تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلۡمُلۡكِ تُؤۡتِي ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُۖ بِيَدِكَ ٱلۡخَيۡرُۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (26)

{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }

يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم { قل اللهم مالك الملك } أي : أنت الملك المالك لجميع الممالك ، فصفة الملك المطلق لك ، والمملكة كلها علويها وسفليها لك والتصريف والتدبير كله لك ، ثم فصل بعض التصاريف التي انفرد الباري تعالى بها ، فقال : { تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } وفيه الإشارة إلى أن الله تعالى سينزع الملك من الأكاسرة والقياصرة ومن تبعهم ويؤتيه أمة محمد ، وقد فعل ولله الحمد ، فحصول الملك ونزعه تبع لمشيئة الله تعالى ، ولا ينافي ذلك ما أجرى الله به سنته من الأسباب الكونية والدينية التي هي سبب بقاء الملك وحصوله وسبب زواله ، فإنها كلها بمشيئة الله لا يوجد سبب يستقل بشيء ، بل الأسباب كلها تابعة للقضاء والقدر ، ومن الأسباب التي جعلها الله سببا لحصول الملك الإيمان والعمل الصالح ، التي منها اجتماع المسلمين واتفاقهم ، وإعدادهم الآلات التي يقدروا عليها والصبر وعدم التنازع ، قال الله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم } الآية فأخبر أن الإيمان والعمل الصالح سبب للاستخلاف المذكور ، وقال تعالى : { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم } الآية وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين } فأخبر أن ائتلاف قلوب المؤمنين وثباتهم وعدم تنازعهم سبب للنصر على الأعداء ، وأنت إذا استقرأت الدول الإسلامية وجدت السبب الأعظم في زوال ملكها ترك الدين والتفرق الذي أطمع فيهم الأعداء وجعل بأسهم بينهم ، ثم قال تعالى : { وتعز من تشاء } بطاعتك { وتذل من تشاء } بمعصيتك { إنك على كل شيء قدير } لا يمتنع عليك أمر من الأمور بل الأشياء كلها طوع مشيئتك وقدرتك .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلۡمُلۡكِ تُؤۡتِي ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُۖ بِيَدِكَ ٱلۡخَيۡرُۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (26)

من توجيهات القرآن الكريم :

بعد أن تحدثت سورة آل عمران ، عن المعرضين عن الحق أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم كما أمر كل مؤمن أن يتوجه إليه بالضراعة . فقال تعالى : { قُلِ اللهم . . . } .

قال القرطبي : قال ابن عباس وأنس بن مالك : " لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، ووعد أمته ملك فارس والروم ، قال المنافقون واليهود : هيهات هيهات ! من أين لمحمد ملك فارس والروم وهم أعز وأمنع من ذلك ، ألم يكف محمداً مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم . فأنزل الله هذه الآية .

والأمر بقوله { قُلِ } للنبى صلى الله عليه وسلم ولكل من يتأتى له الخطاب من المؤمنين .

وكلمة { اللهم } يرى الخليل وسيبويه أن أصلها يا الله فلما استعملت دون حرف النداء الذى هو " يا " جعلوا هذه الميم المشددة التى فى آخرها عوضا عن حرف النداء ، وهذا التعويض من خصائص الاسم الجليل ، كما اختص بجواز الجمع فيه بين " يا " و " أل " وبقطع همزته ، ودخول تاء القسم عليه .

والمعنى . قل أيها المخاطب على سبيل التعظيم لربك ، والشكر له ، والتوكل عليه والضراعة إليه ، قل : يا الله يا مالك الملك أنت وحدك صاحب السلطان المطلق في هذا الوجود ، بحيث تتصرف فيه كيف تشاء ، إيجادا وإعداما ، وإحياء وإماتة ، وتعذيبا وإثابة ، من غير أن ينازعك في ذلك أي منازع .

فكأن في هذه الجملة الكريمة { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك } دعاءين خاشعين :

أما الدعاء الأول فهو بلفظ الجلالة المعبر عنه بقوله { اللهم } أى يا الله ، وفى هذا النداء كل معانى العبودية والتنزيه والتقديس والخضوع .

وأما الدعاء الثاني فهو المعبر عنه بقوله { مَالِكَ الملك } أى يا مالك الملك ، وفى هذا النداء كل معانى الإحساس بالربوبية ، والضعف أمام قدرة الله وسلطانه .

فقوله { مَالِكَ } منصوب بحرف النداء المحذوف . كما في قوله { قُلِ اللهم فَاطِرَ السماوات والأرض } أى يا فاطر السموات والأرض .

ثم فصل - سبحانه - بعض مظاهر خلقه التي تدل على أنه هو مالك الملك على الحقيقة فقال - تعالى - { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ } .

أى أنت وحدك الذي تعطى الملك من تشاء إعطاءه من عبادك ، وتنزعه ممن تشاء ، نزعه منهم ، فأنت المتصرف في شئون خلقك لا راد لقضائك ولا معقب لحكمك .

وعبر بالإيتاء الذى هو مجرد لإعطاء دون التمليك المؤذن بثبوت المالكية ، للتنبيه على أن المالكية على الحقيقة إنما هي مختصة بالله رب العالمين ، أما ما يعطيه لغيره من ملك فهو عارية مستردة ، وهو شىء زائل لا يدوم .

والتعبير عن إزالة الملك بقوله { وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ } يشعر بأنه - سبحانه - فى قدرته أن يسلب هذا العطاء من أى مخلوق مهما بلغت سعة ملكه ، ومهما اشتدت ، قوته ، وذلك لأن لفظ النزع يدل على أن المنزع منه الشىء كان متمسكا به ، فسلبه الله منه بمقتضى قدرته وحكمته .

والمراد بالملك هنا السلطان ، وقيل النبوة ، وقيل غير ذلك .

قال الفخر الرازي : وقوله { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ } محمول على جميع أنواع الملك فيدخل فيه ملك النبوة ، وملك العقل ، والصحة ، والأخلاق الحسنة . وملك النفاذ والقدرة ، وملك المحبة ، وملك الأموال ، وذلك لأن اللفظ عام فالتخصيص من غير دليل لا يجوز " .

ومفعول المشيئة في الجملتين محذوف أى : تؤتى الملك من تشاء إيتاءه وتنزعه ممن تشاء نزعه منه .

أما الأمر الثاني الذي يدل على أنه - سبحانه - هو مالك الملك على الحقيقة فهو قوله { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } .

العزة - كما يقول الراغب - حالة مانعة للإنسان من أن يغلب ، من قولهم : أرض عزاز : أى صلبة ، وتعزز اللحم : اشتد وعز ، كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه . . . . والعزيز الذى يقهر ولا يغلب .

وتذل ، من الذل ، وهو ما كان عن قهر ، يقال : ذل يذل ذلا إذا قهر وغلب والعزة صفة نفسية يحس بها المؤمن الصادق في إيمانه ، لأنه يشعر دائما بأنه عبد الله وحده وليس عبدا لأحد سواه ، قال - تعالى - { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } فالمؤمنون الصادقون أعزاء ولو كانوا في المال والجاه فقراء . أما الكافرون أذلاء ، لأنهم خضعوا لغير الله الواحد القهار .

والمعنى : أنت يا الله يا ملك الملك ، أنت وحدك الذى تؤتى الملك لمن تشاء أن تؤتيه له ، وتنزعه ممن تريد نزعه منه ، وأنت وحدك الذي تعز من تشاء إعزازه بالنصر والتوفيق ، وتذل من تشاء إذلاله بالهزيمة والخذلان ، ثم ختم - سبحانه - الآية بهذا التسليم المطلق من المؤمنين لذته فقال - تعالى - : { بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

أى أنت وحدك الذى تملك الخير كله ، وتتصرف فيه حسب إرادتك ومشيئتك ، لأنك على كل شىء قدير .

وأل في الخير للاستغراق الشامل ، إذ كل خير فهو بيده - سبحانه - وقدرته ، وتقديم الجار والمجرور { بِيَدِكَ } لإفادة الاختصاص ، أى بيدك وحدك على الحقيقة لا بيد غيرك ، وجملة " إنك على كل شيء قدير " تعليلية .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : " كيف قال { بِيَدِكَ الخير } فذكر الخير دون الشر ؟ قلت : لأن الكلام إنما وقع في الخير الذى يسوقه إلى المؤمنين وهو الذى أنكرته الكفرة فقال بيدك الخير ، تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك ، ولأن أفعال الله - تعالى - من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله كإيتاء الملك ونزعه " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلۡمُلۡكِ تُؤۡتِي ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُۖ بِيَدِكَ ٱلۡخَيۡرُۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (26)

18

بعدئذ يلقن رسول الله [ ص ] وكل مؤمن ، أن يتجه إلى الله ، مقررا حقيقة الألوهية الواحدة ، وحقيقة القوامة الواحدة ، في حياة البشر ، وفي تدبير الكون . فهذه وتلك كلتاهما مظهر للألوهية وللحاكمية التي لا شريك لله فيها ولا شبيه :

( قل : اللهم مالك الملك : تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء . وتعز من تشاء وتذل من تشاء . بيدك الخير . إنك على كل شيء قدير . تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل . وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي . وترزق من تشاء بغير حساب )

نداء خاشع . . في تركيبه اللفظي إيقاع الدعاء . وفي ظلاله المعنوية روح الابتهال . وفي التفاتاته إلى كتاب الكون المفتوح استجاشة للمشاعر في رفق وإيناس . وفي جمعه بين تدبير الله وتصريفه لأمور الناس ولأمور الكون إشارة إلى الحقيقة الكبيرة : حقيقة الألوهية الواحدة القوامة على الكون والناس ؛ وحقيقة أن شأن الإنسان ليس إلا طرفا من شأن الكون الكبير الذي يصرفه الله ؛ وأن الدينونة لله وحده هي شأن الكون كله كما هي شأن الناس ؛ وأن الانحراف عن هذه القاعدة شذوذ وسفه وانحراف !

( قل : اللهم مالك الملك . تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء . وتعز من تشاء وتذل من تشاء ) . .

إنها الحقيقة الناشئة من حقيقة الألوهية الواحدة . . إله واحد فهو المالك الواحد . . هو ( مالك الملك ) بلا شريك . . ثم هو من جانبه يملك من يشاء ما يشاء من ملكه . يملكه إياه تمليك العارية يستردها صاحبها ممن يشاء عندما يشاء . فليس لأحد ملكية أصيلة يتصرف فيها على هواه . إنما هي ملكية معارة له خاضعة لشروط المملك الأصلي وتعليماته ؛ فإذا تصرف المستعير فيها تصرفا مخالفا لشرط المالك وقع هذا التصرف باطلا . وتحتم على المؤمنين رده في الدنيا . أما في الآخرة فهو محاسب على باطله ومخالفته لشرط المملك صاحب الملك الأصيل . .

وكذلك هو يعز من يشاء ويذل من يشاء بلا معقب على حكمه ، وبلا مجير عليه ، وبلا راد لقضائه ، فهو صاحب الأمر كله بما أنه - سبحانه - هو الله . . وما يجوز أن يتولى هذا الاختصاص أحد من دون الله .

وفي قوامة الله هذه الخير كل الخير . فهو يتولاها سبحانه بالقسط والعدل . يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء بالقسط والعدل . ويعز من يشاء ويذل من يشاء بالقسط والعدل . فهو الخير الحقيقي في جميع الحالات ؛ وهي المشيئة المطلقة والقدرة المطلقة على تحقيق هذا الخير في كل حال : ( بيدك الخير ) . . ( إنك على كل شيء قدير ) . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلۡمُلۡكِ تُؤۡتِي ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُۖ بِيَدِكَ ٱلۡخَيۡرُۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (26)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ قُلِ اللّهُمّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمّنْ تَشَآءُ وَتُعِزّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنّكَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

أما تأويل قوله { قُلِ اللّهُمّ } فإنه قل يا محمد : يا الله .

واختلف أهل العربية في نصب ميم { اللّهُمّ } وهو منادى ، وحكم المنادى المفرد غير المضاف الرفع ، وفي دخول الميم فيه ، وهو في الأصل «الله » بغير ميم . فقال بعضهم : إنما زيدت فيه الميمان لأنه لا ينادى ب«يا » كما ينادى الأسماء التي لا ألف فيها ، وذلك أن الأسماء التي لا ألف ولا لام فيها تنادى ب«يا » ، كقول القائل : يا زيد ويا عمرو ، قال : فجعلت الميم فيه خلفا من «يا » ، كما قالوا : فم ودم وهم وزُرْقُم وسُتْهُم ، وما أشبه ذلك من الأسماء والنعوت التي يحذف منها الحرف ، ثم يبدل مكانه ميم ، قال : فكذلك حذفت من اللهم «يا » التي ينادى بها الأسماء التي على ما وصفنا ، وجعلت الميم خلفا منها في آخر الاسم . وأنكر ذلك من قولهم آخرون ، وقالوا : قد سمعنا العرب تنادي : اللهمّ ب«يا » ، كما تناديه ، ولا ميم فيه . قالوا : فلو كان الذي قال هذا القول مصيبا في دعواه لم تدخل العرب «يا » ، وقد جاءوا بالخلف منها . وأنشدوا في ذلك سماعا من العرب :

وَما عَلَيْكِ أنْ تَقُولي كُلّما *** صَلّيْتِ أوْ كَبّرْتِ يا اللّهُمّ

*** ارْدُدْ إلينا شَيْخَنَا مُسَلّما ***

ويروى : «سبحت أو كبرت » . قالوا : ولم نر العرب زادت مثل هذه الميم إلا مخففة في نواقص الأسماء مثل فم ودم وهم قالوا : ونحن نرى أنها كلمة ضمّ إليها «أمّ » بمعنى «يا الله أمّنا بخير » ، فكثرت في الكلام فاختلطت به . قالوا : فالضمة التي في الهاء من همزة «أم » لما تركت انتقلت إلى ما قبلها . قالوا : ونرى أن قول العرب هلمّ إلينا مثلها ، إنما كان هلمّ «هل » ضمّ إليها «أمّ » فتركت على نصبها . قالوا : ومن العرب من يقول إذا طرح الميم : يا ألله اغفر لي » ، و«يا الله اغفر لي » ، بهمز الألف من الله مرّة ، ووصلها أخرى ، فمن حذفها أجراها على أصلها لأنها ألف ولام ، مثل الألف واللام اللتين يدخلان في الأسماء المعارف زائدتين . ومن همزها توهم أنها من الحرف ، إذ كانت لا تسقط منه . وأنشدوا في همز الألف منها :

مُبارَكٌ هُوَ وَمَنْ سَمّاهُ *** على اسمكَ اللّهُمّ يا أللّهُ

قالوا : وقد كثرت اللهمّ في الكلام حتى خففت ميمها في بعض اللغات ، وأنشدوا :

كحَلْفَةٍ مِنْ أبي رِياحٍ *** يَسْمَعُها اللّهُمُ الكُبارُ

والرواة تنشد ذلك :

«يَسْمَعُها لاهُهُ الكُبارُ » .

وقد أنشده بعضهم :

«يَسْمَعُها اللّهُ والكُبارُ » .

القول في تأويل قوله تعالى : { مالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمّنْ تَشاءُ } .

يعني بذلك : يا مالك الملك ، يا من له ملك الدنيا والاَخرة خالصا دون غيره . كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير قوله : { قُلِ اللّهُمّ مالكَ المُلْكِ } أي ربّ العباد الملك لا يقضي فيهم غيرك .

وأما قوله : { تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشاءُ } فإنه يعني : تعطي الملك من تشاء فتملّكه وتسلطه على من تشاء . وقوله : { وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمّنْ تَشاءُ } أن تنزعه منه ، فترك ذكر «أن تنزعه منه » اكتفاء بدلالة قوله : { وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمّنْ تَشاءُ } عليه ، كما يقال : خذ ما شئت ، وكن فيما شئت ، يراد : خذ ما شئت أن تأخذه ، وكن فيما شئت أن تكون فيه ، وكما قال جل ثناؤه : { فِي أيّ صُورَةٍ ما شاءَ ركّبَكَ } يعني : في أيّ صورة شاء أن يركبك فيها ركبك . وقيل : إن هذه الاَية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم جوابا لمسألته ربه أن يجعل ملك فارس والروم لأمته . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة¹ وذكر لنا أن نبيّ صلى الله عليه وسلم سأل ربه جلّ ثناؤه أن يجعل له ملك فارس والروم في أمته ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { قُلِ اللّهُمّ مالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشاءُ } . . . إلى : { إنّكَ على كلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا ولله أعلم أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه عزّ وجلّ أن يجعل ملك فارس والروم في أمته ، ثم ذكر مثله .

وروي عن مجاهد أنه كان يقول : معنى الملك في هذا الموضع النبوّة . ذكر الرواية عنه بذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمّنْ تَشاءُ } قال : النبوّة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَتُعِزّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إنّكَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

يعني جلّ ثناؤه : وتعزّ من تشاء بإعطائه الملك والسلطان وبسط القدرة له ، وتذلّ من تشاء بسلبك ملكه وتسليط عدوّ عليه . { بِيَدِكَ الخَيْرُ } أي كلّ ذلك بيدك وإليك ، لا يقدر على ذلك أحد¹ لأنك على كل شيء قدير ، دون سائر خلقك ، ودون من اتخذه المشركون من أهل الكتاب والأميين من العرب إلها وربا يعبدونه من دونك ، كالمسيح والأنداد التي اتخذها الأميون ربّا . كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير قوله : { تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشاءُ } . . . الاَية ، أي إن ذلك بيدك لا إلى غيرك ، { إنّكَ على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي لا يقدر على هذا غيرك بسلطانك وقدرتك .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلۡمُلۡكِ تُؤۡتِي ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُۖ بِيَدِكَ ٱلۡخَيۡرُۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (26)

استئناف ابتدائي المقصود منه التعريض بأهل الكتاب بأنّ إعراضهم إنّما هو حسد على زوال النبوءة منهم ، وانقراض الملك منهم ، بتهديدهم وبإقامة الحجة عليهم في أنّه لا عجب أن تنتقل النبوءة من بني إسرائيل إلى العرب ، مع الإيماء إلى أنّ الشريعة الإسلامية شريعة مقارنة للسلطان والمُلك .

و { اللهم } في كلام العرب خاص بنداء الله تعالى في الدعاء ، ومعناه يا الله . ولما كثر حذف حرف النداء معه قال النحاة : إنّ الميم عوض من حرف النداء يريدون أنّ لحاق الميم باسم الله في هذه الكلمة لما لم يقع إلاّ عند إرادة الدعاء صار غنيّاً عن جلب حرف النداء اختصاراً ، وليس المراد أنّ الميم تفيد النداء . والظاهر أنّ الميم علامة تنوين في اللغة المنقول منها كلمة ( اللَّهم ) من عبرانية أو قحطانية وأنّ أصلها لاَ هُم مرداف إله .

ويدل على هذا أنّ العرب نطقوا به هكذا في غير النداء كقول الأعشى :

كدعوةٍ من أبي رباح *** يَسْمَعُها اللهُم الكبير

وأنّهم نطقوا به كذلك مع النداء كقوللِ أبي خراش الهذلي :

إنِّي إذا ما حَدَتٌ ألَمَّا *** أقُول يا اللهُمّ يا اللهُمّا

وأنّهم يقولون يا الله كثيراً . وقال جمهور النحاة : إنّ الميم عوض عن حرف النداء المحذوف وإنّه تعويض غير قياسي : وإنّ ما وقع على خلاف ذلك شذوذ . وزعم الفراء أنّ اللهم مختزل من اسم الجلالة وجملة أصلها « يا الله أمّ » أي أقبل علينا بخير ، وكل ذلك تكلّف لا دليل عليه .

والمالك هو المختصّ بالتصرّف في شيء بجميع ما يتصرّف في أمثاله مما يُقصد له من ذواتها ، ومنافعها ، وثمراتها ، بما يشاء فقد يكون ذلك بالانفراد ، وهو الأكثر ، وقد يكون بمشاركةٍ : واسعةٍ ، أو ضيّقة .

والمُلك بضم الميم وسكون اللام نوع من المِلك بكسر الميم فالملك بالكسر جنسٌ والمُلك بالضم نوعٌ منه وهو أعلى أنواعه ، ومعناه التصرّف في جماعة عظيمة ، أو أمة عديدة تصرُّف التدبير للشؤون ، وإقامةِ الحقوق ، ورعاية المصالح ، ودفع العدوان عنها ، وتوجيهها إلى ما فيه خيرها ، بالرغبة والرهبة . وانظر قوله تعالى : { قالوا أنّى يكون له المُلك علينا } في سورة البقرة ( 247 ) وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى : { مالك يوم الدين } [ الفاتحة : 4 ] ، فمعنى مالك الملك أنّه المتصرّف في نوع الملك ( بالضم ) بما يشاء ، بأن يراد بالمُلك هذا النوع . والتعريف في المُلك الأول لاستغراق الجنس : أي كل ملك هو في الدنيا . ولما كان المُلك ماهية من المواهي ، كان معنى كون الله مالك المُلك أنّه المالك لتصريف المُلك ، أي لإعطائه ، وتوزيعه ، وتوسيعه ، وتضييقه ، فهو على تقدير مضاف في المعنى .

والتعريف في المُلك الثاني والثالث للجنس ، دون استغراق أي طائفة وحصّة من جنس المُلْك ، والتعويل في الفرق بين مقدار الجنس على القرائن .

ولذلك بينت صفة مالك الملك بقوله : { تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } [ آل عمران : 26 ] فإنّ إيتاءه ونزعه مقول عليه بالتشكيك : إيجاباً ، وسلباً ، وكثرة وقلّة .

والنزع : حقيقة إزالة الجِرم من مكانه : كنزع الثوب ، ونزع الماء من البئر ، ويستعار لإزالة الصفات والمعاني كما قال تعالى : { ونزعنا ما في صدورهم من غلّ } [ الأعراف : 43 ] بتشبيه المعنى المتمكّن بالذات المتّصلة بالمكان ، وتشبيه إزالته بالنزع ، ومنه قوله هنا : { تنزع الملك } أي تزيل وصف الملك ممّن تشاء .

وقوله : { بيدك الخير } تمثيل للتصرّف في الأمر ؛ لأنّ المتصرّف يكون أقوى تصرّفه بوضع شيء بيده ، ولو كان لا يوضع في اليد ، قال عنترة بن الأخرس المَعْني الطائي :

فما بيديك خير أرتجيه *** وغيرُ صدودَك الخطبُ الكبير

وهذا يعدّ من المتشابه لأنّ فيه إضافة اليد إلى ضمير الجلالة ، ولا تشابه فيه : لظهور المراد من استعماله في الكلام العربي . والاقتصار على الخير في تصرّف الله تعالى اكتفاء كقوله تعالى : { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] أي والبرد .

وكان الخير مقتضى بالذات أصالة والشرّ مقتضى بالعَرَض قال الجلال الدواني في شرح ديباجة هياكل النور :

« وخُص الخير هنا لأنّ المقام مقام ترجّي المسلمين الخير من الله ، وقد علم أنّ خيرهم شرّ لضدّهم كما قيل :

* مصائب قوم عند يوم فوائدُ *

أي « الخير مقتضَى الذات والشرّ مقتضي بالعرض وصادر بالتَبع لِمَا أنّ بعض ما يتضمن خيرات كثيرة هو مستلزم لشرّ قليل ، فلو تركت تلك الخيرات الكثيرة لذلك الشرّ القليل ، لصار تركها شرّاً كثيراً ، فلما صدر ذلك الخير لزمه حصول ذلك الشرّ » .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلۡمُلۡكِ تُؤۡتِي ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُۖ بِيَدِكَ ٱلۡخَيۡرُۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (26)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

{قُلِ اللّهُمّ}: قل يا محمد: يا الله.

{مالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمّنْ تَشاءُ}: يا مالك الملك، يا من له ملك الدنيا والاَخرة خالصا دون غيره. {تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشاءُ}: تعطي الملك من تشاء فتملّكه وتسلطه على من تشاء. {وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمّنْ تَشاءُ} أن تنزعه منه. وقيل: إن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم جوابا لمسألته ربه أن يجعل ملك فارس والروم لأمته. وروي عن مجاهد أنه كان يقول: معنى الملك في هذا الموضع: النبوّة. {وَتُعِزّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إنّكَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: وتعزّ من تشاء بإعطائه الملك والسلطان وبسط القدرة له، وتذلّ من تشاء بسلبك ملكه وتسليط عدوّ عليه. {بِيَدِكَ الخَيْرُ}: كلّ ذلك بيدك وإليك، لا يقدر على ذلك أحد¹، لأنك على كل شيء قدير، دون سائر خلقك، ودون من اتخذه المشركون من أهل الكتاب والأميين من العرب إلها وربا يعبدونه من دونك، كالمسيح والأنداد التي اتخذها الأميون ربّا. {إنّكَ على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ}: لا يقدر على هذا غيرك بسلطانك وقدرتك.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: تعز من تشاء بالطاعة، وتذل من تشاء بالمعصية. والثاني: تعز من تشاء بالنصر، وتذل من تشاء بالقهر. والثالث: تعز من تشاء بالغنى، وتذل من تشاء بالفقر. {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} أي أنت قادر عليه، وإنما خَصَّ الخير بالذكر وإن كان قادراً على الخير والشر، لأنه المرغوب في فعله...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

" اللهم "معناها يا الله والميم في آخرها بدل عن حرف النداء وهو يا. فهذا تعليم الحق كيفية الثناء على الحق، أي صِفْني بما أسْتَحِقُّه من جلال القَدْر فَقُلْ: يا مالكَ المُلْكِ لا شريكَ لكَ ولا مُعينَ، ولا ظهير ولا قرين، ولا مُقاسِمَ لكَ في الذات، ولا مُسَاهِمَ في المُلْك، ولا مُعَارِضَ في الإبداع. {تُؤْتِى المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ}...

وتعز من تشاء بأن تهديه ليشهدك ويوحدك، وتذل من تشاء بأن يجحدك ويفقدك. وتعزُّ من تشاء بيُمْنِ إقبالك، وتذل من تشاء بوحشة إعراضك. وتعزُّ من تشاء بأن تؤنسه بك، وتذل من تشاء بأن توحشه عنك. وتعز من تشاء بأن تشغله بك، وتذل من تشاء بأن تشغله عنك.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{مالك الملك}: أي تملك جنس الملك فتتصرف فيه تصرّف الملاك فيما يملكون. {تُؤْتِى الملك مَن تَشَاءُ}: تعطي من تشاء النصيب الذي قسمت له واقتضته حكمتك من الملك. {وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاءُ} النصيب الذي أعطيته منه. فالملك الأوّل عام شامل، والملكان الآخران خاصان بعضان من الكل...

فإن قلت: كيف قال: {بِيَدِكَ الخير} فذكر الخير دون الشر؟ قلت: لأنّ الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين وهو الذي أنكرته الكفرة، فقال بيدك الخير تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك، ولأن كل أفعال الله تعالى من نافع وضارّ صادر عن الحكمة والمصلحة، فهو خير كله كإيتاء الملك ونزعه...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

قال بعض العلماء: إن هذه الآية دافعة لباطل نصارى نجران في قولهم: إن عيسى هو الله وذلك أن هذه الأوصاف تبين لكل صحيح الفطرة أن عيسى عليه السلام ليس في شيء منها،...

والصحيح أنه {مالك الملك} كله مطلقاً في جميع أنواعه، وأشرف ملك يؤتيه سعادة الآخرة...

وخص الله تعالى: {الخير} بالذكر وهو تعالى بيده كل شيء، إذ الآية في معنى دعاء ورغبة فكأن المعنى {بيدك الخير} فأجزل حظي منه، وقيل المراد {بيدك الخير} والشر فحذف لدلالة أحدهما على الآخر،...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعاء وتمجيد يدل على مباينة طريقه وطريق أتباعه، لطريقة هؤلاء الكافرين المعاندين المعرضين، فقال معلما نبيه كيف يمجد ويعظم ويدعو ويطلب {قل اللهم مالك الملك}... {الملك}: هو القدرة، والمالك هو القادر، فقوله {مالك الملك} معناه القادر على القدرة، والمعنى إن قدرة الخلق على كل ما يقدرون عليه ليست إلا بإقدار الله تعالى، فهو الذي يقدر كل قادر على مقدوره، ويملك كل مالك مملوكه... قوله: {تؤتى الملك من تشاء} محمول على جميع أنواع الملك فيدخل فيه ملك النبوة، وملك العلم، وملك العقل، والصحة والأخلاق الحسنة، وملك النفاذ والقدرة وملك المحبة، وملك الأموال، وذلك لأن اللفظ عام فالتخصيص من غير دليل لا يجوز. {وتعز من تشاء وتذل من تشاء} فاعلم أن العزة قد تكون في الدين، وقد تكون في الدنيا...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة؛ لأن الله حول النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي المكي الأمي خاتم الأنبياء على الإطلاق، ورسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن، الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله، وخصه بخصائص لم يُعْطهَا نبيًا من الأنبياء ولا رسولا من الرسل، في العلم بالله وشريعته وإطلاعه على الغيوب الماضية والآتية، وكشفه عن حقائق الآخرة ونشر أمته في الآفاق، في مشارق الأرض ومغاربها، وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان، والشرائع، فصلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين، ما تعاقب الليل والنهار...

"تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "أي: أنت المتصرف في خلقك، الفعال لما تريد...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{قل} أي يا محمد أو يا من آمن بنا مخاطباً لإلهك مسمعاً لهم ومعرضاً عنهم ومنبهاً لهم من سكرات غفلاتهم في إقبالهم على ملوك لا شيء في أيديهم، وإعراضهم عن هذا الملك الأعظم الذي بيده كل شيء. قال الحرالي: لعلو منزل هذه السورة كثر الإقبال فيها بالخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم وجعل القائل لما كانت المجاورة معه، لأن منزل القرآن ما كان منه لإصلاح ما بين الخلق وربهم يجيء الخطاب فيه من الله سبحانه وتعالى إليهم مواجهة حتى ينتهي إلى الإعراض عند إباء من يأبى منهم، وما كان لإصلاح ما بين الأمة ونبيها يجري الله الخطاب فيه على لسانه من حيث توجههم بالمجاورة إليه، فإذا قالوا قولاً يقصدونه به قال الله عز وجل: قل لهم، ولكون القرآن متلواً ثبتت فيه كلمة قل... {اللهم مالك الملك} أي لا يملك شيئاً منه غيرك...

قال الحرالي: فأقنعه صلى الله عليه وسلم ملك ربه، فمن كان منه ومن آله وخلفائه وصحابته يكون من إسلامه وجهه لربه إسلام الملك كله الذي منه شرف الدنيا لله، فلذلك لم يكن صلى الله عليه وسلم يتظاهر بالملك ولا يأخذه مآخذه، لأنه كان نبياً عبداً، لا نبياً ملكاً، فأسلم الملك لله، كذلك خلفاؤه أسلموا الملك لله فلبسوا الخلقان والمرقعات واقتصروا على شظف العيش،... {تؤتي الملك من تشآء} في الإيتاء إشعار بأنه تنويل من الله من غير قوة وغلبة، ولا مطاولة فيه، وفي التعبير بمن العامة للعقلاء إشعار بمنال الملك من لم يكن من أهله، وأخص الناس بالبعد منه العرب، ففيه إشعار بأن الله ينول ملك فارس والروم العرب كما وقع منه ما وقع،... لما أرادوا أن يغيروا على عمر رضي الله تعالى عنه زيه عند إقباله على بيت المقدس نبذ زيهم وقال: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام! فلن نلتمس العزة بغيره. فمن التمس الشرف بجاه الدنيا فهو ملك بقدر ما يلتمس من شرفها قل ذلك الحظ أو جل، وهو به من أتباع ملوك الدنيا، وكذلك من التمس الاستئثار بخيرها واتخذ الذخيرة منها، كل ينال من الملك ويكون من شيعة الملوك بحسب ما ينال ويحب من ذلك حتى ينتهي إلى حشره مع الصنف الذي يميل إليه، فمن تذلل وتقلل وتوكل بعث مع الأنبياء والمرسلين والخلفاء، كما أن من تشرف بالدنيا واستأثر وادخر منها حشر مع الملوك والسلاطين... جلس عمر رضي الله تعالى عنه يوماً وسلمان وكعب وجماعة رضي الله تعالى عنهم فقال: أخبروني أخليفة أنا أم ملك؟ فقال له سلمان رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! إن جبيت درهماً من هذا المال فوضعته في غير حقه فأنت ملك، وإن لم تضعه إلا في حقه فأنت خليفة، فقال كعب: رحمك الله تعالى! ما ظننت أن أحداً يعرف الفرق بين الخليفة والملك غيري، فالتزام مرارة العدل وإيثار الغير خلافة وتشيع في سبيلها، ومنال حلاوة الاستئثار بالعاجلة شرفها ومالها ملك وتحيز لتباعه -انتهى...

وفي تقديم الإيتاء على النزع إشارة إلى أن الداعي ينبغي أن يبدأ بالترغيب {وتنزع} قال الحرالي: من النزع، وهو الأخذ بشدة وبطش- انتهى. {الملك ممن تشآء} وفيه إشارة إلى أن الدعاء باللين إن لم يجدِ ثني بالترهيب،... قال الحرالي: وفي كلمة النزع بما ينبئ عنه من البطش والقوة ما يناسب معنى الإيتاء، فهو إيتاء للعرب ونزع من العجم،... فالملوك وإن تشرفوا بملك الدنيا فليس لهم من عزة الدين شيء، أعزهم الله سبحانه وتعالى بالدين، تخدمهم الأحرار وتتوطد لهم الأمصار، لا يجدون وحشة، ولا يحصرون في محل، ولا تسقط لهم حرمة حيث ما حلوا وحيث ما كانوا، استتروا أو اشتهروا،... والذل مقابل ذلك العزة، فإذا كان ذلك العز عزاً دينياً ربانياً عوضاً عن سلب الملك كان هذا الذل -والله تعالى أعلم- ذل أهل الدنيا في دنياهم الذي ألزمهم سبحانه وتعالى إياه بما أذلتهم أنفسهم، فاستعملتهم في شهواتها وأذلهم أتباعهم فتوسلوا بهم إلى قضاء أغراضهم في أهوائهم، ويستذلهم من يظلمونه بما ينتصفون منهم، وينالهم من ذل تضييع الدين، ويبدو على وجوههم من ظلمة الظلم ما يشهد ذلهم فيه أبصار العارفين -انتهى...

ولما تقرر أنه مالك لما تقدم أنتج أن له التصرف المطلق فعبر عنه بقوله: {بيدك} أي وحدك {الخير} ولم يذكر الشر تعليماً لعباده الأدب في خطابه، وترغيباً لهم في الإقبال عليه والإعراض عما سواه، لان العادة جارية بأن الناس أسرع شيء إلى معطي النوال وباذل الأموال، وتنبيهاً على أن الشر أهل للإعراض عن كل شيء من أمره حتى عن مجرد ذكره وإخطاره بالبال، مع أن الاقتصار على الخير يملك الخير كله مستلزم لمثل ذلك في الشر، لأنهما ضدان، كل منهما مساوٍ لنقيض الآخر، فإثبات أحدهما نفي للآخر ونفيه إثبات للآخر، فلا يعطى الخير إلا وقد نفي الشر، ولا ينزع الخير إلا وقد وضع الشر- والله سبحانه وتعالى أعلم. ولما أفهم أن الشر بيده كما أعلم أن الخير بيده وخاص به قرر ذلك على وجه أعم بقوله معللاً: {إنك على كل شيء قدير}...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

روي عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يجعل فارس والروم في أمته فنزل قوله تعالى: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء}. وقال الأستاذ الإمام ما معناها: إن الكلام متصل بما قبله صح ما قيل في سبب النزول أم لم يصح. والكلام في حال النبي صلى الله عليه وسلم مع من خوطبوا بالدعوة من المشركين وأهل الكتاب، فالمشركون كانوا ينكرون النبوة لرجل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، كما أنكر أمثالهم على الأنبياء قبله. وأهل الكتاب كانوا ينكرون أن يكون نبي من غير آل إسرائيل وقد عهد في غير موضع من القرآن تسلية النبي صلى الله عليه وسلم في مقام بيان عناد المنكرين ومكابرة الجاحدين وتذكيره بقدرته تعالى على نصره وإعلاء كلمة دينه. فهذه الآية من هذا القبيل. كأنه يقول له: إذا تولى هؤلاء الجاحدون عن بيانك، ولم ينظروا في برهانك. وظل المشركون منهم على جهلهم، وأهل الكتاب في غرورهم، فعليك أن تلجأ إلى الله تعالى وترجع إليه بالدعاء والثناء، وتتذكر أنه بيده الأمر يفعل ما يشاء، وهذا يناسب ما تقدم في الرد على نصارى نجران من أمره بالالتجاء إليه سبحانه بقوله {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله} [آل عمران: 20].

قال: وعلى هذا التفسير يصح أن يكون الملك بمعنى النبوة أو لازمها ولا شك أن النبوة ملك كبير لأن سلطانها على الأجساد والأرواح، وعلى الظاهر والباطن قال تعالى: {فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما} [النساء: 54] فإن لم يكن هذا الملك عين النبوة فهو لازمها ونزع الملك على هذا القول عبارة عن نزعه من الأمة التي كان يبعث فيها الأنبياء، كأمة إسرائيل فقد نزعت منها النبوة ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن يفسر النزع هنا بالحرمان فإنه تعالى يعطي النبوة من يشاء ويحرم منها من يشاء. فإن قيل إن النزع إنما يكون لشيء قد وجد صح أن يجاب عنه بأن هذا على حد قوله تعالى حكاية عن لسان الرسل {قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها} [الأعراف: 89] فإنهم لم يكونوا في ملتهم، إذ يستحيل الكفر على الأنبياء. هذا سياقه وقد تبع فيه الإمام الرازي إلا أنه زاد عليه كلمة "أو لازمها "والتمثيل غير ظاهر على المعنى الثاني والآية حكاية عن شعيب عليه السلام وهي جواب عن قول قومه {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا} [الأعراف: 88] فهم قد طلبوا منه وممن آمن معه أن يعودوا في ملتهم وكان أولئك المؤمنون في ملتهم. ففي جوابه عليه السلام تغليب للأكثر وهو متعين. ومثل الرازي أيضا بقوله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} [البقرة: 257] وفيه ما فيه.

أقول: والظاهر المتبادر أن المراد بالملك السلطة والتصرف في الأمور والله سبحانه وتعالى صاحب السلطان الأعلى والتصرف المطلق في تدبير الأمر وإقامة ميزان النظام العام في الكائنات فهو يؤتي الملك في بعض البلاد من يشاء من عباده إما بالتبع بما يختصهم به من النبوة كما وقع لآل إبراهيم، وإما بسيرهم على سننه الحكيمة الموصلة إلى ذلك لأسبابه الاجتماعية كتكوين العصبيات كما وقع لكثير من الناس، وينزعه ممن يشاء من الأفراد ومن الأسر والعشائر والفصائل والشعوب بتنكبهم سننه الحافظة للملك، كالعدل وحسن السياسة وإعداد المستطاع من القوة كما نزعه من بني إسرائيل ومن غيرها بالظلم والفساد ذلك أننا لا نعرف ما قضت به مشيئته عز وجل إلا من الواقع لأنه لا يقع في الوجود إلا ما يشاء. وقد نظرنا في ما وقع للغابرين والحاضرين ومحصنا أسبابه فألفيناها ترجع إلى سنن مطردة كما قال في هذه السورة: {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا} [آل عمران: 137] وبين بعض هذه السنن في نزع الملك ممن يشاء وإيتائه من يشاء بمثل قوله تعالى من سورة إبراهيم: {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الأرض من بعدهم} [إبراهيم: 13] وقد فصلنا هذا المعنى في سورة البقرة أفضل تفصيل فليراجع الآية 247 من يشاء.

وبهذا يظهر وجه اتصال الآية بما قبلها وكونها بمثابة الدليل لقوله السابق {قل للذين كفروا ستغلبون} فهي تتضمن تأكيد الوعد بنصر النبي صلى الله عليه وسلم وغلب أعدائه من أهل الكتاب والمشركين. وقد قال أبو سفيان للعباس يوم رأى جيش المسلمين زاحفا إلى مكة: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما: فقال العباس رضي الله عنه: كلا إنها النبوة. وكان أبو سفيان يعني أن الأمر كله تأسيس ملك وما كان الملك مقصودا، ولكنه جاء معناه والمراد منه تابعا أصلا والفرق عظيم والغرض من النبوة غير الغرض من الملك ولذلك لم يسم الصحابة من جعلوه رئيس ملكهم ومرجح سياستهم ملكا بل سموه خليفة.

{وتعز من تشاء وتذل من تشاء} العز والذل معروفان ومن آثار الأول حماية الحقيقة ونفاذ الكلمة ومن أسبابه كثرة الأعوان وملك القلوب بالجاه والعلم النافع للناس وسعة الرزق مع التوفيق للإحسان، ومن آثار الثاني الضعف عن الحماية، والرضى بالضيم والمهانة، كذا قال الأستاذ الإمام. وقد يكون الضعف سببا وعلة للذل لا أثرا معلولا وهو الغالب، ولا تلازم بين العز والملك فقد يكون الملك ذليلا إذا ضعف استقلاله بسوء السياسة وفساد التدبير حتى صارت الدول الأخرى تفتات عليه كما هو مشاهد. وكم من ذليل في مظهر عزيز، وكم من أمير أو ملك يغر الأغرار ما يرونه فيه من الأبهة والفخفخة فيحسبون أنه عزيز كريم وهو في نفسه ذليل مهين فمثله كمثل ملوك ملاهي التمثيل (التياترات) والتشبيه للأستاذ الإمام.

هذا ولا عز أعلى من عز الاجتماع والتعاون على نشر دعوة الحق ومقاومة الباطل إذا تبع المجتمعون سنة الله تعالى فأعدوا لكل أمر عدته. وقد كان المشركون في مكة واليهود ومنافقو العرب في المدينة يعتزون بكثرتهم على النبي والمؤمنين {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} [المنافقون: 8] فعسى أن يعتبر المسلمون في هذا الزمان ويفقهوا معنى كون العزة لله ورسوله وللمؤمنين ويحاسبوا أنفسهم وينصفوا منها ليعلموا مكانهم من الإيمان الذي حكم الله لصاحبه بالعزة {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} [محمد: 24].

{بيدك الخير} قال الأستاذ الإمام: قدر المفسر (الجلال) هنا كلمة (والشر) هربا من المعتزلة لتصادم المذاهب فيها وحسبنا قوله: {إنك على كل شيء قدير} أي إثبات أن كل شيء بيده لا يعجزه شيء والبلاغة قاضية بذكر الخير فقط سواء كان السبب في نزول الآية خاصا، وهو ما كان في واقعة الخندق من بشارته صلى الله عليه وسلم أن ملك أمته سيبلغ كذا وكذا، أو عاما وهو حال النبي صلى الله عليه وسلم مع المنكرين، فإنه ما أغرى أولئك المجاحدين بإنكار النبوة والاستهانة بدعوة الحق إلا فقر الداعي وضعف من اتبعه من المسلمين وقلتهم. فأمره الله تعالى أن يلجأ هو ومن اتبعه إلى مالك الملك والمتصرف المطلق التصرف في الإعزاز والإذلال وذكرهم في هذا المقام بأن الخير كله بيده فلا يعجزه أن يؤتي نبيه والمؤمنين من السيادة والسلطان ما دعاهم وأن يعزهم ويعطيهم من الخير ما لا يخطر ببال الذين يستضعفونهم {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين} [القصص: 5] على هذا الأصل أمر الله نبيه بأن يدعوه والمؤمنون تبع له بهذه الكلمات ويلجؤوا إليه بهذه الرغبة فكان المناسب ذكر الخير الذي وعدوا به فقط وأنه بيده وحده.

وأقول: إنه لا يسند إلى يده تعالى أو يديه إلا النعم الجليلة والمخلوقات الشريفة فلا يقال: إن الشر بيد الله تعالى، على أن جميع ما خلقه الله تعالى ودبره وهو خير في نفسه والشر أمر عارض من الأمور الإضافية. فلا توجد حقيقة هي شر في ذاتها وإنما يطلق لفظ الشر على ما يأتي غير ملائم للأحياء ذات الإدراك ولا منطبق على مصالحهم ومنافعهم. وسبب ذلك في الغالب سوء عملهم الاختياري ومن غير الغالب أن تقوض الريح لهم بناء أو يجرف السيل لهم رزقا وكل من الريح والسيل من أعظم الخيرات في ذاتهما. ومن الخير والنعم ما قدرته السنن الإلهية وأخبر به الوحي من ترتيب العقاب على العمل السيئ. فإن ذلك أعظم مرب للناس وعون لهم على الارتقاء في الدنيا والسعادة في الآخرة. ومن تدبر سورة الرحمن فقه ما نقول. وللإمام ابن القيم كلام في هذه المسألة لا بأس بإيراده هنا. قال في كتاب (شرح منازل السائرين)، ونقله السفاريني في شرح عقيدته ما نصه:

إن الشر كله يرجع إلى العدم أعني عدم الخير وأسبابه المفضية إليه وهو من هذه الجهة شر وأما من جهة وجوده المحض فلا شر فيه مثاله أن النفوس الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة وإنما حصل لها الشر بقطع مادة الخير عنها فإنها خلقت في الأصل متحركة لا تسكن، فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت بطبعها إلى خلافه، وحركتها من حيث هي حركة، خير وإنما تكون شرا بالإضافة لا من حيث هي الحركة، والشر كله ظلم وهو وضع الشيء في غير موضعه، فلو وضع في موضعه لم يكن شرا. فعلم أن جهة الشر فيه نسبة إضافية ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالها خيرا في نفسها وإن كانت شرا بالنسبة إلى المحل الذي حلت به لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة مستعدة له فصار ذلك الألم شرا بالنسبة إليها وهو خير بالنسبة إلى الفاعل حيث وضعه موضعه فإنه سبحانه لا يخلق شرا محضا من جميع الوجود والاعتبارات وفي خلقه مصالح وحكم باعتبارات أخر أرجح من اعتبارات مفاسده، بل الواقع منحصر في ذلك فلا يمكن في جناب الحق جل جلاله أن يريد شيئا يكون فسادا من كل وجه وبكل اعتبار لا مصلحة في خلقه بوجه ما. هذا من أبين المحال، فإنه سبحانه بيده الخير والشر ليس إليه، بل كل ما إليه فخير، والشر إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه، فلو كان إليه لم يكن شرا فتأمله. فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيره شرا.

فإن قلت: لم تنقطع نسبته إليه خلقا ومشيئة. قلت هو من هذه الجهة ليس بشر والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه والعدم ليس بشيء حتى ينسب إلى من بيده الخير. فإن أردت مزيد إيضاح في ذلك فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة: الإيجاد، والإعداد، والإمداد. فهذه هي الخيرات وأسبابها، فإيجاد هذا السبب خير وهو إلى الله، وإعداده خير وهو إليه أيضا. فإذا لم يحدث فيه إعدادا ولا إمدادا حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إلى الفاعل، وإنما إليه ضده. فإن قلت فهلا أمده إذ أوجده؟ قلت: ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده فإنه سبحانه يوجده ويمده وما اقتضت الحكمة إيجاده وترك إمداده أوجده بحكمته ولم يمده بحكمته. فإيجاده خير والشر وقع من عدم إمداده.

فإن قلت: فهلا أمد الموجودات كلها؟ فالجواب: هذا سؤال فاسد يظن مورده ان تساوي الموجودات أبلغ في الحكمة وهذا عين الجهل، بل الحكمة كل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الواقع بينها. وليس في خلق كل نوع منها تفاوت فكل نوع منها ليس في خلقه من تفاوت. والتفاوت إنما وقع بأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق وإلا فليس في الخلق من تفاوت.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل اللهم مالك الملك} أي: أنت الملك المالك لجميع الممالك، فصفة الملك المطلق لك، والمملكة كلها علويها وسفليها لك والتصريف والتدبير كله لك،...

فحصول الملك ونزعه تبع لمشيئة الله تعالى، ولا ينافي ذلك ما أجرى الله به سنته من الأسباب الكونية والدينية التي هي سبب بقاء الملك وحصوله وسبب زواله، فإنها كلها بمشيئة الله لا يوجد سبب يستقل بشيء، بل الأسباب كلها تابعة للقضاء والقدر، ومن الأسباب التي جعلها الله سببا لحصول الملك الإيمان والعمل الصالح، التي منها اجتماع المسلمين واتفاقهم، وإعدادهم الآلات التي يقدروا عليها والصبر وعدم التنازع،... قال الله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم} الآية فأخبر أن الإيمان والعمل الصالح سبب للاستخلاف المذكور...

وأنت إذا استقرأت الدول الإسلامية وجدت السبب الأعظم في زوال ملكها ترك الدين والتفرق الذي أطمع فيهم الأعداء وجعل بأسهم بينهم،...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(قل: اللهم مالك الملك: تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء. وتعز من تشاء وتذل من تشاء. بيدك الخير. إنك على كل شيء قدير. تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل. وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي. وترزق من تشاء بغير حساب) نداء خاشع.. في تركيبه اللفظي إيقاع الدعاء. وفي ظلاله المعنوية روح الابتهال. وفي التفاتاته إلى كتاب الكون المفتوح استجاشة للمشاعر في رفق وإيناس. وفي جمعه بين تدبير الله وتصريفه لأمور الناس ولأمور الكون إشارة إلى الحقيقة الكبيرة: حقيقة الألوهية الواحدة القوامة على الكون والناس؛ وحقيقة أن شأن الإنسان ليس إلا طرفا من شأن الكون الكبير الذي يصرفه الله؛ وأن الدينونة لله وحده هي شأن الكون كله كما هي شأن الناس؛ وأن الانحراف عن هذه القاعدة شذوذ وسفه وانحراف!... (قل: اللهم مالك الملك. تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء. وتعز من تشاء وتذل من تشاء).. إنها الحقيقة الناشئة من حقيقة الألوهية الواحدة.. إله واحد فهو المالك الواحد.. هو (مالك الملك) بلا شريك.. ثم هو من جانبه يملك من يشاء ما يشاء من ملكه. يملكه إياه تمليك العارية يستردها صاحبها ممن يشاء عندما يشاء. فليس لأحد ملكية أصيلة يتصرف فيها على هواه. إنما هي ملكية معارة له خاضعة لشروط المملك الأصلي وتعليماته؛ فإذا تصرف المستعير فيها تصرفا مخالفا لشرط المالك وقع هذا التصرف باطلا. وتحتم على المؤمنين رده في الدنيا. أما في الآخرة فهو محاسب على باطله ومخالفته لشرط المملك صاحب الملك الأصيل...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

استئناف ابتدائي المقصود منه التعريض بأهل الكتاب بأنّ إعراضهم إنّما هو حسد على زوال النبوءة منهم، وانقراض الملك منهم، بتهديدهم وبإقامة الحجة عليهم في أنّه لا عجب أن تنتقل النبوءة من بني إسرائيل إلى العرب، مع الإيماء إلى أنّ الشريعة الإسلامية شريعة مقارنة للسلطان والمُلك...

والمُلك بضم الميم وسكون اللام نوع من المِلك بكسر الميم فالملك بالكسر جنسٌ والمُلك بالضم نوعٌ منه وهو أعلى أنواعه، ومعناه التصرّف في جماعة عظيمة، أو أمة عديدة تصرُّف التدبير للشؤون، وإقامةِ الحقوق، ورعاية المصالح، ودفع العدوان عنها، وتوجيهها إلى ما فيه خيرها، بالرغبة والرهبة. وانظر قوله تعالى: {قالوا أنّى يكون له المُلك علينا} في سورة البقرة (247)...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

بين سبحانه وتعالى اعتزاز المشركين بقوتهم الدنيوية وغلبهم وسلطانهم،وذكر انهم في غرورهم كفرعون ذي الأوتاد،واعتزازه بقهره لشعبه،وطغيانه في ملكه... إذ يقول: {و نادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه النهار تجري من تحتي أفلا تبصرون} [الزخرف 51]...

{قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء} الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم،ولكل قارئ للقرآن الكريم مؤمن بالله مذعن للحق،أن يضرع إلى الله تعالى ناطقا بهذه الحقيقة؛ فإنها الحق في هذا الوجود،ولا يعرف مؤمن سواها؛ والمعنى في هذا الدعاء الكريم الضراعة على الله تعالى ونداؤه بأنه مالك السلطان المطلق في هذا الوجود،فليس فقط صاحب السلطان،بل إنه يملك ذوات السلطان،يؤتيه ويعطيه من يشاء،وينزعه ممن يشاء؛ أي يسلبه ممن يشاء ممن يكون السلطان في يده...

وقوله: {مالك الملك} نداء آخر وضراعة على تقدير أداة النداء،أي يا مالك الملك،فكان في النص دعاءين:دعاء للذات العلية بلفظ الجلالة،وقد اشتمل على كل معاني العبودية،والتنزيه والتقديس،والخضوع التام، والتسليم لله سبحانه وتعالى بكل معاني الألوهية؛ والدعاء الثاني لمالك الملك،وفيه كل معاني الإحساس بالربوبية،والضعف امام جبروت الله سبحانه وتعالى وملكوته...

قال سبحانه وتعالى: {تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء}. وهنا أمران لا بد من الإشارة إليهما:

أولهما:التعبير عن إزالة الملك بقوله تعالى: {وتنزع الملك ممن تشاء} فالتعبير بالنزع مع تكرار كلمة ملك،فيه إشارة على انه يأخذه منه بعد ان استقر فيه وثبت له وظن انه لا مزيل لسلطانه، فيأتيه الله من حيث لا يحتسب،ويأخذ ملكه اخذ عزيز مقتدر ثم إن في النزع إشارة على ان من يؤتى سلطانا يطغى فيه ويبغى ولا يسير بسنة الحق والعدل لا يتركه طائعا،بل لابد ان يمكن الله منه من ينزعه من يده،وقد يأخذه منه من كان يأتمنه، ومن مأمنه يؤتى الحذر. وفي كثير من الحيان يكون السبب في زواله هو من كان السبب في طغيانه...

الأمر الثاني الذي تجب الإشارة إليه:ان الله سبحانه وتعالى بمقتضى حكمته وما سن من نظم في هذا الوجود،وما تسير عليه أعماله في خلقه،لا يعطي الملك غلا من يستحقه، ويأخذ بالأسباب العادلة في طلبه،ويقصد به رفعة قومه،ولا ينزعه إلا ممن يسئ ويطغى،ويفهم ان الملك متعة تشتهى وليس تبعات تؤدى،فينزعه منه غيره،وكذلك سنة الله تعالى في الحكم بين الناس:... وكلمة "الملك "ليس المراد منها ما تعارفه الناس من الحكم بمقتضى الوراثة في أسرة،إنما المراد بالملك السلطان في هذه الأرض،سواء أكان سلطانا بالغلب،أم كان سلطانا بالاختيار والانتخاب،أم كان سلطانا بالوراثة،وسواء أكان محدودا بجزء من الدولة،ام ناحية من نواحيها،أم كان عاما شاملا لكل أجزائها تجتمع في يد صاحبه كل السلطات فيها،فكل هذا ملك لأنه سلطان.وقد ذكر سبحانه بعد ذكر الملك يعطيه من يشاء وينزعه ممن يشاء العزة... {وتعز من تشاء} العزة ليست مرادفة للسلطان... فلا عزة غلا مع الإيمان بالله وحده،والاعتماد عليه وحده؛ ولذلك لا يكون المنافقون مهما يؤتوا من مال ونسب وسلطان إلا أذلاء...

ولما قال المنافقون في شأن المؤمنين: {ليخرجن العز منها الأذل} [المنافقون 8].نفى سبحانه وتعالى عنهم العزة فقال سبحانه: {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن العز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} [المنافقون 8].وكيف يكون المنافق عزيزا وهو الذي جعل نفسه وفكره ولسانه ملكا لغيره؟فهو قد سلب كل شيء حتى قلبه ولسانه...

ومشيئة الله تعالى في العزة والذلة تسير على مقتضى حكمته، فهو لا يعطي العزة إلا لمن خلص قلبه من كل أدران الهوى والشهوة،فالشهوات مردية،ولا يكون عزيزا بين الناس من يكون عبد شهوته؛ فإن العزة تبتدئ من النفس،فإن ضبط المرء أهواءه وشهواته وسيطر عليها أعطاه العزة، فكان بين الناس عزيزا؛ ومن سيطرت عليه أهواؤه ومطامعه وشهواته كتب الله عليه الذلة،وكان الذليل وإن ظهر انه العزيز؛ ولذا كان من حكمة السلف الصالح قولهم:"أذل الحرص أعناق الرجال"...

وفي الجمع بين قوله تعالى: {بيدك الخير} و {إنك على كل شيء قدير} إشارة إلى أمرين: أولهما:أن كل ما يفعله الله تعالى هو خير،فلا يقال إن بيده الخير والشر،فإن الشر معنى نسبي للعبيد،ولكن بالإضافة إلى الله تعالى فإن الله لا يفعل إلا خيرا.ولقد قال الزمخشري في هذا المقام ما نصه:"إن كل أفعال الله تعالى من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله كإيتاء الملك ونزعه". الأمر الثاني: إثبات أن الله تعالى خالق الأسباب،إلا النفع فيكون ما يفعلونه فسادا وضررا عاما...

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

تتضمن إثبات التدخل المستمر من طرف الحكمة الإلهية، والإرادة الربانية في تعديل موازين القوة، وتغيير نسب السلطة في العالم، على وجه يتحقق به مراد الله في خلقه، ويتحقق به خير البشر على العموم، وتصديقا لهذه الآية وتطبيقا لمقتضاها مكن الله المسلمين من مقاليد الأرض واستخلفهم، فكانوا خير أمة أخرجت للناس...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} إنه المتصرف في ملكه، وإياكم أن تظنوا أن أحدا قد حكم في خلق الله بدون مراد الله، ولكن الناس حين تخرج عن طاعة الله فإن الله يسلط عليهم الحاكم الظالم، ولذلك فالحق سبحانه يقول في حديثه القدسي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يطوي الله -عز وجل- السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرض بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟". إياك أيها المؤمن أن تظن أن أحدا قد أخذ الملك غصبا من الله. إنما الملك يريده الله لمن يؤدب به العباد. وإن ظلم الملك في التأديب فإن الله يبعث له من يظلمه، ومن رأى ظلم هذا الملك أو ذاك الحاكم فمن الجائز أن يريه الله هذا الملك أو ذلك الحاكم مظلوما. إنه القول الحكيم يؤكد لنا أنه سبحانه وتعالى مالك الملك وحده...

إن قول الحق هنا: "مالك الملك "توضح لنا أن ملكية الله وهي الدائمة والقادرة واضحة، وجلية، ومؤكدة، ولو قال الله في وصف ذاته:"ملك الملك "لكان معنى ذلك أن هناك بشرا يملكون بجانب الله، لا، إنه الحق وحده مالك الملك. وما دام الله هو مالك الملك، فإنه يهبه لمن يشاء، وينزعه ممن يشاء...

إن قول الحق: {وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ} تجعلنا نتساءل: ما النزع؟ إنه القلع بشدة، لأن الملك عادة ما يكون متمسكا بكرسي الملك، متشبثا به،...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

بيده كلّ شيء:

دار الكلام في الآيات السابقة حول المشركين وأهل الكتاب الذين كانوا يخصّون أنفسهم بالعزة وبالملك، وكيف أنّهم كانوا يرون أنفسهم في غنى عن الإسلام. فنزلت هاتان الآيتان تفنّدان مزاعمهم الباطلة يقول تعالى: (قل اللّهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء).

إنّ المالك الحقيقي للأشياء هو خالقها. وهو الذي يعطي لمن يشاء الملك والسلطان، أو يسلبهما ممّن يشاء، فهو الذي يعز، وهو الذي يذل، وهو القادر على كلّ هذه الأُمور، (وتعزّ من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كلّ شيء قدير).

ولا حاجة للقول بأنّ مشيئة الله في هذه الآيات لا تعني أنّه يعطي بدون حساب ولا موجب، أو يأخذ بدون حساب ولا موجب، بل أنّ مشيئته مبنيّة على الحكمة والنظام ومصلحة عالم الخلق وعالم الإنسانية عموماً. وبناءاً على ذلك فإنّ أي عمل يقوم به إنّما هو خير عمل وأصحّه.

(بيدك الخير).

«خير» صيغة تفضيل يقصد بها تفضيل شيء على شيء، والكلمة تطلق أيضاً على كلّ شيء حسن. بدون مفهوم التفضيل، والظاهر من الآية مورد البحث أنها جاءت بالمعنى الثاني هذا، أي إن مصدر كلّ خير بيده ومنه سبحانه.

وعبارة (بيدك الخير) تحصر كلّ الخير بيد الله من جهتين:

الألف واللام في «الخير» هما للاستغراق.

أنّ تقديم الخبر «بيدك» وتأخير المبتدأ «الخير» دليل على الحصر كما هو معلوم. فيكون المعنى: «كلّ الخير بيدك وحدك لا بيد غيرك».

كذلك يستفاد من «بيدك الخير» أنّ الله هو منبع كلّ خير وسعادة فإذا أعزّ أحداً أو أذلّه، أو أعطى السلطنة والحكم لأحد الناس أو سلبها منه فذلك قائم على العدل ولا شرّ فيه. فالخير للأشرار أن يكونوا في السجن، والخير للأخيار أن يكونوا أحراراً.

وبعبارة أخرى: أنه لا وجود للشر في العالم، ونحن الذين نقلب الخيرات إلى شرور، فعندما تحصر الآية الخير بيده تعالى ولا تتحدث عن الشر إنّما هو بسبب أن الشر لا يصدر من ذاته المقدسة إطلاقاً.

(إنّك على كلّ شيء قدير).

هذه الآية جاءت دليلاً على الآية السابقة. أي ما دام الله ذا قدرة مطلقة، فليس ثمّة ما يمنع أن يكون كلّ خير خاضعاً لمشيئته.

الحكومات الصالحة وغير الصالحة:

يُطرح هنا سؤال هام يقول: قد يستنتج بعضهم من هذه الآية أنّ من يصل إلى مركز الحكم، أو يسقط منه، فذلك بمشيئة الله. ومن هنا فلابدّ من قبول حكومات الجبّارين والظالمين في التاريخ...

ولكن الآية تطرح في الواقع مفهوماً عامّاً يقضي أنّ جميع الحكومات الصالحة وغير الصالحة مؤطّرة بقانون مشيئة الله، ولكن ينبغي أن نعلم أنّ الله قد أوجد مجموعة من الأسباب للتقدّم والنجاح في العالم، وأنّ الاستفادة من تلك الأسباب هي نفسها مشيئة الله. وعليه فإنّ مشيئة الله هي الآثار المخلوقة في تلك الأسباب والعوامل. فإذا قام ظَلَمة وطغاة باستغلال أسباب النجاح، وخضعت لهم شعوب ضعيفة وجبانة، وتحمّلت حكمهم الشائن، فذلك من نتائج أعمال تلك الشعوب وقد قيل: كيفما كنتم يولّى عليكم.

ولكن إذا كانت هذه الشعوب واعية، وانتزعت تلك الأسباب والعوامل من أيدي الجبابرة وأعطتها بيد الصلحاء، وأقامت حكومات عادلة، فإن ذلك أيضاً نتيجةً لأعمالها ولطريقة استفادتها من تلك العوامل والأسباب الإلهيّة.

في الواقع، أنّ الآية دعوة للأفراد والمجتمعات إلى اليقظة الدائمة والوعي واستفادة من عوامل النجاح والنصر، لكي يشغلوا المواقع الحسّاسة قبل أن يستولي عليها أُناس غير صالحين.

خلاصة القول: إنّ مشيئة الله هي نفسها عالم الأسباب، إنّما الاختلاف في كيفية استفادتنا من عالم الأسباب هذا.