه رجل{[13933]} كثير الذكر لله في القرآن ويرفع صوته في الدعاء .
ورواه ابن جرير . {[13934]} وقال سعيد بن جبير ، والشعبي : الأواه : المسبّح . وقال ابن وهب ، عن معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن جُبَير بن نفير ، عن أبي الدرداء ، رضي الله عنه ، قال : لا يحافظ على سبحة الضحى إلا أواه . وقال شُفَى بن مانع ، عن أيوب : الأواه : الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها .
وعن مجاهد : الأواه : الحفيظ الوجل ، يذنب الذنب سرا ، ثم يتوب منه سرا .
ذكر ذلك كلَّه ابن أبي حاتم ، رحمه الله .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا المحاربي ، عن حجاج ، عن الحكم ، عن الحسن بن مسلم بن يناق : أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبّح ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " إنه أواه " . {[13935]} وقال أيضا حدثنا أبو كُرَيب ، حدثنا ابن يمان ، حدثنا المِنْهَال بن خليفة ، عن حَجّاج بن أرطأة ، عن عطاء ، عن ابن عباس ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم دفن ميتا ، فقال : " رحمك الله إن كنتَ لأواها " ! يعني : تَلاءً للقرآن{[13936]} وقال شعبة ، عن أبي يونس الباهلي قال : سمعت رجلا بمكة - وكان أصله روميا ، وكان قاصا - يحدث عن أبي ذر قال : كان رجل يطوف بالبيت الحرام ويقول في دعائه : " أوّه أوّه " ، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنه أواه . قال : فخرجت ذات ليلة ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح .
هذا حديث غريب رواه ابن جرير ومشاه{[13937]} . وروي عن كعب الأحبار أنه قال :{[13938]} { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ } قال : كان إذا ذكر النار قال : " أوّه من النار " .
وقال ابن جُرَيْج عن ابن عباس : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ } قال : فقيه .
قال الإمام العلم أبو جعفر بن جرير : وأولى الأقوال قول من قال : إنَّه الدعَّاء ، وهو المناسب للسياق ، وذلك أن الله تعالى لما ذكر أن إبراهيم إنما استغفر لأبيه عن موعدة وعدها إياه ، وقد كان إبراهيم كثير الدعاء حليما عمن ظلمه وأناله مكروها ؛ ولهذا استغفر لأبيه مع شدة أذاه{[13939]} في قوله : { أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } [ مريم : 46 ، 47 ] ، فحلم عنه مع أذاه له ، ودعا له واستغفر ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } {[13940]}
{ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } روي : أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب لما حضرته الوفاة : " قل كلمة أحتاج لك بها عند الله " فأبى فقال عليه الصلاة والسلام : " لا أزال أستغفر لك ما لم أنه عنه " فنزلت وقيل لما افتتح مكة خرج إلى الأبواء فزار قبر أمه ثم قام مستعبرا فقال : " إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي وأنزل علي الآيتين " . { ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } بأن ماتوا على الكفر ، وفيه دليل على جواز الاستغفار لأحيائهم فإنه طلب توفيقهم للإيمان وبه دفع النقيض باستغفار إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه الكفار فقال : { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه } .