{ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ْ }
أي : ومن يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم ويعانده فيما جاء به { مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى ْ } بالدلائل القرآنية والبراهين النبوية .
{ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ْ } وسبيلهم هو طريقهم في عقائدهم وأعمالهم { نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ْ } أي : نتركه وما اختاره لنفسه ، ونخذله فلا نوفقه للخير ، لكونه رأى الحق وعلمه وتركه ، فجزاؤه من الله عدلاً أن يبقيه في ضلاله حائرا ويزداد ضلالا إلى ضلاله .
كما قال تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ْ } وقال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ْ }
ويدل مفهومها على أن من لم يشاقق الرسول ، ويتبع سبيل المؤمنين ، بأن كان قصده وجه الله واتباع رسوله ولزوم جماعة المسلمين ، ثم صدر منه من الذنوب أو الهّم بها ما هو من مقتضيات النفوس ، وغلبات الطباع ، فإن الله لا يوليه نفسه وشيطانه بل يتداركه بلطفه ، ويمن عليه بحفظه ويعصمه من السوء ، كما قال تعالى عن يوسف عليه السلام : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ْ } أي : بسبب إخلاصه صرفنا عنه السوء ، وكذلك كل مخلص ، كما يدل عليه عموم التعليل .
وقوله : { وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ْ } أي : نعذبه فيها عذابا عظيما . { وَسَاءَتْ مَصِيرًا ْ } أي : مرجعا له ومآلا .
وهذا الوعيد المرتب{[237]} على الشقاق ومخالفة المؤمنين مراتب لا يحصيها إلا الله بحسب حالة الذنب صغرا وكبرا ، فمنه ما يخلد في النار ويوجب جميع الخذلان . ومنه ما هو دون ذلك ، فلعل الآية الثانية كالتفصيل لهذا المطلق .
وهو : أن الشرك لا يغفره الله تعالى لتضمنه القدح في رب العالمين وفي وحدانيته وتسوية المخلوق الذي لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا بمن هو مالك النفع والضر ، الذي ما من نعمة إلا منه ، ولا يدفع النقم إلا هو ، الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه ، والغنى التام بجميع وجوه الاعتبارات .
فمن أعظم الظلم وأبعد الضلال عدم إخلاص العبادة لمن هذا شأنه وعظمته ، وصرف شيء منها للمخلوق الذي ليس له من صفات الكمال شيء ، ولا له من صفات الغنى شيء بل ليس له إلا العدم . عدم الوجود وعدم الكمال وعدم الغنى ، والفقر من جميع الوجوه .
وأما ما دون الشرك من الذنوب والمعاصي فهو تحت المشيئة ، إن شاء الله غفره برحمته وحكمته ، وإن شاء عذب عليه وعاقب بعدله وحكمته ، وقد استدل بهذه الآية الكريمة على أن إجماع هذه الأمة حجة وأنها معصومة من الخطأ .
ووجه ذلك : أن الله توعد من خالف سبيل المؤمنين بالخذلان والنار ، و { سبيل المؤمنين ْ } مفرد مضاف يشمل سائر ما المؤمنون عليه من العقائد والأعمال . فإذا اتفقوا على إيجاب شيء أو استحبابه ، أو تحريمه أو كراهته ، أو إباحته - فهذا سبيلهم ، فمن خالفهم في شيء من ذلك بعد انعقاد إجماعهم عليه ، فقد اتبع غير سبيلهم . ويدل على ذلك قوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ْ }
ووجه الدلالة منها : أن الله تعالى أخبر أن المؤمنين من هذه الأمة لا يأمرون إلا بالمعروف ، فإذا اتفقوا على إيجاب شيء أو استحبابه فهو مما أمروا به ، فيتعين بنص الآية أن يكون معروفا ولا شيء بعد المعروف غير المنكر ، وكذلك إذا اتفقوا على النهي عن شيء فهو مما نهوا عنه فلا يكون إلا منكرا ، ومثل ذلك قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس ْ } فأخبر تعالى أن هذه الأمة جعلها الله وسطا أي : عدلا خيارا ليكونوا شهداء على الناس أي : في كل شيء ، فإذا شهدوا على حكم بأن الله أمر به أو نهى عنه أو أباحه ، فإن شهادتهم معصومة لكونهم عالمين بما شهدوا به عادلين في شهادتهم ، فلو كان الأمر بخلاف ذلك لم يكونوا عادلين في شهادتهم ولا عالمين بها .
ومثل ذلك قوله تعالى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ْ } يفهم منها أن ما لم يتنازعوا فيه بل اتفقوا عليه أنهم غير مأمورين برده إلى الكتاب والسنة ، وذلك لا يكون إلا موافقا للكتاب والسنة فلا يكون مخالفا .
فهذه الأدلة ونحوها تفيد القطع أن إجماع هذه الأمة حجة قاطعة ، ولهذا بيَّن الله قبح ضلال المشركين بقوله : { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا . . .
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة الذين يسيرون فى طريق الباطل ، ويتركون طريق الحق فقال - تعالى - : { وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } .
وقوله { يُشَاقِقِ } من المشاقة بمعنى المعاداة والمخالفة المقصودة . وهى من الشق لأن المخالف كأن يختار شقا يكون فيه غير شق الآخر .
فقوله { وَمَن يُشَاقِقِ الرسول } أى : من يخالفه ويعاديه .
وقوله { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى } أى يخالفه ويعاديه من بعد ما اتضح له الحق ، وقام لديه الدليل على صحة دين الإِسلام .
وقوله { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين } معطوف على يشاقق . أى : وتبع طريقا غير طريق الإِسلام التى سار فيها المؤمنون ، واعتقدوا صحتها وسلامتها من كل سوء . من يفعل ذلك . نوله ما تولى ، أن نجعله - كما يقول الآلوسى والياً لما تولاه من الضلال . أو نخل بينه وبين ما اختاره لنفسه من الضلال فى الدنيا . أو نكله فى الآخرة إلى ما اتكل عليه فى الدنيا وانتصر به من الأوثان وغيرها .
قال صاحب المنار : والذى أريد توجيه الأذهان إلى فهمه هو أن هذه الجملة مبينة لسنة الله - تعالى - فى عمل الإِنسان . ومقدار ما أعطيه من الإِرادة والاستقلال والعمل بالاختيار . فالوجهة التى يتولاها فى حياته ، والغاية التى يصدها عن عمله ، يوليه الله إياها ويوجهه إليها . أى : يكون بحسب سنته - تعالى - واليا لها وسائر على طريقها . فلا يجد من القدرة الإِلهية ما يجبره على ترك ما اختار لنفسه . ولو شاء - سبحانه - لهدى الناس أجمعين بخلقهم على حالة واحدة فى الطاعة كالملائكة ، ولكنه شاء أن يخلقهم على ما نراهم عليه الآن من تفاوت فى الاستعداد والإِدراك وعمل كل فرد بحسب ما يرى أنه خير له وأنفع فى عاجله أو آجله أو فيهما وقوله { وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } وعيد شديد لأولئك المخالفين لطريق الحق . وأصل الصلى : إيقاد النار ولزومها وقت الاستدفاء . يقال صلى بالنار أى : بلى بها . وصليت الشاة : شويتها وهى مصلية .
والمعنى : ومن يخالف طريق الحق نوله ما تولى وندخله فى الآخرة جهنم ليشوى فيها كما تشوى الشاة ، وساءت جهنم مكانا لمن صار إليها ، وحل فيها .
قال ابن كثير : والذى عول عليه الشافعى يرحمه الله - فى الاحتجاج على كون الإِجماع حجة تحرم مخالفته هذه الآية الكريمة بعد التروى والفكر الطويل . وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها . وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدلالة على ذلك .
وبهذا نرى أن الآيتين الكريمتين قد بشرتا من يفعل الخير ابتغاء مرضاه الله بالأجر العظيم ، وأنذرتا من يخالف طريق أهل الحق بالعذاب الأليم ، { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ }
ومن يشاقق الرسول - من بعد ما تبين له الهدى - ويتبع غير سبيل المؤمنين ، نوله ما تولى ، ونصله جهنم وساءت مصيرا . إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك - لمن يشاء - ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدًا .
وقد ذكر في سبب نزول هذه المجموعة من الآيات . أن بشير بن أبيرق قد ارتد والتحق بالمشركين . ( من بعد ما تبين له الهدى ) . . فقد كان في صفوف المسلمين ، ثم اتبع غير سبيل المؤمنين . . ولكن النص عام ، ينطبق على كل حالة ، ويواجه كل حالة من مشاقة الرسول [ ص ] ومشاقته كفر وشرك وردة ، ينطبق عليه ما ينطبق على ذلك الحادث القديم .
والمشاقة - لغة - أن يأخذ المرء شقا مقابلا للشق الذي يأخذه الآخر . والذي يشاق الرسول [ ص ] هو الذي يأخذ له شقا وجانبا وصفا غير الصف والجانب والشق الذي يأخذه النبى [ ص ] ومعنى هذا أن يتخذ له منهجا للحياة كلها غير منهجه ، وأن يختار له طريقا غير طريقه . فالرسول [ ص ] جاء يحمل من عند الله منهجا كاملا للحياة يشتمل على العقيدة والشعائر التعبدية ، كما يشتمل على الشريعة والنظام الواقعي لجوانب الحياة البشرية كلها . . وهذه وتلك كلتاهما جسم هذا المنهج ، بحيث تزهق روح هذا المنهج إذا شطر جسمه فأخذ منه شق وطرح شق ! والذي يشاق الرسول [ ص ] هو كل من ينكر منهجه جملة ، أو يؤمن ببعض ويكفر ببعض ، فيأخذ بشق منه ويطرح شقا !
وقد اقتضيت رحمة الله بالناس ، ألا يحق عليهم القول ، ولا يصلوا جهنم وساءت مصيرا ، إلا بعد أن يرسل إليهم رسولا . وبعد أن يبين لهم . وبعد أن يتبينوا الهدى . ثم يختاروا الضلالة . وهي رحمة الله الواسعة الحانية على هذا المخلوق الضعيف . فإذا تبين له الهدى . أي إذا علم أن هذا المنهج من عند الله . ثم شاق الرسول [ ص ] فيه ، ولم يتبعه ويطعه ، ولم يرض بمنهج الله الذي تبين له ، فعندئذ يكتب الله عليه الضلال ، ويوليه الوجهة التي تولاها ، ويلحقه بالكفار والمشركين الذين توجه إليهم . ويحق عليه العذاب المذكور في الآية بنصه :
( ومن يشاقق الرسول - من بعد ما تبين له الهدى - ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ، ونصله جهنم . وساءت مصيرا ! ) . .
{ وَمَن يُشَاقِقِ الرّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَىَ وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلّىَ وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَمَنْ يُشاقِق الرّسُولَ } : ومن يباين الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم معاديا له ، فيفارقه على العداوة له¹ { مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَى } يعني : من بعد ما تبين له أن رسول الله ، وأن ما جاء به من عند الله يهدى إلى الحقّ ، وإلى طريق مستقيم . { وَيَتّبِعْ غيرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ } يقول : ويتبع طريقا غير طريق أهل التصديق ، ويسلك منهاجا غير منهاجهم ، وذلك هو الكفر بالله ، لأن الكفر بالله ورسوله غير سبيل المؤمنين وغير منهاجهم . { نُوَلّهِ ما تَوَلىّ } يقول : نجعل ناصره ما استنصره واستعان به من الأوثان والأصنام ، وهي لا تغنيه ولا تدفع عنه من عذاب الله شيئا ولا تنفعه . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { نُوَلّهِ ما تَوَلى } قال : من آلهة الباطل .
حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله . { وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ } يقوله : ونجعله صِلأ نار جهنم ، يعني نحرقه بها ، وقد بينا معنى الصّلَى فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . { وَساءَتْ مَصيرا } يقول : وساءت جهنم مصيرا : موضعا يصير إليه من صار إليه . ونزلت هذه الاَية في الخائنين الذين ذكرهم الله في قوله : { وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما } لما أبى التوبة من أبى منهم ، وهو طعمة بن الأبيرق ، ولحق بالمشركين من عبدة الأوثان بمكة مرتدّا مفارقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه .
عطف على { ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله } [ النساء : 114 ] بمناسبة تضادّ الحالين . والمشاقّة : المخالفة المقصودة ، مشتقّة من الشِّقّ لأنّ المخالف كأنّه يختار شِقّا يكون فيه غير شِقّ الآخر .
فيحتمل قوله : { من بعد ما تبين له الهدى } أن يكون أراد به من بعد ما آمن بالرسول فتكون الآية وعيداً للمرتدّ . ومناسبتها هنا أن بشير بن أبَيْرق صاحب القصّة المتقدّمة ، لمّا افتضح أمره ارتدّ ولحق بمكة ، ويحتمل أن يكون مراداً به من بعد ما ظهر صدق الرسول بالمعجزات ، ولكنّه شاقَّه عناداً ونِواء للإسلام .
وسَبيل كلّ قوم طريقتهم التي يسلكونها في وصفهم الخاصّ ، فالسبيل مستعار للاعتقادات والأفعال والعادات ، التي يلازمها أحد ولا يبتغي التحوّل عنها ، كما يلازم قاصد المكان طريقاً يبلغه إلى قصده ، قال تعالى : { قل هذه سبيلي } [ يوسف : 108 ] ومعنى هذه الآية نظير معنى قوله : { إنّ الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله وشاقّوا الرسول من بعد ما تبيّن لهم الهدى لن يضروا الله شيئاً وسيحبط أعمالهم } [ محمد : 32 ] ، فمن اتّبع سبيل المؤمنين في الإيمان واتّبع سبيل غيرهم في غير الكفر مثل اتّباع سبيل يهود خبير في غراسة النخيل ، أو بناء الحصون ، لا يحسن أن يقال فيه اتّبع غير سبيل المؤمنين . وكأنّ فائدة عطف اتّباع غير سبيل المؤمنين على مشاقّة الرسول الحَيطةُ لحفظ الجامعة الإسلامية بعد الرسول ، فقد ارتدّ بعض العرب بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وقال الحُطيئة في ذلك :
أطعنا رسولَ اللَّه إذ كان بيننا *** فيا لعباد الله ما لأبي بكر
فكانوا ممّن اتّبع غير سبيل المؤمنين ولم يُشَاقّوا الرسول .
ومعنى قوله : { نوله ما تولى } الإعراض عنه ، أي نتركه وشأنه لقلّة الاكتراث به ، كما ورد في الحديث " وأمّا الآخر فأعرض الله عنه " . وقد شاع عند كثير من علماء أصول الفقه الاحتجاج بهذه الآية ، لكون إجماع علماء الإسلام على حكم من الأحكام حجّة ، وأوّل من احتجّ بها على ذلك الشافعي . قال الفخر : « روي أنّ الشافعي سئل عن آية في كتاب الله تدلّ على أنّ الإجماع حجّة فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة حتّى وجد هذه الآية . وتقرير الاستدلال أنّ اتّباع غير سبيل المؤمنين حرام ، فوجب أن يكون اتّباع سبيل المؤمنين واجباً . بيان المقدمة الأولى : أنّه تعالى ألحق الوعيد بمن يشاقق الرسول ويتّبع غير سبيل المؤمنين ، ومشاقّة الرسول وحدها موجبة لهذا الوعيد ، فلو لم يكن اتّباع غير سبيل المؤمنين موجباً له ، لكان ذلك ضمّا لما لا أثر له في الوعيد إلى ما هو مستقلّ باقتضاء ذلك الوعيد ، وأنّه غير جائز ، فثبت أنّ اتّباع غير سبيل المؤمنين حرام ، فإذا ثبت هذا لزم أن يكون اتّباع سبيلهم واجباً » . وقد قرّر غيره الاستدلال بالآية على حجّيّة الإجماع بطرق أخرى ، وكلّها على ما فيها من ضعف في التقريب ، وهو استلزام الدليل للمدّعي ، قد أوردت عليها نقوض أشار إليها ابن الحاجب في « المختصر » . واتّفقت كلمة المحقّقين : الغزالي ، والإمام في « المعالم » ، وابنِ الحاجب ، على توهين الاستدلال بهذه الآية على حجّيّة الإجماع .
عن مالك قال: كان عمر بن عبد العزيز يقول: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر فيما خالفها، من اقتدى بها مهتد، ومن استنصر بها منصور ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وصلاه جهنم وساءت مصيرا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَمَنْ يُشاقِق الرّسُولَ}: ومن يباين الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم معاديا له، فيفارقه على العداوة له¹ {مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَى}: من بعد ما تبين له أن رسول الله، وأن ما جاء به من عند الله يهدى إلى الحقّ، وإلى طريق مستقيم. {وَيَتّبِعْ غيرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ}: ويتبع طريقا غير طريق أهل التصديق، ويسلك منهاجا غير منهاجهم، وذلك هو الكفر بالله، لأن الكفر بالله ورسوله غير سبيل المؤمنين وغير منهاجهم.
{نُوَلّهِ ما تَوَلىّ}: نجعل ناصره ما استنصره واستعان به من الأوثان والأصنام، وهي لا تغنيه ولا تدفع عنه من عذاب الله شيئا ولا تنفعه. {وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ}: ونجعله صِلأ نار جهنم، يعني نحرقه بها.
{وَساءَتْ مَصيرا}: وساءت جهنم مصيرا: موضعا يصير إليه من صار إليه. ونزلت هذه الآية في الخائنين الذين ذكرهم الله في قوله: {وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما} لما أبى التوبة من أبى منهم، وهو طعمة بن الأبيرق، ولحق بالمشركين من عبدة الأوثان بمكة مرتدّا مفارقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{نوله ما تولى}: نتركه وما تولى من ولاية الشيطان...
{مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى} تغليظاً في الزجر عنه وتقبيحاً لحاله وتبييناً للوعيد فيه، إذ كان معانداً بعد ظهور الآيات والمعجزات الدالّة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم. وقَرَنَ اتّباع غير سبيل المؤمنين إلى مباينة الرسول فيما ذكر له من الوعيد، فدلّ على صحة إجماع الأمة لإلحاقه الوعيد بمن اتّبع غير سبيلهم. وقوله: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} إخبار عن براءة الله منه، وأنه يَكِلُهُ إلى ما تولّى من الأوثان واعتضد به، ولا يتولّى الله نصره ومعونته...
جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :
ما أجمع المسلمون عليه فهو الحق والخير القاطع للعذر...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
واستدل أهل العلم بهذه الآية على أن الإجماع حجة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين} وهو السبيل الذي هم عليه من الدين الحنيفي القيم، وهو دليل على أن الإجماع حجة لا تجوز مخالفتها، كما لا تجوز مخالفة الكتاب والسنة، لأنّ الله عز وعلا جمع بين اتباع سبيل غير المؤمنين، وبين مشاقة الرسول في الشرط، وجعل جزاءه الوعيد الشديد، فكان اتباعهم واجباً كموالاة الرسول عليه الصلاة والسلام. قوله: {نُوَلّهِ مَا تولى} نجعله والياً لما تولى من الضلال، بأن نخذله ونخلي بينه وبين ما اختاره.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما رتب سبحانه وتعالى الثواب العظيم على الموافقة، رتب العقاب الشديد على المخالفة والمشاققة، و وكل المخالف إلى نفسه بقوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول} أي الكامل في الرسلية، فيكون بقلبه أو شيء من فعله في جهة غير جهته على وجه المقاهرة، وعبر بالمضارع رحمة منه سبحانه بتقييد الوعيد بالاستمرار، وأظهر القاف إشارة إلى تعليقه بالمجاهرة، ولأن السياق لأهل الأوثان وهم مجاهرون،.. ولما كان في سياق تعليم الشريعة التي لم تكن معلومة قبل الإيحاء بها، لا في سياق الملة المعلومة بالعقل، أتى ب "من "تقييداً للتهديد بما بعد الإعلام بذلك فقال: {من بعد ما} ولو حذفت لفهم اختصاص الوعيد بمن استغرق زمان البعد بالمشاققة. ولما كان ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في غاية الظهور قال: {تبين له الهدى} أي الدليل الذي هو سببه. ولما كان المخالف للإجماع لا يكفر إلا بمنابذة المعلوم بالضرورة، عبر بعد التبين بالاتباع فقال {ويتبع غير سبيل} أي طريق {المؤمنين} أي الذين صار الإيمان لهم صفة راسخة، والمراد الطريق المعنوي، وجه الشبه الحركة البدنية الموصلة إلى المطلوب في الحسي، والنفسانية في مقدمات الدليل الموصل إلى المطلوب في المعنوي {نوله} أي بعظمتنا في الدنيا والآخرة {ما تولى} أي نكله إلى ما اختار لنفسه وعالج فيه فطرته الأولى خذلاناً منا له {ونصله} أي في الآخرة {جهنم} أي تلقاه بالكراهة والغلظة والعبوسة كما تجهم أولياءنا وشاققهم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
لما بين الله تعالى في الآية التي قبل هذه وعده بالجزاء الحسن للذين يتناجون بالخير، ويبتغون بنفع الناس مرضاة الله عز وجل، أراد أن يبين في هذه الآية وعيده لأولئك الذين يتناجون بالشر، ويبيتون ما يكيدون به للناس، فهو يقول إن أولئك القوم مشاقون للرسول إذ كانوا يفعلون ما يفعلون بعد أن ظهرت لهم الهداية على لسانه صلى الله عليه وسلم، وقامت عليهم الحجة بحقيقة ما جاء به، وأما من لم تتبين لهم الهداية فلا يستحقون هذا الوعيد، وهم متفاوتون فمن نظر منهم في الدليل فلم يظهر له الحق وبقي متوجها إلى طلبه بتكرار النظر والاستدلال مع الإخلاص فهو معذور غير مؤاخذ كالذي لم تبلغه الدعوة، وعليه جمهور الأشاعرة. والمشاقة بعد تبين الهدى إنما تكون عنادا وعصبية أو اتباعا لشهوة تفوت بهذه الهداية. اه.
أقول: المشاقة: المعادة مشتقة من شق العصا، أو هي مفاعلة من الشق كأن كل واحد من المتعاديين يكون في شق غير الذي فيه الآخر كما قالوا. والكلام جاء بصيغة العموم وهو يصدق على (طعمة) كما ذكر في قصته وعلى قليل من الناس منهم بعض علماء اليهود في عصر النبي (صلى الله عليه وسلم) وإنما قلنا إنه يصدق على قليل من الناس لأن أكثر الناس فطروا على ترجيح الهدى على الضلال والحق على الباطل والخير على الشر إذا تبين لهم ذلك وعرفوه وناهيك بمن دخل فيه وعمل به ورأى الفرق بينه وبين ما كان عليه هو وقومه (كطعمة) ولا يشترط في هذا الترجيح الفطري والعمل به أن يكون قد تبين بالبرهان اليقين المنطقي الذي يقبل النقض بل يكفي أن يظهر للمرء أن هذا هو الهدى أو أنه أهدى من مقابله إذا كان هناك مقابل. وسبب هذا ومنشأه أن الإنسان فطر على حب نفسه وحب الخير والسعادة لها والسعي إلى ذلك واتقاء ما ينافيه ويحول دونه لذلك كانت شريعة الإسلام التي هي دين الفطرة مبنية على قاعدة درء المفاسد وجلب المصالح فكل ما حرم فيها على الناس فهو ضار بهم وكل ما فرض عليهم أو استحب لهم فيه فهو نافع لهم، ولهذا كان غير معقول أن يتركها أحد بعد أن يعرفها وتتبين له وكان إن وقع لا بد له من سبب، وهو ما أشار إليه القرآن الحكيم في قوله تعالى: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} [البقرة:130]؟ أي لا أحد يرغب عنها إلا من احتقر نفسه وأزراها بالسفه والجهالة. ونحن نبين أصناف الناس في اتباع الهدى وتركه وسبب ذلك فنقول.
الصنف الأول: من تبين له الهدى بالبرهان الصحيح، ووصل فيه إلى حق اليقين، وهذا لا يمكن أن يرجع عنه اعتقادا، ويندر جدا أن يرجع عنه عملا، وللأستاذ الإمام كلمة كبيرة في هذا المقام لا يقولها إلا مثله من الأعلام، وهي:"الرجوع عن الحق بعد اليقين فيه كاليقين في الحق كلاهما قليل في الناس"، وهو يعني الرجوع بالعمل إذ الإنسان يملك من عمله ما لا يملك من اعتقاده فمن كان موقنا بأن المخلوق لا يكون إلها ولا شريكا لله يؤثر في إرادته ويحمله على فعل ما لم يكن ليفعله لولاه لا يستطيع بعد اليقين الحقيقي في ذلك أن يعتقد أن المسيح أو غيره ممن عبد ومما عبد من دون الله أو مع الله آلهة أو شركاء لله، ولكنه يستطيع ويدخل في إمكانه أن يدعوها من دون الله أو مع الله، وأن يعبدها بغير الدعاء أيضا كالتمسح بها والتعظيم الذي يعده أهلها من شعائر العبادات، لا من عموم العبادات، وهو وإن كان يستطيع ما أشرنا إليه من عباداتها لا يفعله، أي لا يرجع عن الحق بالعمل، إلا أن يكون لما أشرنا إليه من السبب، وسنبينه بعد.
الصنف الثاني: من تبين لهم الهدى بالدلائل المعتادة التي يرجح بها بعض الأشياء على بعض بحسب أفهامهم وعقولهم، لا بالبرهان المنطقي المؤلف من اليقينيات البديهة أو المنتهية إليها، وهؤلاء لا يرجعون عن الهدى إلى الضلال وهم يعلمون أنه الهدى بهذا النوع من العلم الذي أشرنا إليه إذ يكفي أنهم معتقدون به أنهم على الحق والخير والصلاح، فلا يشاقون من جاءهم بذلك ولا يتبعون غير سبيل أهله إلا لسبب يقل وقوعه كما سيأتي.
الصنف الثالث: من اتبع الهدى تقليدا لمن يثق به من الناس كآبائه وخاصة أهله ورؤساء قومه وهذا لا يدخل فيمن تبين لهم الحق والهدى لأنه لم يتبين لهم شيء ولذلك يتركون الهدى إلى كل ما يقرهم عليه رؤساؤهم من البدع والضلالات كما هو مشاهد في جميع الملل والأديان.
الصنف الرابع: من لم يتبع الهدى لأنه نشأ على تقليد أهل الضلال، فلما دعي إلى الهدى لم ينظر في دعوة النبي الذي دعي إلى دينه، ولا تأمل في دليله، لأنه صدق الرؤساء الذين قلدهم بأنه ليس أهلا للاستدلال وأن الله حرم عليه وعلى أمثاله النظر في الأدلة والبينات، وفرض عليهم أن يقلدوا أهل الاجتهاد، ومن ينقل إليهم مذاهبهم من العلماء، فمن قلد عالما، لقي الله سالما، ومن نظر واستدل، زل وضل، وهذا ما كان عليه جمهور أهل الكتاب في زمن بعثة نبينا (صلى الله عليه وسلم) وكذلك غيرهم من أصحاب الأديان المدونة كالمجوس، وأمثال هؤلاء إذا ترك رؤساؤهم دينهم أو مذهبهم يتبعونهم في الغالب، ولا سيما إذا دخلوا في مذهب أو دين جديد ليس بينهم وبين أهله عداوات دينية ولا سياسية تنفرهم منهم تنفيرا طبيعيا، ولذلك دعا النبي (صلى الله عليه وسلم) ملوكهم ورؤساءهم إلى الإسلام وكتب لكل رئيس أن عليه إثم قومه أو مرؤوسيه إذا هو تولى عن الإيمان، ولم يجب دعوة الإسلام.
الصنف الخامس: كالذي قبله في التقليد لأهل الضلال تعظيما لجمهور قومه ومن نشأ على احترامهم من آبائه وأجداده، واستعبادا لكونهم كانوا متفقين على اتباع الضلال، وأن يكون هذا الداعي قد عرف الهدى من دونهم، أو أوحى إليه ولم يوح إليهم، وهذا ما كانت عليه عامة العرب عند ظهور الإسلام، والآيات المبينة لحالهم هذه كثيرة ليس هذا محل سردها، وإنما الفرق بينهم وبين مقلدة أهل الكتاب والأديان المدونة ذات الكتب والهياكل والرؤساء الروحيين، أن تقليد هؤلاء العرب أضعف، وجذبهم إلى النظر والاستدلال أسهل، وكذلك كان، وهو من أسباب ظهور الإسلام فيهم دون سائر الناس.
الصنف السادس: علماء الأديان الجدليون المغرورون بما عندهم من العلم الناقص بها، الذين دعوا إلى الهدى فلم يتولوا عنه اتباعا لرؤساء فوقهم، ولم ينظروا فيه بالاستقلال والإخلاص، بل أعرضوا احتقارا له لأنه غير ما جروا عليه ووثقوا به، وجعلوه مناط عظمتهم، وحسبوه منتهى سعادتهم، وهم في الحقيقة مقلدون كعامتهم، ولكن عندهم من الصوارف عن قبول الهدى ما ليس عند العامة من معرفة عظمة أسلافهم الذين ينتمون إليهم وما ينسب إليهم من العلم والصلاح والفضائل والكرامات، ومن الأدلة الجدلية على حقية ما هم عليه.
الصنف السابع: الذين بلغتهم دعوة الهدى على غير وجهها الصحيح المحرك للنظر فلم ينظروا فيها ولم يبالوا بها لأنهم رأوها بديهية البطلان، ومن هؤلاء أكثر كفار هذا الزمان الذين لا يبلغهم عن الإسلام إلا أنه دين من جملة الأديان الكثيرة المخترعة فيه وفي أهله من العيوب والأباطيل ما هو كذا وكذا كما اخترع وافترى رؤساء النصرانية وغيرهم على الإسلام ولا سيما ما كتبوه قبل تأليب الشعوب الأوربية على الحرب الشهيرة بالصليبية. فهؤلاء لا يبحثون عن حقيقة الإسلام كما أن المسلمين لا يبحثون عن دين المورمون مثلا.
الصنف الثامن: من بلغتهم دعوة الهدى على وجهها أو غير وجهها فنظروا فيها بالإخلاص ولم تظهر لهم حقيقتها ولا تبينت لهم هدايتها، فتركوها وتركوا إعادة النظر فيها.
الصنف التاسع: هم أهل الاستقلال الذين نظروا في الدعوة كمن سبقهم ولا يتركون النظر والاستدلال إذا لم يظهر لهم الحق من أول وهلة، بل يعودون إليه ويدأبون طول عمرهم عليه، وهم الذين نقل الأستاذ الإمام عن محققي الأشاعرة القول بنجاتهم لعذرهم.
الصنف العاشر: من لم تبلغهم دعوة الحق والهدى البتة، وهم الذين يعبر عنهم بعضهم بأهل الفترة، ومذهب الأشاعرة أنهم معذورون وناجون.
هذه هي أصناف الناس في الهدى والضلال، بحسب ما خطر للفكر القاصر الآن، ولا يصدق على صنف منها أنه تبين له الهدى إلا الأول والثاني، فمن يشاقق الرسول من أفرادهما في حياته، أو يعادي سنته من بعده، {ويتبع غير سبيل المؤمنين} الذين هم أهل الهدى، وإنما سبيلهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو الذي يقول الله تعالى فيه: {نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} وهو الذي يصدق عليه قوله تعالى في سورة أخرى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله؟ أفلا تذكرون!} [الجاثية:23] وهم أجدر الناس بدخول جهنم وصليها والاحتراق بها وسائر أنواع عذابها لأنهم استحبوا العمى على الهدى، وعاندوا الحق واتبعوا الهوى.
وأما سائر الأصناف فيولي الله كلا منهم ما تولى أيضا كما هي سنته في الإنسان الذي خلقه مريدا مختارا حاكما على نفسه وعلى الطبيعة المحيطة به بحيث يتصرف فيهما التصرف الذي يراه خيرا له. و لذلك غير في أطوار كثيرة أحوال معيشته وأساليب تربيته وسخر قوى الطبيعة العاتية لمنافعه {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه} [الجاثية:13] فهو مربي نفسه ومربي الطبيعة التي ألهها بعض أصنافه جهلا منهم بأنفسهم وهو لا متصرف فوقه في هذه الأرض إلا رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم. أقول هذا نسفا لأساس جبرية الفلسفة الأوربية الحاضرة بعد نسف أساس جبرية الفلسفة الغابرة، هؤلاء الذين يظنون أن ما يسمونه الأفعال المنعكسة تعمل في الإنسان عملها، وأنه لا عمل له بها، والصواب أنه حاكم عليها كحكمها عليه فإن ترك لها الحكم استبدت وإن أراد أن يتصرف فيه وفيها فعل.
قلت: إن من سنته تعالى في الإنسان أن يولي كلا من تلك الأصناف ما تولى ولكنه لا يصلي كلا منهم جهنم التي ساء مصيرها، لأن إصلاء جهنم هو تابع لما يتولاه الإنسان من الضلالة في اعتقاده، وناهيك به إذا تولاها بعد أن ظهرت الهداية له، وذلك أن الجزاء أثر طبيعي لما تكون عليه النفس في الدنيا من الطهارة والزكاء والكمال بحسب تزكية صاحبها لها أو من ضد ذلك بحسب تدسيته لها، ويدل على هذا وذاك قوله تعالى: {نوله ما تولى}.
وإنني لا أتذكر أنني اطلعت على تفسير واضح لهذه الجملة الحكيمة العالية {نوله ما تولى} وإنما يفسرون اللفظ بمدلوله اللغوي كأن يقولوا نوجهه إلى حيث توجه، أو نجعله واليا لما اختار أن يتولاه، أو يزيدون على ذلك استدلال كل فرقة بالآية على مذهبها أو تحويلها إليه أعني مذاهبهم في الكسب والقدر والجبر، وتعلق الإرادة الإلهية أو عدم تعلقها بالشر، والذي أريد بيانه وتوجيه الأذهان إلى فهمه هو أن هذه الجملة مبينة لسنة الله تعالى في عمل الإنسان، ومقدار ما أعطيه من الإرادة والاستقلال، والعمل بالاختيار، فالوجهة التي يتولاها في حياته، والغاية التي يقصدها من عمله، يوليه الله إياها ويوجهه إليها أي يكون بحسب سننه تعالى واليا لها، وسائرا على طريقها، فلا يجد من القدرة الإلهية ما يجبره على ترك ما اختار لنفسه، ولو شاء تعالى لهدى الناس أجمعين بخلقهم على حالة واحدة في الطاعة كالملائكة ولكنه شاء أن يخلقهم على ما نراهم عليه من تفاوت الاستعداد والإدراك وعمل كل فرد بحسب ما يرى أنه خير له وأنفع في عاجله أو آجله أو فيهما جميعا الخ ما لا محل لشرحه هنا من طبائع البشر.
وذهب بعضهم إلى أن المراد من تولية الله لمثل هذا ما تولى هو ما يلزمها من عدم العناية والألطاف، بناء على أن لله تعالى عناية خاصة ببعض عباده وراء ما تقتضيه سننه في الأسباب والمسببات، وجعل الجزاء في الدنيا والآخرة أثرا طبيعيا للأعمال، وما في ذلك من النظام والعدل العام، والظاهر أن المراد بالجملة ما ذكرنا من حقيقة معناها وحاصله أن من كان هذا شأنه فهو الجاني على نفسه لأن من سنة الله أن يكون حيث وضع نفسه واختار لها، وأن مصيره إلى النار وبئس القرار، نعم إن الله تعالى يختص برحمته من يشاء ويهب للذين أحسنوا الحسنى ويزيدهم من فضله، ولكن ليس هذا المقام مقام بيان سبب الحرمان من مثل هذا الاختصاص إذ ليس من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى مظنة له، فيصرح بنفيه عنه، وليت شعري أيقول الذين فسروا التولية بهذا النفي والحرمان من العناية والألطاف: إن هذا الصنف وحده هو المحروم من ذلك. أم الحرمان شامل لغيره من أصناف الضالين؟ وهل يستلزم حرمانه من ذلك اليأس من هدايته ثانية أم لا؟ لا يمكنهم أن يقولوا في هذا الباب ما تقوم به الحجة ويسلم من الإيرادات التي لا تدفع. والصواب أنه لا مانع يمنع من عودة هذا الصنف من الضالين إلى الهدى لأن علمه بحقيقة ما كان عليه، وبطلان ما صار إليه، لا يبرح يلومه ويوبخه على ما فعله، ولا يبعد أن يجيء يوم يكون فيه الفلج له.
أما السبب الذي يحمل من تبين له الهدى على تركه فهو لا بد أن يكون حالا من الأحوال النفسانية القوية كالحسد والبغي، وحب الرياسة والكبر، والشهوة العالية على العقل، والعصبية للجنس. والقول الجامع في اتباع هوى النفس، وقد ثبت أن بعض أحبار اليهود قد تبين لهم صدق دعوة النبي (صلى الله عليه وسلم) فتولوا عنها حسدا له وللعرب أن يكون منهم خاتم النبيين، وإيثارا لرياستهم في قومهم، على أن يكونوا مرؤوسين في غيرهم، وارتداد جبلة بن الأيهم عن الإسلام، لما رأى أنه يساوي بينه وبين من لطمه من السوقة، وارتد أناس في أزمنة مختلفة عن دينهم لافتتانهم ببعض النساء من الكفار. وعلة ذلك كله أي علة تأثير هذه الأسباب في نفوس بعض الناس هي ضعف النفس ومرض الإرادة بجريان صاحبها من أول نشأته على هواه وعدم تربيتها على تحمل ما لا تحب في العاجل لأجل الخبر الآجل، وهذا هو مرادنا من إرجاع جميع الأسباب إلى اتباع الهوى وهو ما أشرنا إليه من قبل. وهو يرجع إلى ما قلنا من أن الإنسان مفطور عليه من ترجيح ما يرى أنه خير له وأنفع، وصاحب الهوى المتبع لا يتمثل له النفع الآجل، كما يستحوذ عليه النفع العاجل، لضعف نفسه ومهانتها وعجزها عن الوقوف في مهب الهوى من غير أن تميل معه.
وقد حكي أن الحجاج مد سماطا عاما للناس فجعلوا يأكلون وهو ينظر إليهم، فرأى فيهم أعرابيا يأكل بشره شديد فلما جاءت الحلوى ترك الطعام ووثب يريدها، فأمر الحجاج سيافه أن ينادي: من أكل من هذه الحلوى قطعت عنقه بأمر الأمير والحجاج يقول ويفعل فصار الأعرابي ينظر إلى السياف نظرة وإلى الحلوى نظرة كأنه يرجح بين حلاوتها ومرارة الموت ولم يلبث أن ظهر له وجه الترجيح، فالتفت إلى الحجاج وقال له: "أوصيك أولادي خيرا "وهجم على الحلوى وأنشأ يأكل والحجاج يضحك، وهو إنما أراد اختباره.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والذي يشاق الرسول صلى الله عليه وسلم هو كل من ينكر منهجه جملة، أو يؤمن ببعض ويكفر ببعض، فيأخذ بشق منه ويطرح شقا! وقد اقتضيت رحمة الله بالناس، ألا يحق عليهم القول، ولا يصلوا جهنم وساءت مصيرا، إلا بعد أن يرسل إليهم رسولا. وبعد أن يبين لهم. وبعد أن يتبينوا الهدى. ثم يختاروا الضلالة. وهي رحمة الله الواسعة الحانية على هذا المخلوق الضعيف. فإذا تبين له الهدى. أي إذا علم أن هذا المنهج من عند الله. ثم شاق الرسول صلى الله عليه وسلم فيه، ولم يتبعه ويطعه، ولم يرض بمنهج الله الذي تبين له، فعندئذ يكتب الله عليه الضلال، ويوليه الوجهة التي تولاها، ويلحقه بالكفار والمشركين الذين توجه إليهم. ويحق عليه العذاب المذكور في الآية...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على {ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله} [النساء: 114] بمناسبة تضادّ الحالين. والمشاقّة: المخالفة المقصودة، مشتقّة من الشِّقّ لأنّ المخالف كأنّه يختار شِقّا يكون فيه غير شِقّ الآخر.
فيحتمل قوله: {من بعد ما تبين له الهدى} أن يكون أراد به من بعد ما آمن بالرسول فتكون الآية وعيداً للمرتدّ. ومناسبتها هنا أن بشير بن أبَيْرق صاحب القصّة المتقدّمة، لمّا افتضح أمره ارتدّ ولحق بمكة، ويحتمل أن يكون مراداً به من بعد ما ظهر صدق الرسول بالمعجزات، ولكنّه شاقَّه عناداً ونِواء للإسلام.
وسَبيل كلّ قوم طريقتهم التي يسلكونها في وصفهم الخاصّ، فالسبيل مستعار للاعتقادات والأفعال والعادات، التي يلازمها أحد ولا يبتغي التحوّل عنها، كما يلازم قاصد المكان طريقاً يبلغه إلى قصده، قال تعالى: {قل هذه سبيلي} [يوسف: 108] ومعنى هذه الآية نظير معنى قوله: {إنّ الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله وشاقّوا الرسول من بعد ما تبيّن لهم الهدى لن يضروا الله شيئاً وسيحبط أعمالهم} [محمد: 32]، فمن اتّبع سبيل المؤمنين في الإيمان واتّبع سبيل غيرهم في غير الكفر مثل اتّباع سبيل يهود خبير في غراسة النخيل، أو بناء الحصون، لا يحسن أن يقال فيه اتّبع غير سبيل المؤمنين. وكأنّ فائدة عطف اتّباع غير سبيل المؤمنين على مشاقّة الرسول الحَيطةُ لحفظ الجامعة الإسلامية بعد الرسول، فقد ارتدّ بعض العرب بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.
فكانوا ممّن اتّبع غير سبيل المؤمنين ولم يُشَاقّوا الرسول.
ومعنى قوله: {نوله ما تولى} الإعراض عنه، أي نتركه وشأنه لقلّة الاكتراث به، كما ورد في الحديث "وأمّا الآخر فأعرض الله عنه".