{ إِنْ نَشَأْ نُنزلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً } .
أي : من آيات الاقتراح ، { فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ } أي : أعناق المكذبين { لَهَا خَاضِعِينَ } ولكن لا حاجة إلى ذلك ، ولا مصلحة فيه ، فإنه إذ ذاك الوقت ، يكون الإيمان غير نافع ، وإنما الإيمان النافع ، الإيمان بالغيب ، كما قال تعالى : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا } الآية .
{ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } .
ومفعول المشيئة محذوف ، والمراد بالآية هنا المعجزة القاهرة التى تجعلهم لا يملكون انصرافا معها عن الإيمان ، والأعناق جمع عنق . وقد تطلق على وجوه الناس وزعمائهم تقول : جاءنى عنق من الناس : أى جماعة منهم أو من رؤسائهم والمقدمين فيهم .
والمعنى : لا تحزن يا محمد لعدم إيمان كفار مكة بك ، فإننا إن نشأ إيمانهم ، ننزل عليهم آية ملجئة لهم إلى الإيمان ، تجعلهم ينقادون له ، ويدخلون فيه دخولا ملزما لهم ، ولكنا لا نفعل ذلك ، لأن حكمتنا قد اقتضت أن يكون دخول الناس فى الإيمان عن طريق الاختيار والرغبة ، وليس عن طريق الإلجاء والقسر .
وصور - سبحانه - هذه الآية بتلك الصورة الحسية { فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } ، للإشعار بأن هذه بالآية لو أراد - سبحانه - إنزالها لجعلتهم يخضعون خضوعا تاما لها ، حتى لكأن أعناقهم على هيئة من الخضوع والذلة لا تملك معها الارتفاع أو الحركة .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : كيف صح مجىء خاضعين خبرا عن الأعناق ؟ قلت : أصل الكلام : فظلوا لها خاضعين . فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع ، وترك الكلام على أصله . كقوله : ذهبت أهل اليمامة ، كأن الأهل غير مذكور . أو لما وصفت بالخضوع الذى هو للعقلاء ، قيل : خاضعين . . . . وقيل أعناق الناس : رؤساؤهم ومقدموهم شبهوا بالأعناق كما قيل لهم : هم الرءوس والنواصى والصدور . . . وقيل : جماعات الناس . . " .
فربه يرأف به ، وينهنهه عن هذا الهم القاتل ، ويهون عليه الأمر ، ويقول له : إن إيمانهم ليس مما كلفت ؛ ولو شئنا أن نكرههم عليه لأكرهناهم ، ولأنزلنا من السماء آية قاهرة لا يملكون معها جدالا ، ولا إنصرافا عن الإيمان . ويصور خضوعهم لهذه الأية صورة حسية : ( فظلت أعناقهم لها خاضعين )ملوية محنية حتى لكأن هذه هيئة لهم لا تفارقهم ، فهم عليها مقيمون !
ولكنه - سبحانه - لم يشأ أن يجعل مع هذه الرسالة الأخيرة آية قاهرة . لقد جعل آيتها القرآن . منهاج حياة كاملة . معجزا في كل ناحية :
معجزا في بنائه التعبيري وتنسيقه الفني ، باستقامته على خصائص واحدة ، في مستوى واحد ، لا يختلف ولا يتفاوت ، ولا تتخلف خصائصه ؛ كما هي الحال في أعمال البشر . إذ يبدو الارتفاع والانخفاض والقوة والضعف في عمل الفرد الواحد ، المتغير الحالات . بينما تستقيم خصائص هذا القرآن التعبيرية على نسق واحد ، ومستوى واحد ، ثابت لا يتخلف ، يدل على مصدره الذي لا تختلف عليه الأحوال .
معجزا في بنائه الفكري ، وتناسق أجزائه وتكاملها ، فلا فلتة فيه ولا مصادفة . كل توجيهاته وتشريعاته تلتقي وتتناسق وتتكامل ؛ وتحيط بالحياة البشرية ، وتستوعبها ، وتلبيها وتدفعها ، دون أن تتعارض جزئية واحدة من ذلك المنهاج الشامل الضخم مع جزئية أخرى ؛ ودون أن تصطدم واحدة منها بالفطرة الإنسانية أو تقصر عن تلبيتها . . وكلها مشدودة إلى محور واحد ، وإلى عروة واحدة ، في اتساق لا يمكن أن تفطن إليه خبرة الإنسان المحدودة . ولا بد أن تكون هناك خبرة مطلقة ، غير مقيدة بقيود الزمان والمكان . هي التي أحاطت به هذه الإحاطة ، ونظمته هذا التنظيم .
معجزا في يسر مداخله إلى القلوب والنفوس ، ولمس مفاتيحها ، وفتح مغاليقها ، واستجاشة مواضع التأثر والاستجابة فيها ؛ وعلاجه لعقدها ومشكلاتها في بساطة ويسر عجيبين ؛ وفي تربيتها وتصريفها وفق منهجه بأيسر اللمسات ، دون تعقيد ولا التواء ولا مغالطة .
لقد شاء الله أن يجعل هذا القرآن هو معجزة هذه الرسالة - ولم يشأ أن ينزل آية قاهرة مادية تلوي الأعناق وتخضعها وتضطرها إلى التسليم - ذلك أن هذه الرسالة الأخيرة رسالة مفتوحة للأمم كلها ، وللأجيال كلها . وليست رسالة مغلقة على أهل زمان أو أهل مكان . فناسب أن تكون معجزتها مفتوحة كذلك للبعيد والقريب . لكل أمة ولكل جيل . والخوارق القاهرة لا تلوي إلا أعناق من يشاهدونها ؛ ثم تبقى بعد ذلك قصة تروى ، لا واقعا يشهد . . فأما القرآن فها هو ذا بعد أكثر من ثلاثة عشر قرنا كتاب مفتوح ومنهج مرسوم ، يستمد منه أهل هذا الزمان ما يقوم حياتهم - لو هدوا إلى اتخاذه إمامهم - ويلبي حاجاتهم كاملة ؛ ويقودهم بعدها إلى عالم أفضل ، وأفق أعلى ، ومصير أمثل . وسيجد فيه من بعدنا كثيرا مما لم نجده نحن ؛ ذلك أنه يعطي كل طالب بقدر حاجته ؛ ويبقى رصيده لا ينفد ، بل يتجدد . ولكن لم يكونوا يفطنون إلى هذه الحكمة الكبرى . فكانوا يعرضون عما يتنزل عليهم من هذا القرآن العظيم حينا بعد حين :
ثم قال الله تعالى : { إِنْ نَشَأْ نُنزلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } أي : لو شئنا لأنزلنا آية تضطرهم إلى الإيمان قهرا ، ولكَّنا لا نفعل ذلك ؛ لأنا لا نريد من أحد إلا الإيمان الاختياري ؛ وقال تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [ يونس : 99 ] ، وقال : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } [ هود : 118 ، 119 ] ، فنَفَذ قَدَرُه ، ومضت{[21694]} حكمته ، وقامت حجته البالغة على خلقه بإرسال الرسل إليهم ، وإنزال الكتب عليهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِن نّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السّمَآءِ آيَةً فَظَلّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : فَظَلّتْ أعْناقُهُمْ . . . الاَية ، فقال بعضهم : معناه : فظلّ القوم الذين أنزل عليهم من السماء آية خاضعة أعناقهم لها من الذَلّة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد في قوله : فَظَلّتْ أعْناقُهُمْ لَهَا خاضِعينَ قال : فظلوا خاضعة أعناقهم لها .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله خاضِعِينَ قال : لو شاء الله لنزّل عليه آية يذلون بها ، فلا يَلْوِي أحد عنقه إلى معصية الله .
حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج أنْ لا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إنْ نَشأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السّماءِ آيَةً قال : لو شاء الله لأراهم أمرا من أمره لا يعمل أحد منهم بعده بمعصية .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فَظَلّتْ أعْناقُهُمْ لَهَا خاضِعِينَ قال : ملقين أعناقهم .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَظَلّتْ أعْناقُهُمْ لَهَا خاضِعِينَ قال : الخاضع : الذليل .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فظلت سادتهم وكبراؤهم للاَية خاضعين ، ويقول : الأعناق : هم الكبراء من الناس .
واختلف أهل العربية في وجه تذكير خاضعين ، وهو خبر عن الأعناق ، فقال بعض نحويّي البصرة : يزعمون أن قوله أعْناقُهُمْ على الجماعات ، نحو : هذا عنق من الناس كثير ، أو ذُكّركما يذكّر بعض المؤنث ، كما قال الشاعر :
تَمَزّزْتها والدّيكُ يَدْعُو صَباحَهُ *** إذا ما بنو نَعْشٍ دَنَوْا فَتَصَوّبُوا
فجماعات هذا أعناق ، أو يكون ذكره لإضافته إلى المذكر كما يؤنث لإضافته إلى المؤنث ، كما قال الأعشى :
ونَشْرَقُ بالقَوْل الّذي قَدْ أذَعْتَه *** كمَا شَرقَتْ صَدْرُ القَناةِ مِنَ الدّم
*** لَمّا رأى مَتْنَ السّماء أبْعَدَتْ ***
إذَا الْقُنْبُضَات السّود طَوّفْنَ بالضحى *** رَقَدْنَ عَلَيْهِنّ الحِجالُ المَسَجّفُ
وَإنّ امْرَأً أهْدَى إلَيْكِ وَدُونَهُ *** مِنَ الأرْضِ يَهْماءٌ وَبَيْدَاءُ خَيْفَقُ
لَمَحْقُوقَةٌ أن تَسْتَجِيبِي لِصَوْتِهِ *** وأنْ تَعْلَمِي أنّ المُعانَ المُوَفّقُ
قال : ويقولون : بنات نعش وبنو نعش ، ويقال : بنات عِرس ، وبنو عِرس وقالت امرأة : أنا امرؤ لا أخبر السرّ ، قال : وذكر لرؤبة رجل فقال : هو كان أحد بنات مساجد الله ، يعني الحَصَى . وكان بعض نحويي الكوفة يقول : هذا بمنزلة قول الشاعر :
تَرَى أرْماحَهُمْ مُتَقَلدِيها *** إذَا صَدِىءَ الحَدِيدُ على الكُماةِ
فمعناه عنده : فظلت أعناقهم خاضعيها هم ، كما يقال : يدك باسطها ، بمعنى : يدك باسطها أنت ، فاكتفى بما ابتدأ به من الاسم أن يكون ، فصار الفعل كأنه للأوّل وهو للثاني ، وكذلك قوله : لمحقوقة أن تستجيبي لصوته إنما هو لمحقوقة أنت ، والمحقوقة : الناقة ، إلا أنه عطفه على المرء لما عاد بالذكر . وكان آخر منهم يقول : الأعناق : الطوائف ، كما يقال : رأيت الناس إلى فلان عنقا واحدة ، فيجعل الأعناق الطوائف والعُصَب ويقول : يحتمل أيضا أن تكون الأعناق هم السادة والرجال الكبراء ، فيكون كأنه قيل : فظلت رؤوس القوم وكبراؤهم لها خاضعين ، وقال : أحبّ إليّ من هذين الوجهين في العربية أن يقال : إن الأعناق إذا خضعت فأربابها خاضعون ، فجعلْت الفعل أوّلاً للأعناق ، ثم جَعَلْتَ خاضعين للرجال ، كما قال الشاعر :
عَلى قَبْضَة مَرْجُوّة ظَهْرُ كَفّهِ *** فَلا المَرْءُ مُسْتَحْيٍ وَلا هُوَ طاعِمُ
فأنث فعل الظهر ، لأن الكفّ تجمع الظهر ، وتكفي منه ، كما أنك تكتفي بأن تقول : خضعت لك ، من أن تقول : خَضَعَتْ لك رقبتي ، وقال : ألا ترى أن العرب تقول : كل ذي عين ناظر وناظرة إليك ، لأن قولك : نظرتْ إليك عيني ، ونظرتُ إليك بمعنى واحد بترك كل ، وله الفعل وبرده إلى العين ، فلو قلت : فظلت أعناقهم لها خاضعة ، كان صوابا .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب وأشبهها بما قال أهل التأويل في ذلك أن تكون الأعناق هي أعناق الرجال ، وأن يكون معنى الكلام : فظلت أعناقهم ذليلة ، للاَية التي ينزلها الله عليهم من السماء ، وأن يكون قوله «خاضعين » مذكرا ، لأنه خبر عن الهاء والميم في الأعناق ، فيكون ذلك نظير قول جرير :
أرَى مَرّ السّنِينَ أخَذْنَ مِنّي *** كمَا أخَذَ السّرَارُ مِنَ الهِلالِ
وذلك أن قوله : مرّ ، لو أسقط من الكلام ، لأدى ما بقي من الكلام عنه ولم يفسد سقوطه معنى الكلام عما كان به قبل سقوطه ، وكذلك لو أسقطت الأعناق من قوله : فظلت أعناقهم ، لأدى ما بقي من الكلام عنها ، وذلك أن الرجال إذا ذلّوا ، فقد ذلت رقابهم ، وإذا ذلت رقابهم فقد ذلوا .
فإن قيل في الكلام : فظلوا لها خاضعين ، كان الكلام غير فاسد ، لسقوط الأعناق ، ولا متغير معناه عما كان عليه قبل سقوطها ، فصرف الخبر بالخضوع إلى أصحاب الأعناق ، وإن كان قد ابتدأ بذكر الأعناق لما قد جرى به استعمال العرب في كلامهم ، إذا كان الاسم المبتدأ به ، وما أضيف إليه يؤدّي الخبر كلّ واحد منهما عن الاَخر .
وقوله تعالى : { إن شاء } شرط وما في الشرط من الإبهام هو في هذه الآية في حيزنا ، وأما الله تعالى فقد علم أنه لا ينزل عليهم آية اضطرار وإنما جعل الله تعالى آية الأنبياء والآيات الدالة عليه معرضة للنظر والفكر ليهتدي من سبق في علمه هداه ويضل من سبق ضلاله وليكون للنظر تكسب به يتعلق الثواب والعقاب ، وآية الاضطرار تدفع جميع هذا أن لو كانت ، وقرأ «تنَزّل » بفتح النون وشد الزاي أبو جعفر ونافع وشيبة والأعرج وعاصم والحسن ، وقرأ أبو عمرو وأهل البصرة بسكون النون وتخفيف الزاي ، وروى هارون عن أبي عمرو «يشأ ينزل » بالياء فيهما والخضوع للآية المنزلة كان يترتب بأحد وجهين إما بخوف هلاك في مخالفة الأمر المقترن بها كنتق الجبل على بني إسرائيل ، وإما أن تكون من الوضوح وبهر العقول ، بحيث يقع الإذعان لها وانقياد النفوس ، وكل هذين لم يأت به نبي ، ووجه ذلك ما ذكرناه ، وهو توجيه منصوص للعلماء . وقرأ طلحة «فتظل أعناقهم » وهو المراد في قراءة الجمهور وجعل الماضي موضع المستقبل إشارة إلى تقوية وقوع الفعل{[8901]} ، وقوله تعالى : { أعناقهم } يحتمل تأويلين أحدهما : وهو قول مجاهد وأبي زيد الأخفش ، أي يريد جماعاتهم ، يقال جاءني عنق من الناس أي جماعة ، ومنه قول الشاعر : [ مجزوء الكامل ]
إن العراق وأهله . . . عنق إليك فهيت هيتا{[8902]}
واكتم السر فيه ضرب العنق{[8903]} . . . ولهذا قيل عتق رقبة ولم يقل عتق عنق فراراً من الاشتراك قاله الزهراوي ، فعلى هذا التأويل ليس في قوله { خاضعين } موضع قول ، والتأويل الآخر أن يريد الأعناق الجارحة المعلمة وذلك أن خضوع العنق والرقبة هو علامة الذلة والانقياد ومنه قول الشاعر : [ الكامل ]
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم . . . خضع الرقاب نواكس الأبصار{[8904]}
فعلى هذا التأويل يتكلم على قوله { خاضعين } كيف جمعه جمع من يعقل ، وذلك متخرج على نحوين من كلام العرب : أحدهما أن الإضافة إلى من يعقل أفادت حكم من يعقل كما تفيد الإضافة إلى المؤنث تأنيث علامة المذكر ، ومنه قول الأعشى :
«كما شرقت صدر القناة من الدم »{[8905]} . . . وهذا كثير ، والنحو الآخر أن الأعناق لما وصفت بفعل لا يكون إلا مقصوداً للبشر وهو الخضوع ، إذ هو فعل يتبع أمراً في النفس ، جمعها فيه جمع من يعقل وهذا نظير قوله تعالى : { أتينا طائعين }{[8906]} [ فصلت : 11 ] . وقوله : { رأيتهم لي ساجدين }{[8907]} [ يوسف : 4 ] . وقرأ ابن أبي عبلة «لها خاضعة »
استئناف بياني ناشىء عن قوله : { أن لا يكونوا مؤمنين } [ الشعراء : 3 ] لأن التسلية على عدم إيمانهم تثير في النفس سؤالاً عن إمهالهم دون عقوبة ليؤمنوا ، كما قال موسى { ربّنا إنك آتيت فرعون وملأه زينةً وأموالاً في الحياة الدنيا ربّنا ليَضِلّوا عن سَبيلك ربّنا اطمِسْ على أموالهم واشدُدْ على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم } [ يونس : 88 ] ، فأجيب بأن الله قادر على ذلك ، فهذا الاستئناف اعتراض بين الجملتين المعطوفة إحداهما على الأخرى .
ومفعول { نشأ } محذوف يدل عليه جواب الشرط على الطريقة الغالبة في حذف مفعول فعل المشيئة . والتقدير : إن نشأ تنزيلَ آية ملجئة ننزلها .
وجيء بحرف { إنْ } الذي الغالب فيه أن يشعر بعدم الجزم بوقوع الشرط للإشعار بأن ذلك لا يشاؤه الله لحكمة اقتضت أن لا يشاءه .
ومعنى انتفاء هذه المشيئة أن الحكمة الإلهية اقتضت أن يحصل الإيمان عن نظر واختيار لأن ذلك أجدى لانتشار سمعة الإسلام في مبدإ ظهوره . فالمراد بالآية العلامة التي تدل على تهديدهم بالإهلاك تهديداً محسوساً بأن تظهر لهم بوارق تنذر باقتراب عذاب . وهذا من معنى قوله تعالى : { وإن كان كَبُر عليك إعراضُهم فإن استطعتَ أن تَبْتَغِيَ نَفَقاً في الأرض أو سُلّماً في السماء فتأتيهم بآية } [ الأنعام : 35 ] ، وليس المراد آيات القرآن وذلك أنهم لم يقتنعوا بآيات القرآن .
وجعل تنزيل الآية من السماء حينئذ أوضح وأشدّ تخويفاً لقلّة العهد بأمثالها ولتوقع كل من تحت السماء أن تصيبه . فإن قلت : لماذا لم يُرِهِمْ آية كما أُرِي بنو إسرائيل نَتْقَ الجبل فوقهم كأنه ظُلَّةٌ ؟ قلت : كان بنو إسرائيل مؤمنين بموسى وما جاء به فلم يكن إظهار الآيات لهم لإلجائهم على الإيمان ولكنه كان لزيادة تثبيتهم كما قال إبراهيم { أرني كيف تحيي الموتى } [ البقرة : 260 ] .
وفرّع على تنزيل الآية ما هو في معنى الصفة لها وهو جملة { فظلت أعناقهم لها خاضعين } بفاء التعقيب .
وعطف { فظلت } وهو ماض على المضارع قوله : { ننزل } لأن المعطوف عليه جواب شرط ، فللمعطوف حكم جواب الشرط فاستوى فيه صيغة المضارع وصيغة الماضي لأن أداة الشرط تخلص الماضي للاستقبال ؛ ألا ترى أنه لو قيل : إن شئنا نزّلنا أو إن نَشأ نَزَّلنا ، لكان سواء إذ التحقيق أنه لا مانع من اختلاف فعلي الشرط والجزاء بالمضارَعيَّة والماضوية ، على أن المعطوفات يتّسع فيها ما لا يُتّسع في المعطوف عليها لقاعدة : أن يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل ، كما في القاعدة الثامنة من الباب الثامن من « مغني اللبيب » ، غير أن هذا الاختلاف بين الفعلين لا يخلو من خصوصية في كلام البليغ وخاصة في الكلام المعجز ، وهي هنا أمران : التفنّن بين الصيغتين ، وتقريبُ زَمن مضي المعقب بالفاء من زمن حصول الجزاء بحيث يكون حصول خضوعهم للآية بمنزلة حصول تنزيلها فيتمّ ذلك سريعاً حتى يخيّل لهم من سُرعة حصوله أنه أمر مضى فلذلك قال : { فظلت } ولم يقل : فتظل .
وهذا قريب من استعمال الماضي في قوله تعالى : { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } [ النحل : 1 ] وكلاهما للتهديد ، ونظيره لقصد التشويق : قد قامت الصلاة .
والخضوع : التطامن والتواضع . ويستعمل في الانقياد مجازاً لأن الانقياد من أسباب الخضوع . وإسناد الخضوع إلى الأعناق مجاز عقلي ، وفيه تمثيل لحال المنقادين الخائفين الأذلّة بحال الخاضعين الذين يتّقون أن تصيبهم قاصمة على رؤوسهم فهم يطأطئون رؤوسهم وينحنون اتقاء المصيبة النازلة بهم .
والأعناق : جمع عُنُق بضمتين وقد تسكن النون وهو الرقبة ، وهو مؤنث . وقيل : المضموم النون مؤنث ، والساكن النون مذكر .
ولما كانت الأعناق هي مظهر الخضوع أُسند الخضوع إليها وهو في الحقيقة مما يسند إلى أصحابها ومنه قوله تعالى : { وخَشَعَت الأصواتُ للرحمن } [ طه : 108 ] أي أهل الأصوات بأصواتهم كقول الأعشى :
كذلكَ فافعَلْ ما حييتَ إذَا شتوا *** وأقْدم إذا ما أعينُ الناس تَفْرَق
فأسند الفَرق إلى العيون على سبيل المجاز العقلي لأن الأعين سبب الفرق عند رؤية الأشياء المخيفة . ومنه قوله تعالى : { سحَرُوا أعينَ الناس } [ الأعراف : 116 ] وإنما سحَروا الناس سحراً ناشئاً عن رؤية شعوذة السحر بأعينهم ، مع ما يزيد به قوله : « ظلت أعناقهم لها خاضعين » من الإشارة إلى تمثيل حالهم ، ومقتضى الظاهر فظلوا لها خاضعين بأعناقهم .
وفي إجراء ضمير العقلاء في قوله : { خاضعين } على الأعناق تجريد للمجاز العقلي في إسناد { خاضعين إلى أعناقهم } لأن مقتضى الجري على وتيرة المجاز أن يقال لها : خاضعة ، وذلك خضوع من توقع لحاق العذاب النازل . وعن مجاهد : أن الأعناق هنا جمع عُنُق بضمتين يطلق على سيد القوم ورئيسهم كما يطلق عليه رأس القوم وصدر القوم ، أي فظلت سادتهم ، يعني الذين أغرَوْهم بالكفر خاضعين ، فيكون الكلام تهديداً لزعمائهم الذين زيَّنوا لهم الاستمرار على الكفر ، وهو تفسير ضعيف . وعن ابن زيد والأخفش : الأعناق الجماعات واحدها عُنُق بضمتين جماعة الناس ، أي فظلّوا خاضعين جماعات جماعات ، وهذا أضعف من سابقه .
ومن بدع التفاسير وركيكها ما نسبه الثعلبي إلى ابن عباس أنه قال : نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة ويلحقهم هوانٌ بعد عِزّة ، وهذا من تحريف كلم القرآن عن مواضعه ونحاشي ابن عباس رضي الله عنه أن يقوله وهو الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يُعلّمه التأويل . وهذا من موضوعات دعاة المُسَوِّدة مثل أبي مسلم الخراساني وكم لهم في الموضوعات من اختلاق ، والقرآن أجلّ من أن يتعرض لهذه السفاسف .
وقرأ الجمهور : { ننزّل } بالتشديد في الزاي وفتح النون الثانية . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بضم النون الثانية وتخفيف الزاي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن نشأ}، يعني: لو نشاء، {ننزل عليهم من السماء آية فظلت}، يعني: فمالت {أعناقهم لها} يعني: للآية، {خاضعين}، يعني: مقبلين إليها مؤمنين بالآية.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"فَظَلّتْ أعْناقُهُمْ..."؛
فقال بعضهم: معناه: فظلّ القوم الذين أنزل عليهم من السماء آية خاضعة أعناقهم لها من الذَلّة... عن قَتادة، في قوله "خاضِعِينَ "قال: لو شاء الله لنزّل عليهم آية يذلون بها، فلا يَلْوِي أحد عنقه إلى معصية الله...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فظلت سادتهم وكبراؤهم للآية خاضعين، ويقول: الأعناق: هم الكبراء من الناس...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب وأشبهها بما قال أهل التأويل في ذلك أن تكون الأعناق هي أعناق الرجال، وأن يكون معنى الكلام: فظلت أعناقهم ذليلة، للآية التي ينزلها الله عليهم من السماء...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
لما بين الله تعالى حرص النبي (صلى الله عليه وآله) على إيمان قومه، واجتهاده بهم حتى كاد أن يقتل نفسه تأسفا على تركهم الايمان، أخبره بأنه قادر على أن ينزل عليهم آية ودلالة من السماء تظل اعناقهم لها خاضعة بأن تلجئهم إلى الايمان، لكن ذلك نقيض الغرض بالتكليف، لأنه تعالى لو فعل ذلك، لما استحقوا ثوابا ولا مدحا، لان الملجأ لا يستحق الثواب والمدح على فعله، لأنه بحكم المفعول فيه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أخبر عن قدرته على تحصيل مرادِه من عباده، فهو قادرٌ على أن يُؤْمِنوا كَرْهاً
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {إن نشأ} شرط، وما في الشرط من الإبهام هو في هذه الآية في حيزنا، وأما الله تعالى فقد علم أنه لا ينزل عليهم آية اضطرار وإنما جعل الله تعالى آية الأنبياء والآيات الدالة عليه معرضة للنظر والفكر ليهتدي من سبق في علمه هداه ويضل من سبق ضلاله وليكون للنظر تكسب به يتعلق الثواب والعقاب، وآية الاضطرار تدفع جميع هذا أن لو كانت، وقرأ «تنَزّل» بفتح النون وشد الزاي أبو جعفر ونافع وشيبة والأعرج وعاصم والحسن، وقرأ أبو عمرو وأهل البصرة بسكون النون وتخفيف الزاي، وروى هارون عن أبي عمرو «يشأ ينزل» بالياء فيهما والخضوع للآية المنزلة كان يترتب بأحد وجهين إما بخوف هلاك في مخالفة الأمر المقترن بها كنتق الجبل على بني إسرائيل، وإما أن تكون من الوضوح وبهر العقول، بحيث يقع الإذعان لها وانقياد النفوس، وكل هذين لم يأت به نبي، ووجه ذلك ما ذكرناه، وهو توجيه منصوص للعلماء.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية "أي معجزة ظاهرة وقدرة باهرة فتصير معارفهم ضرورية، ولكن سبق القضاء بأن تكون المعارف نظرية.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أي: لو شئنا لأنزلنا آية تضطرهم إلى الإيمان قهرا، ولكَّنا لا نفعل ذلك؛ لأنا لا نريد من أحد إلا الإيمان الاختياري؛ وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119]، فنَفَذ قَدَرُه، ومضت حكمته، وقامت حجته البالغة على خلقه بإرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان المحب ميالاً إلى ما يريد حبيبه، أعلمهم أن كل ما هم فيه بإرادته فقال: {إن نشأ} وعبر بالمضارع فيه وفي قوله: {ننزل} إعلاماً بدوام القدرة. ولما كان ذلك الإنزال من باب القسر، والجبروت والقهر، قال: {عليهم} وقال محققاً للمراد: {من السمآء} أي التي جعلنا فيها بروجاً للمنافع، وأشار إلى تمام القدرة بتوحيدها فقال: {آية} أي قاهرة كما فعلنا ببعض من قبلهم بنتق الجبل ونحوه؛ وأشار إلى تحقق أثرها بالتعبير بالماضي في قوله عطفاً على {ننزل} لأنه في معنى {أنزلنا}: {فظلت} أي عقب الإنزال من غير مهلة {أعناقهم} التي هي موضع الصلابة، وعنها تنشأ حركات الكبر والإعراض {لها} أي للآية دائماً، ولكنه عبر بما يفهم النهار لأنه موضع القوة على جميع ما يراد من التقلب والحيل والمدافعة {خاضعين} جمعه كذلك لأن الفعل لأهلها ليدل على أن ذلهم لها يكون مع كونهم جميعاً، ولا يغني جمعهم وإن زاد شيئاً، والأصل: فظلوا، ولكنه ذكر الأعناق لأنها موضع الخضوع فإنه يظهر لينها بعد صلابتها، وانكسارها بعد شماختها، وللإشارة إلى أن الخضوع يكون بالطبع من غير تأمل لما أبهتهم وحيرهم من عظمة الآية، فكأن الفعل للأعناق لا لهم؛ والخضوع: التطأمن والسكون واللين ذلاً وانكساراً..
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فربه يرأف به، وينهنهه عن هذا الهم القاتل، ويهون عليه الأمر، ويقول له: إن إيمانهم ليس مما كلفت؛ ولو شئنا أن نكرههم عليه لأكرهناهم، ولأنزلنا من السماء آية قاهرة لا يملكون معها جدالا، ولا انصرافا عن الإيمان. ويصور خضوعهم لهذه الآية صورة حسية: (فظلت أعناقهم لها خاضعين) ملوية محنية حتى لكأن هذه هيئة لهم لا تفارقهم، فهم عليها مقيمون! ولكنه -سبحانه- لم يشأ أن يجعل مع هذه الرسالة الأخيرة آية قاهرة. لقد جعل آيتها القرآن. منهاج حياة كاملة. معجزا في كل ناحية: معجزا في بنائه التعبيري وتنسيقه الفني، باستقامته على خصائص واحدة، في مستوى واحد، لا يختلف ولا يتفاوت، ولا تتخلف خصائصه؛ كما هي الحال في أعمال البشر. إذ يبدو الارتفاع والانخفاض والقوة والضعف في عمل الفرد الواحد، المتغير الحالات. بينما تستقيم خصائص هذا القرآن التعبيرية على نسق واحد، ومستوى واحد، ثابت لا يتخلف، يدل على مصدره الذي لا تختلف عليه الأحوال. معجزا في بنائه الفكري، وتناسق أجزائه وتكاملها، فلا فلتة فيه ولا مصادفة. كل توجيهاته وتشريعاته تلتقي وتتناسق وتتكامل؛ وتحيط بالحياة البشرية، وتستوعبها، وتلبيها وتدفعها، دون أن تتعارض جزئية واحدة من ذلك المنهاج الشامل الضخم مع جزئية أخرى؛ ودون أن تصطدم واحدة منها بالفطرة الإنسانية أو تقصر عن تلبيتها.. وكلها مشدودة إلى محور واحد، وإلى عروة واحدة، في اتساق لا يمكن أن تفطن إليه خبرة الإنسان المحدودة. ولا بد أن تكون هناك خبرة مطلقة، غير مقيدة بقيود الزمان والمكان. هي التي أحاطت به هذه الإحاطة، ونظمته هذا التنظيم. معجزا في يسر مداخله إلى القلوب والنفوس، ولمس مفاتيحها، وفتح مغاليقها، واستجاشة مواضع التأثر والاستجابة فيها؛ وعلاجه لعقدها ومشكلاتها في بساطة ويسر عجيبين؛ وفي تربيتها وتصريفها وفق منهجه بأيسر اللمسات، دون تعقيد ولا التواء ولا مغالطة. لقد شاء الله أن يجعل هذا القرآن هو معجزة هذه الرسالة -ولم يشأ أن ينزل آية قاهرة مادية تلوي الأعناق وتخضعها وتضطرها إلى التسليم- ذلك أن هذه الرسالة الأخيرة رسالة مفتوحة للأمم كلها، وللأجيال كلها. وليست رسالة مغلقة على أهل زمان أو أهل مكان. فناسب أن تكون معجزتها مفتوحة كذلك للبعيد والقريب. لكل أمة ولكل جيل. والخوارق القاهرة لا تلوي إلا أعناق من يشاهدونها؛ ثم تبقى بعد ذلك قصة تروى، لا واقعا يشهد.. فأما القرآن فها هو ذا بعد أكثر من ثلاثة عشر قرنا كتاب مفتوح ومنهج مرسوم، يستمد منه أهل هذا الزمان ما يقوم حياتهم -لو هدوا إلى اتخاذه إمامهم- ويلبي حاجاتهم كاملة؛ ويقودهم بعدها إلى عالم أفضل، وأفق أعلى، ومصير أمثل. وسيجد فيه من بعدنا كثيرا مما لم نجده نحن؛ ذلك أنه يعطي كل طالب بقدر حاجته؛ ويبقى رصيده لا ينفد، بل يتجدد. ولكن لم يكونوا يفطنون إلى هذه الحكمة الكبرى. فكانوا يعرضون عما يتنزل عليهم من هذا القرآن العظيم حينا بعد حين:...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف بياني ناشئ عن قوله: {أن لا يكونوا مؤمنين} [الشعراء: 3] لأن التسلية على عدم إيمانهم تثير في النفس سؤالاً عن إمهالهم دون عقوبة ليؤمنوا، كما قال موسى {ربّنا إنك آتيت فرعون وملأه زينةً وأموالاً في الحياة الدنيا ربّنا ليَضِلّوا عن سَبيلك ربّنا اطمِسْ على أموالهم واشدُدْ على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 88]، فأجيب بأن الله قادر على ذلك، فهذا الاستئناف اعتراض بين الجملتين المعطوفة إحداهما على الأخرى. ومفعول {نشأ} محذوف يدل عليه جواب الشرط على الطريقة الغالبة في حذف مفعول فعل المشيئة. والتقدير: إن نشأ تنزيلَ آية ملجئة ننزلها. وجيء بحرف {إنْ} الذي الغالب فيه أن يشعر بعدم الجزم بوقوع الشرط للإشعار بأن ذلك لا يشاؤه الله لحكمة اقتضت أن لا يشاءه. ومعنى انتفاء هذه المشيئة أن الحكمة الإلهية اقتضت أن يحصل الإيمان عن نظر واختيار لأن ذلك أجدى لانتشار سمعة الإسلام في مبدإ ظهوره. فالمراد بالآية العلامة التي تدل على تهديدهم بالإهلاك تهديداً محسوساً بأن تظهر لهم بوارق تنذر باقتراب عذاب. وهذا من معنى قوله تعالى: {وإن كان كَبُر عليك إعراضُهم فإن استطعتَ أن تَبْتَغِيَ نَفَقاً في الأرض أو سُلّماً في السماء فتأتيهم بآية} [الأنعام: 35]، وليس المراد آيات القرآن وذلك أنهم لم يقتنعوا بآيات القرآن. وجعل تنزيل الآية من السماء حينئذ أوضح وأشدّ تخويفاً لقلّة العهد بأمثالها ولتوقع كل من تحت السماء أن تصيبه. فإن قلت: لماذا لم يُرِهِمْ آية كما أُرِي بنو إسرائيل نَتْقَ الجبل فوقهم كأنه ظُلَّةٌ؟ قلت: كان بنو إسرائيل مؤمنين بموسى وما جاء به فلم يكن إظهار الآيات لهم لإلجائهم على الإيمان ولكنه كان لزيادة تثبيتهم كما قال إبراهيم {أرني كيف تحيي الموتى} [البقرة: 260]. وفرّع على تنزيل الآية ما هو في معنى الصفة لها وهو جملة {فظلت أعناقهم لها خاضعين} بفاء التعقيب... والخضوع: التطامن والتواضع، ويستعمل في الانقياد مجازاً لأن الانقياد من أسباب الخضوع، وإسناد الخضوع إلى الأعناق... فيه تمثيل لحال المنقادين الخائفين الأذلّة بحال الخاضعين الذين يتّقون أن تصيبهم قاصمة على رؤوسهم فهم يطأطئون رؤوسهم وينحنون اتقاء المصيبة النازلة بهم... ولما كانت الأعناق هي مظهر الخضوع أُسند الخضوع إليها وهو في الحقيقة مما يسند إلى أصحابها ومنه قوله تعالى: {وخَشَعَت الأصواتُ للرحمن} [طه: 108] أي أهل الأصوات بأصواتهم...
والآية هنا ليست آية إقناع للعقول، إنما آية ترغمهم وتخضع رقابهم، وتخضع البنية والقالب، وهذا ليس كلاما نظريا يقال للمكذبين، إنما حقائق وقعت بالفعل في بني إسرائيل، واقرأ إن شئت قوله تعالى: {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة... 171} (الأعراف). فأخذوا ما آتيناهم بقوة، لماذا؟ بالآية التي أرغمتهم وأخضعت قوالبهم، لكن الحق- تبارك وتعالى- كما قلنا- لا يريد بالإيمان أن يخضع القوالب، إنما يريد أن يخضع القلوب باليقين والاتباع. فلو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، لا يختلف منهم أحد، بدليل أنه سبحانه خلق الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وبدليل أنه سبحانه بعث رسلا وعصمهم، ولم يجعل للشيطان سبيلا عليهم، وبدليل أن الشيطان بعد أن تعهد أن يغوي بني آدم ليكونوا معه سواء في المعصية قال له: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان... 42} (الحجر) والشيطان نفسه يقول: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين 82 إلا عبادك منهم المخلصين83} (ص) إذن: لو أراد سبحانه لجعل الناس جميعا مؤمنين وما عز عليه ذلك، لكنه أراد سبحانه أن يكون الإيمان باختيار المؤمن، فيأتي طواعية مختارا.