{ فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى } كأنها تشوفت أن يكون ذكرا ليكون أقدر على الخدمة وأعظم موقعا ، ففي كلامها
[ نوع ]{[157]} عذر من ربها ، فقال الله : { والله أعلم بما وضعت } أي : لا يحتاج إلى إعلامها ، بل علمه متعلق بها قبل أن تعلم أمها ما هي { وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم } فيه دلالة على تفضيل الذكر على الأنثى ، وعلى التسمية وقت الولادة ، وعلى أن للأم تسمية الولد إذا لم يكره الأب { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } دعت لها ولذريتها أن يعيذهم الله من الشيطان الرجيم .
ثم حكى - سبحانه - ما قالته بعد أن وضعت ما في بطنها فقال - تعالى - : { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى } .
قالوا : إن هذا خبر لا يقصد به الإخبار ، بل المقصود منه إظهار التحسر والتحزن والاعتذار ، فقد كانت امرأة عمران تتوقع أن يكون ما في بطنها ذكرا ، لأنه هو الذى يصلح لخدمة بيت الله والانقطاع للعبادة فيه ، لكنها حين وضعت حملها ووجدته أنثى ، قالت على سبيل الاعتذار عن الوفاء بنذرها : رب إني وضعتها أنثى ، والأنثى لا تصلح للمهمة التى نذرت ما فى بطنى لها وهى خدمة بيتك المقدس ، وأنت يا إلهي القدير على كل شيء فبقدرتك أن تخلق الذكر وبقدرتك أن تخلق الأنثى .
والضمير فى قوله { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا } يعود لما فى بطنها . وتأنيث باعتبار حاله في الواقع ونفس الأمر وهو أنه أنثى .
وقوله { أنثى } منصوب على الحال من الضمير في وضعتها ، وهى حال مؤكدة لأن كونها أنثى مفهوم من تأنيث الضمير فجاءت أنثى مؤكدة .
وقوله { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } جملة معترضة سيقت للايماء إلى تعظيم المولود الذى وضعته وتفخيم شأنه ، وللإشعار بأن الأنثى ستصلح لما يصلح له الذكور من خدمة بيته . أى : والله - تعالى - أعلم منها ومن غيرها بما وضعته ، لأنه هو الذى خلق هذا المولود وجعله أنثى ، وهو العليم بما سيصير إليه أمر هذه الأنثى من فضل ، إذ منها سيكون عيسى - عليه السلام - وسيجعلها - سبحانه - آية ظاهرة دالة على كمال قدرته ، ونفوذ إرادته .
وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويعقوب { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } بضم التاء وعلى هذه القراءة لا تكون الجملة معترضة وإنما هى من تتمة ما قالته ، ويكون الكلام التفات من الخطاب إلى الاسم الظاهر وهو لفظ الجلاة إذ لو جرت على مقتضى قولها ، { رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى } لقالت : وأنت أعلم بما وضعت .
ويكون قولها هذا من تتمة الاعتذار إلى الله - تعالى - حيث وضعت مولودا لا يصلح لما نذرته - في عرف قومها وتسلية لنفسها ، أى ولعل الله سرا وحكمة لا يعلمها أحد سواه في جعل هذا المولود أنثى . أو لعل هذه الأنثى تكون خيراً من الذكر .
وقوله - تعالى - { وَلَيْسَ الذكر كالأنثى } يحتمل أنه من كلامه - سبحانه - وهو الظاهر - فتكون الجملة معترضة كسابقتها ، ويكون : وليس الذكر الذى طلبته كالأنثى التي ولدتها ، بل هذه الأنثى وإن كانت أفضل منه في العبادة والمكانة إلا أنها لا تصلح عندهم لسدانة بيت الله تعالى ، بسبب حرمة اختلاطها بالرجال وما يعتريها من حيض وغير ذلك مما يعتري النساء .
ويحتمل أنه من كلامها الذى حكاه الله تعالى عنها فلا تكون الجملة معترضة ويكون المعنى : وليس الذكر الذى طلبته كالأنثى التي وضعتها ، بل هو خير منها لأنه هو الذى يصلح لسدانة بيتك وخدمته ، ومع هذا فأنا في كلتا الحالتين راضية بقضائك مستسلمة لإرادتك .
ثم حكى - سبحانك - أيضاً بعض ما قالته بعد ولادتها فقال { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم } .
قالوا : إن كلمة مريم معناها في لغتهم العابدة ، فأرادت بهذه التسمية التقرب إلى الله والالتماس منه أن يعصمها حتى يكون فعلها مطابقا لا سمها .
ومعنى { أُعِيذُهَا بِكَ } أمنعها وأجيرها بحفظك . مأخوذ من العوذ ، وهو أن تلتجىء إلى غيرك وتتعلق به . يقال : عاذ فلان بفلان إذا استجار به ، ومنه العوذة وهي التميمة والرقية .
والشيطان في لغة العرب : كل متمرد من الجن والإنس والدواب وكل شىء . وهو مشتق من شكن إذا بعد ، فهو بعيد بطبعه عن كل خير .
والرجيم : فعيل بمعنى مفعول . أى أنه مرجوم مطرود من رحمة الله ومن كل خير . وقيل رجيم بمعنى راجم لأنه يرجم الناس بالوساوس والشرور .
والمعنى : وإنى يا خالقي مع حبي لأن يكون المولود ذكراً لتتهيأ له خدمة بيتك فقد رضيت بما وهبت لي ، وإني قد سميت هذه الأثنى التي أعطيتنى إياها مريم ، أي العابدة الخادمة لك ، وإني أحصنها وأجيرها بكفالتك لها ولذريتها من الشيطان الرجيم الذى يزين للناس الشرور والمساوىء . قال القرطبى : وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخاً من نخسة الشيطان ، إلا ابن مريم وأمه " .
ثم قال أبو هريرة : " اقرءوا إن شئتم : وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم " .
قال علماؤنا : فأفاد هذا الحديث أن الله - تعالى - استجاب دعاء أم مريم . . . ولا يلزم من هذا أن نخس الشيطان يلزم منه إضلال المنخوس فإن ذلك ظن فاسد ، فكم تعرض الشيطان للأنبياء والأولياء بأنواع الإفساد والإغواء ، ومع ذلك عصمهم الله مما يرومه الشيطان كما قال تعالى :
{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } وقوله : { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } معطوف على { إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى } وما بينهما اعتراض . وهذا على قراءة الجمهور التي جاءت بتسكين التاء فى { وَضَعَتْ } في قوله - تعالى - { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } .
وأما على قراءة غير الجمهور التى جاءت بضم التاء فى قوله : { وَضَعَتْ } فيكون أيضاً معطوفاً على { إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى } ويكون هذا القول وما عطف عليه في محل نصب بالقول ، والتقدير : قالت : إني وضعتها أنثى ، وقالت : الله أعلم بما وضعت وقالت : ليس الذكر كالأنثى ، وقالت : إني سميتها مريم .
وأتى في قوله : { وَإِنِّي أُعِيذُهَا } بخبر إن فعلا مضارعا للدلالة على طلبها استمرار الاستعاذة دون انقطاعها ، بخلاف وضعتها ، وسميتها ، حيث أتى بالخبرين ماضيين لانقطاعهما . وقوله : { وَذُرِّيَّتَهَا } معطوف على الضمير المنصوب فى أعيذها .
وفى التنصيص على إعاذتها وإعاذة ذريتها من الشيطان الرجيم ، رمز إلى طلب بقائها على قيد الحياة حتى تكبر وتكون منها الذرية الصالحة .
ولكنها وضعتها أنثى ؛ ولم تضعها ذكرا !
( فلما وضعتها قالت : رب إني وضعتها أنثى - والله أعلم بما وضعت - وليس الذكر كالأنثى . وإني سميتها مريم . وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ) . .
لقد كانت تنتظر ولدا ذكرا ؛ فالنذر للمعابد لم يكن معروفا إلا للصبيان ، ليخدموا الهيكل ، وينقطعوا للعبادة والتبتل . ولكن ها هي ذي تجدها أنثى . فتتوجه إلى ربها في نغمة أسيفة :
ولكنها هي تتجه إلى ربها بما وجدت ، وكأنها تعتذر إن لم يكن لها ولد ذكر ينهض بالمهمة .
ولا تنهض الأنثى بما ينهض به الذكر في هذا المجال : ( وإني سميتها مريم ) . .
وهذا الحديث على هذا النحو فيه شكل المناجاة القريبة . مناجاة من يشعر أنه منفرد بربه . يحدثه بما في نفسه ، وبما بين يديه ، ويقدم له ما يملك تقديما مباشرا لطيفا . وهي الحال التي يكون فيها هؤلاء العباد المختارون مع ربهم . حال الود والقرب والمباشرة ، والمناجاة البسيطة العبارة ، التي لا تكلف فيها ولا تعقيد . مناجاة من يحس أنه يحدث قريبا ودودا سميعا مجيبا .
( وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ) . .
وهي الكلمة الأخيرة حيث تودع الأم هديتها بين يدي ربها ، وتدعها لحمايته ورعايته ، وتعيذها به هي وذريتها من الشيطان الرجيم . .
وهذه كذلك كلمة القلب الخالص ، ورغبة القلب الخالص . فما تود لوليدتها أمرا خيرا من أن تكون في حياطة الله من الشيطان الرجيم !
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى}، والأنثى عورة، فيها تقديم يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {والله أعلم بما وضعت}، ثم قالت: {وإني سميتها مريم}، وكذلك كان اسمها عند الله عز وجل. {وإني أعيذها بك وذريتها}: يعني عيسى {من الشيطان الرجيم}: الملعون، فاستجاب الله لها، فلم يقربها ولا ذريتها شيطان، وخشيت ألا تقبل الأنثى محررة، فلفتها في خرق ووضعتها في بيت المقدس عند المحراب، حيث يدرس القراء، فتساهم القوم عليها، لأنها بنت إمامهم وسيدهم، وهم الأحبار من ولد هارون أيهم يأخذها...
قال زكريا، وهو رئيس الأحبار: أنا آخذها، أنا أحقكم بها، لأن أختها أم يحيى عندي، فقال القراء: وإن كان في القوم من هو أقرب إليها منك؟ فلو تركت لأحق الناس بها لتركت لأمها، ولكنها محررة، ولكن هلم نتساهم عليها، من خرج سهمه فهو أحق بها، فاقترعوا، فقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وما كنت لديهم}: عندهم فتشهدهم، {إذ يلقون أقلامهم}، حين اقترعوا ثلاث مرات بأقلامهم التي كانوا يكتبون بها الوحي أيهم يكفلها؟ أيهم يضمها؟ فقرعهم زكريا فقبضها، ثم قال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وما كنت لديهم إذ يختصمون} (آل عمران: 44) في مريم...
القرطبي: روى أشهب عن مالك قال: إنها ربتها حتى ترعرعت، وحينئذ أرسلتها.
ابن العربي: قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: كل مولود يطعن الشيطان في خاصرته إلا ابن مريم، فإنه طعنه من وراء حجاب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{فَلَمّا وَضَعَتْها}: فلما وضعت النذيرةَ، ولذلك أنث. ولو كانت الهاء عائدة على «ما» التي في قوله: {إني نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا} لكان الكلام: فلما وضعته قالت: ربّ إني وضعته أنثى. {وَضَعْتُها}: ولدتها. {قَالَتْ رَب إني وَضَعْتُها أُنْثَى}: ولدت النذيرة أنثى. {وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ}: والله أعلم من كل خلقه بما وضعت. ثم رجع جلّ ذكره إلى الخبر عن قولها، وأنها قالت اعتذارا إلى ربها مما كانت نذرت في حملها فحرّرته لخدمة ربها: {وَلَيْسَ الذّكَرُ كالأُنْثَى}: لأن الذكر أقوى على الخدمة وأقوم بها، وأن الأنثى لا تصلح في بعض الأحوال لدخول القدس والقيام بخدمة الكنيسة لما يعتريها من الحيض والنفاس. {وإني سَمّيْتُها مَرْيَم}.
{وَإِنّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرّيّتَها مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ}: وإني أجعل معاذها ومعاذ ذرّيتها من الشيطان الرجيم بك. وأصل المعاذ: الموئل والملجأ والمعقل. فاستجاب الله لها فأعاذها الله وذرّيتها من الشيطان الرجيم، فلم يجعل له عليها سبيلاً.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ نَفْسِ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاّ وَالشّيْطَانُ يَنَالُ مِنْهُ تِلْكَ الطّعْنَةَ، وَبِهَا يَسْتَهِلّ الصّبِيّ إِلاّ مَا كَانَ مِنْ مَرْيَمَ ابْنَةِ عِمْرَانَ فَإِنّها لَمّا وَضَعَتْها قَالَتْ: {رَبّ إِنّي أُعِيذُها وَذُرّيّتَها مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ} فَضُرِبَ دُونَها حِجابٌ، فَطَعَنَ فِيهِ».
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إني وضعتها أنثى} مع علمها أن الله عالم بما في بطنها وبما وضعتها في وجهين: والثاني: أن الإنسان إذا رأى شيئا عجيبا قد ينطق بذلك،... ويحتمل أن طلبت ردها إلى منافعها إذ وضعت الأنثى لما رأت لا تصلح لذلك...
ويحتمل قولها: {إني وضعتها أثنى} التعريض لإجابة الله تعالى في ما قصدت من طاعته بالنذر، وإن لم تكن صلحت لما قصدت، ثم أجيبت في قولها بقوله: {فتقبلها ربها بقبول حسن} نحو ما يتقبل لو كان ذكرا في الاختيار والإكرام، وجعلها خير نساء العالمين...
{وليس الذكر كالأنثى} على إثر قولها: {قالت رب إني وضعتها أنثى} لما تحتاج الأنثى إلى فضل حفظ وتعاهد، والقيام بأسبابها [ما] لا يحتاج الذكر،... وقوله تعالى: {وإني سميتها مريم} فيه دلالة مريم أن التسمية إلى الأمهات في الإناث دون الآباء،...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: فلم قالت: إني وضعتها أنثى؟ وما أرادت إلى هذا القول؟ قلت: قالته تحسراً على ما رأت من خيبة رجائها وعكس تقديرها، فتحزنت إلى ربها لأنها كانت ترجو وتقدر أن تلد ذكراً، ولذلك نذرته محرّراً للسدانة. ولتكلمها بذلك على وجه التحسر والتحزن قال الله تعالى: {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} تعظيماً لموضوعها وتجهيلا لها بقدر ما وهب لها منه. ومعناه: والله أعلم بالشيء الذي وضعت وما علق به من عظائم الأمور، وأن يجعله وولده آية للعالمين وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئاً. فلذلك تحسرت...
وفي قراءة ابن عباس «والله أعلم بما وَضَعْتِ» على خطاب الله تعالى لها أي إنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب وما علم الله من عظم شأنه وعلوّ قدره. وقرئ: «وضعت». بمعنى: ولعلّ لله تعالى فيه سراً وحكمة، ولعلّ هذه الأنثى خير من الذكر تسلية لنفسها...
فإن قلت: فلم ذكرت تسميتها مريم لربها؟ قلت: لأن مريم في لغتهم بمعنى العابدة، فأرادت بذلك التقريب والطلب إليه أن يعصمها حتى يكون فعلها مطابقاً لاسمها، وأن يصدق فيها ظنها بها. ألا ترى كيف أتبعته طلب الإعاذة لها ولولدها من الشيطان وإغوائه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه الآية خطاب من الله تعالى لمحمد عليه السلام،... وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر «وضعْتُ»، بضم التاء وإسكان العين، وهذا أيضاً مخرج قولها، {رب إني وضعتها أنثى} من معنى الخبر إلى معنى التلهف، وإنما تلهفت لأنهم كانوا لا يحررون الإناث لخدمة الكنائس ولا يجوز ذلك عندهم، وكانت قد رجت أن يكون ما في بطنها ذكراً فلما وضعت أنثى تلهفت على فوت الأمل وأفزعها أن نذرت ما لا يجوز نذره،... وفي قولها {وإني سميتها مريم} سنة تسمية الأطفال قرب الولادة ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ولد لي الليلة مولود فسميته باسم أبي إبراهيم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال تعالى: {والله أعلم بما وضعت} أي بمكانة الأنثى التي وضعتها وأنها خير من كثير من الذكور. ففيه دفع لما يوهمه قولها من خسة المولودة وانحطاطها عن مرتبة الذكور وقد بين ذلك بقوله: {وليس الذكر} الذي طلبت أو تمنت: {كالأنثى} التي وضعت بل هذه الأنثى خير مما كانت ترجو من الذكر...
{وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم}... فمعنى أعوذ بالله من الشيطان. ألجأ إليه وأعتصم به منه وأعاذه به منه: جعله معاذا له يمنعه ويعصمه منه، والإعاذة بالله تكون بالدعاء والرجاء... وفي حديث أبي هريرة عند الشيخين... والحديث صحيح الإسناد بغير خلاف ويشهد له ومن وجه حديث شق الصدر وغسل القلب بعد استخراج حظ الشيطان منه. وهو أظهر في التمثيل ولعل معناه أنه لم يبق للشيطان نصيب من قبله صلى الله عليه وسلم، ولا بالوسوسة كما يدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في شيطانه "إلا إن الله أعانني عليه فأسلم "رواه مسلم وفي رواية زيادة "فلا يأمر إلا بخير"...
فإن قيل: إن حديث استخراج حظ الشيطان منه ونحوه يدل على أنه كان له حظ منه قبل ذلك. وهذا ينافي قوله تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [الحجر: 42] وهو صلى الله عليه وسلم صفوة عباده وخاتم رسله المصطفين الأخيار فإن الآية تنفي سلطة الشيطان عن عباد الرحمن في كل آن...
فالجواب: إن الآية تنفي السلطان عليهم لا أصل الوسوسة فإذا وسوس الشيطان ولم تطع وسوته لم يكن له سلطانا،... وجملة القول إن الشيطان لم يكن له عليه سلطان ما ولكن كان له حظ وطمع فزال وغلبه نور النبوة حتى يئس وزال حظه فلم يأمر إلا بخبر أو أسلم كما ورد...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(رب إني وضعتها أنثى).. (والله أعلم بما وضعت)...
. (وليس الذكر كالأنثى)... وهذا الحديث على هذا النحو فيه شكل المناجاة القريبة. مناجاة من يشعر أنه منفرد بربه. يحدثه بما في نفسه، وبما بين يديه، ويقدم له ما يملك تقديما مباشرا لطيفا. وهي الحال التي يكون فيها هؤلاء العباد المختارون مع ربهم. حال الود والقرب والمباشرة، والمناجاة البسيطة العبارة، التي لا تكلف فيها ولا تعقيد. مناجاة من يحس أنه يحدث قريبا ودودا سميعا مجيبا. (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم).. وهي الكلمة الأخيرة حيث تودع الأم هديتها بين يدي ربها، وتدعها لحمايته ورعايته، وتعيذها به هي وذريتها من الشيطان الرجيم.. وهذه كذلك كلمة القلب الخالص، ورغبة القلب الخالص. فما تود لوليدتها أمرا خيرا من أن تكون في حياطة الله من الشيطان الرجيم!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {والله أعلم بما وضعت} جملة معترضة، وقرأ الجمهور: وضعَتْ بسكون التاء فيكون الضمير راجعاً إلى امرأة عِمران. وهو حينئذ من كلام الله تعالى وليس من كلامها المحكي، والمقصود منه: أنّ اللَّه أعلم منها بنفاسة ما وضعت، وأنها خير من مطلق الذكر الذي سألْته، فالكلام إعلام لأهل القرآن بتغليطها، وتعليم بأنّ من فوّض أمره إلى الله لا ينبغي أن يتعقّب تدبيره...
وقوله: {وإني سميتها مريم} الظاهر أنها أرادت تسميتها باسم أفضل نبيئة في بني إسرائيل وهي مريم أختُ موسى وهارون، وخَوّلها أنّ أباها سَمِيُّ أبي مريم أختِ موسى...
وتكرُّر التأكيد في {وإنّي سميتها} {وإنّي أعيذها بك} للتأكيد: لأنّ حال كراهيتها يؤذن بأنها ستعْرض عنها فلا تشتغل بها، وكأنها أكدت هذا الخبر إظهاراً للرضا بما قدّر الله تعالى، ولذلك انتقلت إلى الدعاء لها الدال على الرضا والمحبة.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
فالمراد من آية {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} إنما هو مجرد تقرير حقيقة فطرية وطبيعية، هي أن الله تعالى خلق الذكر لأمر، وخلق الأنثى لأمر آخر، وليس كل ما يمكن القيام به لأحدهما ممكنا للثاني، فطبيعتهما مختلفة، ومهمتهما متنوعة، وهما عنصران متكاملان، بحيث لا يكمل الذكر إلا بالأنثى، ولا تكمل الأنثى إلا بالذكر...
{وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)} فيه إشارة إلى ما ينبغي للأبوين من تحصين وليدهما بالدعاء الصالح والتوجيه الصالح، ابتداء من ساعة خروجه من بطن أمه، بحيث تكون تلك الفترة فترة ابتهاج وشكر لله، من جهة، وفترة ابتهال إلى الله ودعاء، من جهة أخرى...
قد قالت: {إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَى} وقال الله: {وليس الذكر كالأنثى}. إن الحق يقول لها: لا تظني أن الذكر الذي كنت تتمنينه سيصل إلى مرتبة هذه الأنثى، إن هذه الأنثى لها شأن عظيم...
إنه تصور أن الحق قد قال: أنت تريدين ذكرا بمفهومك في الوفاء بالنذر، وليكون في خدمة البيت، ولقد وهبت لك المولود أنثى، ولكني سأعطي فيها آية أكبر من خدمة البيت، وأنا أريد بالآية التي سأعطيها لهذه الأنثى مساندة عقائد، لا مجرد خدمة رقعة تقام فيها شعائر. إنني سأجعل من هذه الآية مواصلة لمسيرة العقائد في الدنيا إلى أن تقوم الساعة. ولأنني أنا الخالق، سأوجد في هذه الأنثى آية لا توجد في غيرها، وهي آية تثبت طلاقة قدرة الحق،... {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}...
يقال عن الشيطان إنه إذا سمع ذكر الله فإنه يخنس أي يتراجع، ووصفه القرآن الكريم بأنه "الخنَّاس"، إن الشيطان إنما ينفرد بالإنسان حين يكون الإنسان بعيدا عن الله، ولذلك فالحق يُعَلِّمُ الإنسان: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200]. إن الشيطان يرتعد فرقا ورعشة من الاستعاذة بالله. وعندما يتكرر ارتعاد الشيطان بهذه الكلمة؛ فإنه يعرف أن هذا الإنسان العابد لن يحيد عن طاعة الله إلى المعاصي...
وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يجيء الرجل امرأته، ومجيء الأهل هو مظنة لمولود قد يجيء، فيقول العبد: "اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني "(من دعاء الرسول). إن من يقول هذا القول قبل أن يحدث التخلق "فلن يكون للشيطان ولاية أو قدرة على المولود الذي يأتي بإذن الله...
كلمة "ذرية" تطلق على الواحد وعلى الاثنين، وعلى الثلاثة أو أكثر. والذرية هنا بالنسبة لمريم عليها السلام هي عيسى عليه السلام،...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وبقيت هذه المرأة الصالحة في أجواء هذه الروحيّة طيلة أيام الحمل... وجاء اليوم الموعود الذي انتظرته ليتحقق حلمها، وكانت المفاجأة غير المنتظرة، فالمولود أنثى، والأنثى لا تصلح للخدمة في بيت المقدس، لأنها من شؤون الذكور، فهتفت هتاف اليائس المعتذر الخائب، لتعلن أن الحلم لم يتحقق، ولم تكن بحاجة إلى هذا الإعلان، فإن الله أعلم بما وضعت، لأنه هو الذي خلقه وصوّره، وليس الذكر كالأنثى، فلو كان المولود ذكراً لكان شأنه أن ينتهي إلى خادمٍ بسيطٍ في بيت المقدس، ولكن هذه الأنثى التي وضعتها ستكون مؤهلة لكرامة الله، حيث تظهر من خلالها قدرته في ولادة عيسى منها من دون أب.
وبدأت المرأة تفكر من جديد في ما توحي به الآية فهي لا تريد أن تبتعد عن الله في أحلامها الروحيّة، فإذا لم يقدّر لها أن تلد ذكراً خادماً لبيت المقدس، وولدت بدلاً منه أنثى، فإنها تعود لتناجي الله في أمنياتها الجديدة، فقد أسمتها «مريم» التي تعني العابدة في لغتهم، كما يقال لتكون إنسانةً عابدةً لله مطيعةً له في ما يأمر به وينهى عنه، ثم طلبت من الله أن يعيذها وذريتها من الشيطان الرجيم، فيجيرهم من وسوسته وتثبيطه ومكره وخدعه ومكائده، ليستطيعوا السير في خط الطاعة من دون أيِّ انحراف أو زلل.
إننا نكتشف في هذه المرأة إنسانةً تعيش العلاقة بالله كأروع ما تكون العلاقات وكأصفى ما تكون المشاعر، وكأعظم ما تتحرك الأفكار، فهي تفكر في مستقبل ذريتها من خلال الله، لتقرّبهم إليه وتبعدهم عن الشيطان.