تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أَوۡ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرۡيَةٖ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحۡيِۦ هَٰذِهِ ٱللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۖ فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِاْئَةَ عَامٖ ثُمَّ بَعَثَهُۥۖ قَالَ كَمۡ لَبِثۡتَۖ قَالَ لَبِثۡتُ يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۖ قَالَ بَل لَّبِثۡتَ مِاْئَةَ عَامٖ فَٱنظُرۡ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمۡ يَتَسَنَّهۡۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجۡعَلَكَ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِۖ وَٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡعِظَامِ كَيۡفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكۡسُوهَا لَحۡمٗاۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعۡلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (259)

ثم قال تعالى :

{ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

وهذا أيضا دليل آخر على توحد الله بالخلق والتدبير والإماتة والإحياء ، فقال : { أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها } أي : قد باد أهلها وفني سكانها وسقطت حيطانها على عروشها ، فلم يبق بها أنيس بل بقيت موحشة من أهلها مقفرة ، فوقف عليها ذلك الرجل متعجبا و { قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها } استبعادا لذلك وجهلا بقدرة الله تعالى ، فلما أراد الله به خيرا أراه آية في نفسه وفي حماره ، وكان معه طعام وشراب ، { فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم } استقصارا لتلك المدة التي مات فيها لكونه قد زالت معرفته وحواسه وكان عهد حاله قبل موته ، فقيل له { بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه } أي : لم يتغير بل بقي على حاله على تطاول السنين واختلاف الأوقات عليه ، ففيه أكبر دليل على قدرته حيث أبقاه وحفظه عن التغير والفساد ، مع أن الطعام والشراب من أسرع الأشياء فسادا { وانظر إلى حمارك } وكان قد مات وتمزق لحمه وجلده وانتثرت عظامه ، وتفرقت أوصاله { ولنجعلك آية للناس } على قدرة الله وبعثه الأموات من قبورهم ، لتكون أنموذجا محسوسا مشاهدا بالأبصار ، فيعلموا بذلك صحة ما أخبرت به الرسل { وانظر إلى العظام كيف ننشزها } أي : ندخل بعضها في بعض ، ونركب بعضها ببعض { ثم نكسوها لحما } فنظر إليها عيانا كما وصفها الله تعالى ، { فلما تبين له } ذلك وعلم قدرة الله تعالى { قال أعلم أن الله على كل شيء قدير } والظاهر من سياق الآية أن هذا رجل منكر للبعث أراد الله به خيرا ، وأن يجعله آية ودليلا للناس لثلاثة أوجه أحدها قوله { أنى يحيي هذه الله بعد موتها } ولو كان نبيا أو عبدا صالحا لم يقل ذلك ، والثاني : أن الله أراه آية في طعامه وشرابه وحماره ونفسه ليراه بعينه فيقر بما أنكره ، ولم يذكر في الآية أن القرية المذكورة عمرت وعادت إلى حالتها ، ولا في السياق ما يدل على ذلك ، ولا في ذلك كثير فائدة ، ما الفائدة الدالة على إحياء الله للموتى في قرية خربت ثم رجع إليها أهلها أو غيرهم فعمروها ؟ ! وإنما الدليل الحقيقي في إحيائه وإحياء حماره وإبقاء طعامه وشرابه بحاله ، والثالث في قوله : { فلما تبين له } أي : تبين له أمر كان يجهله ويخفى عليه ، فعلم بذلك صحة ما ذكرناه ، والله أعلم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَوۡ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرۡيَةٖ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحۡيِۦ هَٰذِهِ ٱللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۖ فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِاْئَةَ عَامٖ ثُمَّ بَعَثَهُۥۖ قَالَ كَمۡ لَبِثۡتَۖ قَالَ لَبِثۡتُ يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۖ قَالَ بَل لَّبِثۡتَ مِاْئَةَ عَامٖ فَٱنظُرۡ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمۡ يَتَسَنَّهۡۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجۡعَلَكَ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِۖ وَٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡعِظَامِ كَيۡفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكۡسُوهَا لَحۡمٗاۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعۡلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (259)

ثم ساقت السورة الكريمة قصتين تدلان أبلغ دلالة على قدرة الله - تعالى - وعلى صحة البعث والنشور ، استمع إلى القرآن وهو يحكي هاتين القصتين بأسلوبه البليغ فيقول :

{ أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ . . . }

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 259 ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 260 )

قال الآلوسي ما ملخصه : قوله : { أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ } معطوف على سابقه - وهو قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ } والكاف اسمية بمعنى مثل معمولة لا رأيت محذوفاً . أي أو أرأيت مثل الذي مر على قرية . . وحذف لدلالة ( أَلَمْ تَرَ ) عليه . وقيل : إن الكاف زائدة والتقدير : ألأم تر إلى الذي حاج إبراهيم أو الذي مر على قرية . . وقيل : إن العطف هنا محمول على المعنى كأنه قيل : أرأيت شيئاً عجيباً - كالذي حاج إبراهيم في ربه ، أو كالذي مر على قرية " .

والذي { مَرَّ على قَرْيَةٍ } قيل هو عزير بن شرخيا ، وقيل حزقيال بن بوزي وقيل غير ذلك ، والقرية قيل المراد بها بيت المقدس وكان قد خربها " بختنصر " البابلي . . والقرآن الكريم لم يهتم بتحديد الأشخاص والأماكن لأنه يقصد العبرة وبيان الحال والشأن . وجملة { وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } في موضع الحال من الضمير المستتر في { مَرَّ } والواو رابطة بين الجملة الحالية وبين صاحبها والإِتيان بها واجب لخلو الجملة من ضمير يعود على صاحبها وقيل هي حال من قرية ، وسوغ إتيان الحال منها مع كونها نكرة وقوعها بعد الاستفهام المقدر وهو أرأيت ومعنى { وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } أن جدرانها ساطقة على سقوفها ، أي أن الخراب قد عمها والدمار قد نزل بها ، فأصبحت خالية من أهلها وفارغة ممن كان يعمرها وأصل الخواء الخلو . يقال خوت الدار وخربت تخوى خواء إذا سقطت وخلت .

والعروش جمع عرش وهو سقف البيت ويسمى العريش ، وكل شيء يهيأ ليظل أو يكنّ فهو عريش وعرش .

وقوله - تعالى - : { قَالَ أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا } حكاية لما قاله ذلك الذي مر على تلك القرية ورأى فيها ما رأى من مظاهر الخراب والدمار والمعنى : أو أرأيت مثل الذي مر على قرية وهي ساقطة حياطانها على سقوفها ، وفارغة ممن كان يسكنها ، فهاله أمرها ، وراعه شأنها ، وقال على سبيل التعجب كيف يحيى الله هذه القرية بعد موتها ، بأن يعيد إليها العمران بعد الخراب ، ويجعلها عامرة بسكانها الذي خلت منهم . فقوله : { قَالَ أنى يُحْيِي هذه } بمعنى كيف فتكون منصوبة على الحالية من اسم الإِشارة ويجوز أن تكون { أنى } هنا بمعنى متى أي : متى يحيى الله هذه القرية بعد موتها فتكون منصوبة على الظرفية .

وقال القرطبي : قوله { قَالَ أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا } معناه من أي طريق وبأي سبب ، وظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة وسكان ، كما يقال الآن في المدن الخربة يبعد أن تعمر وتسكن أي : أنى تعمر هذه بعد خرابها . فكأن هذا تلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته " .

وقوله هذا إنما هو تساؤل عن كيفية الإِعادة لا عن أصل الإِعادة لأنه كان مؤمنا بالبعث والنشور ، إلا أنه لما رأى حال القرية على تلك الصورة من الخراب تعجب من قدرة الله على إحيائها ، وتشوق إلى عمارتها واعترف بالعجو عن معرفة طريق الإِحياء . فماذا كانت نتيجة هذا التساؤل ؟ كانت نتيجته كما حكاها القرآن : { فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } .

أي : بعد أن قال هذا الذي مر على تلك القرية الخاوية على عروشها ما قال ، ألبثه الله - تعالى - في الموت مائة عام { ثُمَّ بَعَثَهُ } أي أحياه ببعث روحه إلى بدنه { قَالَ كَمْ لَبِثْتَ } أي كم مدة من الزمان لبتثها على هذه الحال ؟ { قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } .

وقال - سبحانه - : { فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } ولم يقل ثم أحياه ، للدلالة على أنه عاد كهيئته يوم مات عاقلا فاهما مستعدا للنظر والاستدلال وكان ذلك بعد عمارة القرية وللإِشهار بسرعته وسهولة تأتيه على الباري - سبحانه - .

قال ابن كثير : كان أول شيء أحيا الله فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع الله فيه كيف يحيى بدنه فلما استقل سوياً قال الله له بواسطة الملك { كَمْ لَبِثْتَ } ؟ { قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } وذلك أنه مات أول النهار ثم بعثه الله في آخر النهار فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم فقال : { أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } .

وقوله : { قَالَ كَمْ لَبِثْتَ } استئناف مبنى على سؤال كأنه قيل : فماذا قال له بعد بعثه ؟

فقيل : قال كم لبثت ليظهر له العجز عن الإِحاطة بشئون الله - تعالى - على أتم وجه وتنحسم مادة استبعاده بالمرة .

وكم منصوبة على الظرفية ومميزها محذوف والتقدير كم يوما أو وقتا والناصب لها قوله : { لَبِثْتُ } .

وفي هذه الجملة الكريمة بيان للناس بأن الموت يشبه النوم ، وأن البعث يشبه اليقظة بعده وأنه لا شيء محال على الله - تعالى - فهو القائل : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } وفي الحديث الشريف : " والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون ولتحاسبن بما تعملون ، ولتجزون بالإِحسان إحسانا وبالسوء سوءا ، وإنها لجنة أبدا ، أو لنار أبدا " .

وقوله - تعالى - : { قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ } معطوف على مقدر ، أي : ليس الأمر كما قلت إنك لبثت يوما أو بعض يوم بل إنك لبثت مائة عام ثم أرشده - سبحانه - إلى التأمل في أمور فبها أبلغ دلالة على قدرة الله تعالى وعلى صحة البعث فقال - سبحانه - : { فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظر إلى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً } .

قوله : { لَمْ يَتَسَنَّهْ } أي لم يتغير بمرور السنين الطويلة ولم تذهب طراوته فكأنه لم تمر عليه السنون ولفظ يتسنه : مشتق من السنة ، والهاء فيه أصلية إذا قدر لام سنة هام ، وأصلها سنهة لتصغيرها على سنيهة وجمعها على سنهات كسجدة وسجدات ، ولقولهم : سانهته إذا عاملته سنة فسنة ، وتسنه عند القوم إذا أقام فيهم سنة . أو الهاء للوقف نحو كتابيه وجزمه بحذف حرف العلة إذا قدر لام سنة واوا ، وأصلها سنوه لتصغيرها على سنية وجمعها على سنوات .

وقوله : { نُنْشِزُهَا } أي نرفعها . يقال : أنشز الشيء إذا رفعه من مكانه . وأصله من النشز - بفتحتين وبالسكون - وهو الكان المرتفع . وقرئ { نُنْشِزُهَا } - بضم النون والراء - أي نحييها من أنشر الله الموتى أي أحياهم . والمعنى : قال الله - تعالى - لهذا الذي مر على قرية وهي خاوية على غروشها إنك لم تلبث يوما أو بعض يوم في الموت كما تظن بل لبثت مائة عام فإن كنت في شك من ذلك فانظر إلى طعامك وشرابك لتشاهد أمرا آخر من دلائل قدرتنا فإن هذا الطعام والشراب كما ترى لم يتغير بمرور السنين وكر الأعوام بل بقي على حالته . وانظر إلى حمارك كيف نخرت عظامه ، وتفرقت أوصاله مما يشهد بأنه قد مرت عليه السنوات الطويلة .

وقوله : { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ } معطوف على محذوف متعلق بفعل مقدر قبله بطريق الاستئناف مقرر لمضمون ما سبق ، والتقدير : فعلنا ما فعلنا لترى وتشاهد بنفسك مظاهر قدرة الله ، ولنجعلك آية معجزة ودليلا على صحة البعث وقوله : { وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً } أي انظر وتأمل في هذا العظام كيف نركب بعضها في بعض بعد أن نوجدها .

وقيل المعنى : وانظر إلى العظام أي عظام حمارك التي تفرقت وتناثرت لتشاهد كيف نرفعها من الأرض فنردها إلى أماكنها في جسده .

قال ابن كثير : قال السدي وغيره : " تفرقت عظام حماره يمينا وشمالا حوله فنظر إليها وهي تلوح من بياضها ، فبعث الله ريحا فجمعتها من كل موضع ، ثم ربك كل عظم في موضعه ، وذلك كله بمرأى من العزير " .

وجاء الضمير في قوله : { لَمْ يَتَسَنَّهْ } بالإِفراد مع أن المتقدم طعام وشراب ، لأنهما متلازمان بمعننى أن أحدهما لا يكتفى به عن الآخر فصارا بمنزلة شيء واحد ، فكأنه قال : انظر إلى غذائك .

ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي فلما تبين له بالأدلة الناصعة ، وبالمشاهدة الحسية قدرة الله - تعالى - على الإِحياء والإِماتة ، وعلى البعث والنشور قال أعلم أي أستيقن وأومن وأعتقد أن الله - تعالى - على كل شيء قدير ، وأنه - سبحانه - لا يعجزه شيء .

والفاء في قوله : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ . . . } عاطفة على مقدر يستدعيه المقام فكأنه قيل : رفع الله العظام من أماكنها وأكساها لحما فلما تبين له ذلك ، وتيقنه قال أعلم أن الله على كل شيء قدير . وفاعل { تَبَيَّنَ } مضمر يفسره سياق الكلام والتقدير : فلما تبين له كيفية الإِحياء أو فلما تبين له ما أشكل عليه من أمر إحياء الموتى قال أعلم أن الله على كل شيء قدير .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَوۡ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرۡيَةٖ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحۡيِۦ هَٰذِهِ ٱللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۖ فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِاْئَةَ عَامٖ ثُمَّ بَعَثَهُۥۖ قَالَ كَمۡ لَبِثۡتَۖ قَالَ لَبِثۡتُ يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۖ قَالَ بَل لَّبِثۡتَ مِاْئَةَ عَامٖ فَٱنظُرۡ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمۡ يَتَسَنَّهۡۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجۡعَلَكَ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِۖ وَٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡعِظَامِ كَيۡفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكۡسُوهَا لَحۡمٗاۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعۡلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (259)

258

وفي سياق الحديث عن سر الموت والحياة تجيء القصة الأخرى :

( أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ، قال : أنى يحيي هذه الله بعد موتها ؟ فأماته الله مائة عام ، ثم بعثه . قال : كم لبثت ؟ قال : لبثت يوما أو بعض يوم ! قال : بل لبثت مائة عام . فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ؛ وانظر إلى حمارك - ولنجعلك آية للناس - وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما . فلما تبين له قال : أعلم أن الله على كل شيء قدير ) . .

من هو ( الذي مر على قرية ) ؟ ما هذه القرية التي مر عليها وهي خاوية على عروشها ؟ إن القرآن لم يفصح عنهما شيئا ، ولو شاء الله لأفصح ، ولو كانت حكمة النص لا تتحقق إلا بهذا الإفصاح ما أهمله في القرآن . فلنقف نحن - على طريقتنا في هذه الظلال - عند تلك الظلال . إن المشهد ليرتسم للحس قويا واضحا موحيا . مشهد الموت والبلى والخواء . . يرتسم بالوصف : ( وهي خاوية على عروشها ) . . محطمة على قواعدها . ويرتسم من خلال مشاعر الرجل الذي مر على القرية . هذه المشاعر التي ينضح بها تعبيره : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ؟ ) . .

إن القائل ليعرف أن الله هناك . ولكن مشهد البلى والخواء ووقعه العنيف في حسه جعله يحار : كيف يحيي هذه الله بعد موتها ؟ وهذا أقصى ما يبلغه مشهد من العنف والعمق في الإيحاء . . وهكذا يلقي التعبير القرآني ظلاله وإيحاءاته ، فيرسم المشهد كأنما هو اللحظة شاخص تجاه الأبصار والمشاعر .

( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ؟ ) . .

كيف تدب الحياة في هذا الموات ؟

( فأماته الله مائة عام . ثم بعثه ) . .

لم يقل له كيف . إنما أراه في عالم الواقع كيف ! فالمشاعر والتأثرات تكون أحيانا من العنف والعمق بحيث لا تعالج بالبرهان العقلي ، ولا حتى بالمنطق الوجداني ؛ ولا تعالج كذلك بالواقع العام الذي يراه العيان . . إنما يكون العلاج بالتجربة الشخصية الذاتية المباشرة ، التي يمتلىء بها الحس ، ويطمئن بها القلب ، دون كلام !

( قال : كم لبثت ؟ قال : لبثت يوما أو بعض يوم ! ) . .

وما يدريه كم لبث والإحساس بالزمن لا يكون إلا مع الحياة والوعي ؟ على أن الحس الإنساني ليس هو المقياس الدقيق للحقيقة ؛ فهو يخدع ويضل ؛ فيرى الزمن الطويل المديد قصيرا لملابسة طارئة ؛ كما يرى اللحظة الصغيرة دهرا طويلا لملابسة طارئة كذلك !

( قال : بل لبثت مائة عام ) . .

وتبعا لطبيعة التجربة ، وكونها تجربة حسية واقعية ، نتصور أنه لا بد كانت هنالك آثار محسوسة تصور فعل مائة عام . . هذه الآثار المحسوسة لم تكن في طعام الرجل ولا شرابه ، فلم يكونا آسنين متعفنين :

( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) . .

وإذن فلا بد أن هذه الآثار المحسوسة كانت متمثلة في شخصه أو في حماره :

( وانظر إلى حمارك - ولنجعلك آية للناس - وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما ) أية عظام ؟ عظامه هو ؟ لو كان الأمر كذلك - كما يقول بعض المفسرين إن عظامه هي التي تعرت من اللحم - للفت هذا نظره عندما استيقظ ، ووخز حسه كذلك ، ولما كانت إجابته : ( لبثت يوما أو بعض يوم ) .

لذلك نرجح أن الحمار هو الذي تعرت عظامه وتفسخت . ثم كانت الآية هي ضم هذه العظام بعضها إلى بعض وكسوتها باللحم وردها إلى الحياة ، على مرأى من صاحبه الذي لم يمسه البلى ، ولم يصب طعامه ولا شرابه التعفن . ليكون هذا التباين في المصائر والجميع في مكان واحد ، معرضون لمؤثرات جوية وبيئية واحدة ، آية أخرى على القدرة التي لا يعجزها شيء ، والتي تتصرف مطلقة من كل قيد ؛ وليدرك الرجل كيف يحيي هذه الله بعد موتها !

أما كيف وقعت الخارقة ؟ فكما تقع كل خارقة ! كما وقعت خارقة الحياة الأولى . الخارقة التي ننسى كثيرا أنها وقعت ، وأننا لا ندري كيف وقعت ! ولا ندري كذلك كيف جاءت إلا أنها جاءت من عند الله بالطريق التي أرادها الله . . وهذا " دارون " أكبر علماء الحياة يظل ينزل في نظريته بالحياة درجة درجة ، ويتعمق أغوارها قاعا قاعا ، حتى يردها إلى الخلية الأولى . . ثم يقف بها هناك . إنه يجهل مصدر الحياة في هذه الخلية الأولى . ولكنه لا يريد أن يسلم بما ينبغي أن يسلم به الإدراك البشري ، والذي يلح على المنطق الفطري إلحاحا شديدا . وهو أنه لا بد من واهب وهب الحياة لهذه الخلية الأولى . لا يريد أن يسلم لأسباب ليست علمية وإنما هي تاريخية في صراعه مع الكنيسة ! فإذا به يقول : " أن تفسير شؤون الحياة بوجود خالق يكون بمثابة ادخال عنصر خارق للطبيعة في وضع ميكانيكي بحت ! " . .

أي وضع ميكانيكي ! إن الميكانيكية هي أبعد شيء عن هذا الأمر الذي يفرض على الإدراك فرضا أن يبحث عن مصدر لهذا السر القائم تجاه الأبصار والبصائر !

وإنه - هو نفسه - ليجفل من ضغط المنطق الفطري ، الذي يلجيء الإدراك البشري إلجاء إلى الاعتراف بما وراء الخلية الأولى ، فيرجع كل شيء إلى " السبب الأول " ! ولا يقول : ما هو هذا السبب الأول ؟ ما هو هذا السبب الذي يملك إيجاد الحياة أول مرة ، ثم يملك - حسب نظريته هو وهي محل نظر طويل - توجيه الخلية الأولى في طريقها الذي افترض هو أنها سارت فيه صعدا ، دون أي طريق آخر غير الذي كان ! إنه الهروب والمراء والمحال ! ! !

ونعود إلى خارقة القرية لنسأل : وما الذي يفسر أن ينال البلى شيئا ويترك شيئا في مكان واحد وفي ظروف واحدة ؟ إن خارقة خلق الحياة أول مرة أو خارقة رجعها كذلك لا تفسر هذا الاختلاف في مصائر أشياء ذات ظروف واحدة .

إن الذي يفسر هذه الظاهرة هو طلاقة المشيئة . . طلاقتها من التقيد بما نحسبه نحن قانونا كليا لازما ملزما لا سبيل إلى مخالفته أو الاستثناء منه ! وحسباننا هذا خطأ بالقياس إلى المشيئة المطلقة : خطأ منشؤه أننا نفرض تقديراتنا نحن ومقرراتنا العقلية أو " العلمية ! " على الله سبحانه ! وهو خطأ يتمثل في أخطاء كثيرة :

فأولا : ما لنا نحن نحاكم القدرة المطلقة إلى قانون نحن قائلوه ؟ قانون مستمد من تجاربنا المحدودة الوسائل ، ومن تفسيرنا لهذه التجارب ونحن محدودو الإدراك ؟

وثانيا : فهبه قانونا من قوانين الكون أدركناه . فمن ذا الذي قال لنا : إنه قانون نهائي كلي مطلق ، وأن ليس وراءه قانون سواه ؟

وثالثا : هبه كان قانونا نهائيا مطلقا . فالمشيئة الطليقة تنشىء القانون ولكنها ليست مقيدة به . . إنما هو الاختيار في كل حال .

وكذلك تمضي هذه التجربة ، فتضاف إلى رصيد أصحاب الدعوة الجدد ، وإلى رصيد التصور الإيماني الصحيح . وتقرر - إلى جانب حقيقة الموت والحياة وردهما إلى الله - حقيقة أخرى هي التي أشرنا إليها قريبا . حقيقة طلاقة المشيئة ، التي يعنى القرآن عناية فائقة بتقريرها في ضمائر المؤمنين به ، لتتعلق بالله مباشرة ، من وراء الأسباب الظاهرة ، والمقدمات المنظورة . فالله فعال لما يريد . وهكذا قال الرجل الذي مرت به التجربة :

( فلما تبين له ، قال : أعلم أن الله على كل شيء قدير ) . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَوۡ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرۡيَةٖ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحۡيِۦ هَٰذِهِ ٱللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۖ فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِاْئَةَ عَامٖ ثُمَّ بَعَثَهُۥۖ قَالَ كَمۡ لَبِثۡتَۖ قَالَ لَبِثۡتُ يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۖ قَالَ بَل لَّبِثۡتَ مِاْئَةَ عَامٖ فَٱنظُرۡ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمۡ يَتَسَنَّهۡۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجۡعَلَكَ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِۖ وَٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡعِظَامِ كَيۡفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكۡسُوهَا لَحۡمٗاۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعۡلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (259)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ أَوْ كَالّذِي مَرّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنّ اللّهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

يعني تعالى ذكره بقوله : { أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ } نظير الذي عنى بقوله : { ألَمْ تَرَ الّذِي حاجّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبّهَ } من تعجيب محمد صلى الله عليه وسلم منه .

وقوله : { أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ } عطف على قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِي حاجّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ } . وإنما عطف قوله : { أوْ كالّذِي } على قوله : { إلى الّذِي حاجّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ } وإن اختلف لفظاهما ، لتشابه معنييهما ، لأن قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِي حاجّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ } بمعنى : هل رأيت يا محمد كالذي حاجّ إبراهيم في ربه ، ثم عطف عليه بقوله : { أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ } لأن من شأن العرب العطف بالكلام على معنى نظير له قد تقدمه وإن خالف لفظه لفظه . وقد زعم بعض نحويي البصرة أن «الكاف » في قوله : { أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ } زائدة ، وأن المعنى : ألم ترى إلى الذي حاجّ إبراهيم ، أو الذي مرّ على قرية . وقد بينا قبل فيما مضى أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله شيء لا معنى له بما أغنى عن إعادته في هذا الموضعت .

واختلف أهل التأويل في الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها ، فقال بعضهم : هو عُزَيْر . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن ناجية بن كعب : { أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِها } قال : عزير .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا أبو خزيمة ، قال : سمعت سليمان بن بريدة في قوله : { أوْ كالّذِي مَرّ عَلَى قَرْيَةٍ } قال : هو عزير .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خاويَةٌ على عُرُوشِها } قال : ذكر لنا أنه عزير .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ( مثله ) .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه قوله : { أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ } قال : قال الربيع : ذكر لنا والله أعلم أن الذي أتى على القرية هو عزير .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين قال : ثني حجاج عن ابن جريج ، عن عكرمة : { أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِها } قال : عزير .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط عن السدي : { أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ } قال : عزير .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { أوْ كالّذي مَرّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } إنه هو عزير .

حدثني يونس ، قال : قال لنا سلم الخواص : كان ابن عباس يقول : هو عزير .

وقال آخرون : هو إرميا بن حلقيّا وزعم محمد بن إسحاق أن إرميا هو الخضر .

حدثنا بذلك ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، قال : اسم الخضر فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل ، إرميا بن حلَقيّا ، وكان من سبط هارون بن عمران .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله : { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها } أن إرميا لما خرِب بيت المقدس وحرقت الكتب ، وقف في ناحية الجبل ، فقال : { أَنى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه ، قال : هو إرميا .

حدثني محمد بن عسكر ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : سمعت عبد الصمد بن معقل ، عن وهب بن منبه ، مثله .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن ميمون ، عن قيس بن سعد ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير في قول الله : { أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِها } قال : كان نبيا وكان اسمه إرميا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن قيس بن سعد ، عن عبد الله بن عبيد ، مثله .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني بكر بن مضر قال : يقولون والله أعلم : إنه إرميا .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره عجّب نبيه صلى الله عليه وسلم ممن قال إذ رأى قرية خاوية على عروشها : { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها } مع علمه أنه ابتدأ خلقها من غير شيء ، فلم يقنعه علمه بقدرته على ابتدائها ، حتى قال : أنى يحييها الله بعد موتها ! ولا بيان عندنا من الوجه الذي يصحّ من قبله البيان على اسم قائل ذلك ، وجائز أن يكون ذلك عزيرا ، وجائز أن يكون إرميَا ، ولا حاجة بنا إلى معرفة اسمه ، إذ لم يكن المقصود بالآية تعريف الخلق اسم قائل ذلك . وإنما المقصود بها تعريف المنكرين قدرة الله على إحيائه خلقه بعد مماتهم ، وإعادتهم بعد فنائهم ، وأنه الذي بيده الحياة والموت من قريش ، ومن كان يكذّب بذلك من سائر العرب ، وتثبيت الحجة بذلك على من كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل بإطلاعه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم على ما يزيل شكهم في نبوّته ، ويقطع عذرهم في رسالته ، إذ كانت هذه الأنباء التي أوحاها إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في كتابه من الأنباء التي لم يكن يعلمها محمد صلى الله عليه وسلم وقومه ، ولم يكن علم ذلك إلا عند أهل الكتاب ، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم وقومه منهم ، بل كان أميا وقومه أميون ، فكان معلوما بذلك عند أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله إليه . ولو كان المقصود بذلك الخبر عن اسم قائل ذلك لكانت الدلالة منصوبة عليه نصبا يقطع العذر ويزيل الشك ، ولكن القصد كان إلى ذمّ قيله ، فأبان تعالى ذكره ذلك لخلقه .

واختلف أهل التأويل في القرية التي مرّ عليها القائل : { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها } فقال بعضهم : هي بيت المقدس . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سهل بن عسكر ومحمد بن عبد الملك ، قالا : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه ، قال : لما رأى إرميا هدم بيت المقدس كالجبل العظيم ، قال : { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها } .

ثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه ، قال : هي بيت المقدس .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق عمن لا يتهم أنه سمع وهب بن منبه يقول ذلك .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أنه بيت المقدس ، أتى عزير بعد ما خرّبه بختنصر البابلي .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { أوْ كالّذِي مَرّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِها } أنه مرّ على الأرض المقدسة .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة في قوله : { أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ } قال : القرية : بيت المقدس ، مرّ بها عُزَيْر بعد إذ خرّبها بختنصر .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { أوْ كالّذِي مَرّ عَلى قَرْيَةٍ } قال : القرية بيت المقدس ، مرّ عليها عزير وقد خرّبها بختنصر .

وقال آخرون : بل هي القرية التي كان الله أهلك فيها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ، فقال لهم ( الله ) موتوا . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله تعالى ذكره : { ألَمْ تَرَى إلى الّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ } قال : قرية كان نزل بها الطاعون ، ثم اقتصّ قصتهم التي ذكرناها في موضعها عنه ، إلى أن بلغ فقال لهم الله موتوا في المكان الذي ذهبوا يبتغون فيه الحياة ، فماتوا ثم أحياهم الله { إنّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ على النّاسِ ولكنّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَشْكُرُونَ } . قال : ومرّ بها رجل وهي عظام تلوح ، فوقف ينظر ، فقال { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها ، فَأماتَهُ اللّهُ مائَةَ عامٍ ثُمّ بَعَثَهُ } إلى قوله { لَمْ يَتَسَنّه } .

والصواب من القول في ذلك كالقول في اسم القائل : { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها } سواء لا يختلفان .

( القول في تأويل قوله تعالى : { وَهِيَ خاوِيَةٌ على عُرُوشِها } .

يعني تعالى ذكره بقوله : { وَهِيَ خَاوِيَةٌ } وهي خالية من أهلها وسكانها ، يقال من ذلك : خوت الدار تَخْوي خَواءً وخُوِيّا ، وقد يقال للقرية : خَوِيَت ، والأول أعرب وأفصح . وأما في المرأة إذا كانت نفساء فإنه يقال : خَوِيَتْ تَخْوَى خَوًى منقوصا ، وقد يقال فيها : خَوَتْ تَخْوِي ، كما يقال في الدار ، وكذلك خَوِيَ الجوف يَخْوَى خَواءً شَديدا ، ولو قيل في الجوف ما قيل في الدار وفي الدار ما قيل في الجوف كان صوابا ، غير أن الفصيح ما ذكرت . وأما العروش : فإنها الأبنية والبيوت ، واحدها عَرْش ، وجمع قليله أَعْرُش ، وكل بناء فإنه عرش ، ويقال : عرش فلان ( دارا ) يعرِش ويعرُش ، وعرّش تعريشا ، ومنه قول الله تعالى ذكره : { وَما كانُوا يَعْرِشُونَ } يعني يبنون ، ومنه قيل عريش مكة ، يعني به : خيامها وأبنيتها .

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : خاوية : خراب . قال ابن جريج : بلغنا أن عزيرا خرج فوقف على بيت المقدس وقد خرّبه بختنصر ، فوقف فقال : أبعد ما كان لك من القدس والمقاتِلة والمال ما كان ! فحزن .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِها } قال : هي خراب .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : مرّ عليها عزير وقد خرّبها بختنصر .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِها } يقول : ساقطة على سقفها .

القول في تأويل قوله تعالى : { قالَ أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها فأماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عامٍ } .

ومعنى ذلك فيما ذكرت : أن قائله لما مرّ ببيت المقدس ، أو بالموضع الذي ذكر الله أنه مرّ به خرابا بعد ما عهده عامرا ، قال : { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها } ؟ فقال بعضهم : كان قيله ما قال من ذلك شكّا في قدرة الله على إحيائه . فأراه الله قدرته على ذلك بضربه المثل له في نفسه ، ثم أراه الموضع الذي أنكر قدرته على عمارته وإحيائه ، أحيا ما رآه قبل خرابه ، وأعمر ما كان قبل خرابه . وذلك أن قائل ذلك كان فيما ذكر لنا عهده عامرا بأهله وسكانه ، ثم رآه خاويا على عروشه ، قد باد أهله وشتتهم القتل والسباء ، فلم يبق منهم بذلك المكان أحد ، وخربت منازلهم ودورهم ، فلم يبق إلا الأثر . فلما رآه كذلك بعد الحال التي عهده عليها ، قال : على أيّ وجه يحيي هذه الله بعد خرابها فيعمرها ! استنكارا فيما قاله بعض أهل التأويل . فأراه كيفية إحيائه ذلك بما ضربه له في نفسه ، وفيما كان من شرابه وطعامه ، ثم عرّفه قدرته على ذلك وعلى غيره بإظهاره إحياء ما كان عجبا عنده في قدرة الله إحياؤه لرأي عينه حتى أبصره ببصره ، فلما رأى ذلك قال : { أعْلَمُ أنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

وكان سبب قيله ذلك كالذي :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه اليماني أنه كان يقول : قال الله لإرميا حين بعثه نبيا إلى بني إسرائيل : يا إرميا من قبل أن أخلقك اخترتك ، ومن قبل أن أصوّرك في رحم أمك قدستك ، ومن قبل أن أخرجك من بطنها طهرتك ، ومن قبل أن تبلغ السعي نبأتك ، ومن قبل أن تبلغ الأشد اخترتك ، ولأمر عظيم اجتبيتك ، فبعث الله تعالى ذكره إرميا إلى ملك بني إسرائيل يسدّده ويرشده ، ويأتيه بالخبر من الله فيما بينه وبينه¹ قال : ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل ، وركبوا المعاصي ، واستحلوا المحارم ، ونسوا ما كان الله صنع بهم ، وما نجاهم من عدوّهم سنحاريب ، فأوحى الله إلى إرميا : أن ائت قومك من بني إسرائيل ، فاقصص عليهم ما آمرك به ، وذكرهم نعمتي عليهم وعرّفهم أحداثهم ، ثم ذكر ما أرسل الله به إرميا إلى قومه من بني إسرائيل ، قال : ثم أوحى الله إلى إرميا : إني مهلك بني إسرائيل بيافث ، ويافث أهل بابل ، وهم من ولد يافث بن نوح¹ فلما سمع إرميا وحي ربه ، صاح وبكى وشقّ ثيابه ، ونبذ الرماد على رأسه ، فقال : ملعون يوم ولدت فيه ، ويوم لقيت التوراة ، ومن شرّ أيامي يوم ولدت فيه ، فما أبقيت آخر الأنبياء إلا لما هو شرّ عليّ ، لو أراد بي خيرا ما جعلني آخر الأنبياء من بني إسرائيل ، فمن أجلي تصيبهم الشقوة والهلاك¹ فلما سمع الله تضرّع الخضر وبكاءه وكيف يقول : ناداه : إرميا أشقّ عليك ما أوحيت إليك ؟ قال : نعم يا ربّ أهلكني في بني إسرائيل ما لا أسرّ به ، فقال الله : وعزتي العزيزة لا أهلك بيت المقدس وبني إسرائيل حتى يكون الأمر من قبلك في ذلك ، ففرح عند ذلك إرميا لما قال له ربه ، وطابت نفسه ، وقال : لا والذي بعث موسى وأنبياءه بالحقّ ، لا آمر ربي بهلاك بني إسرائيل أبدا ، ثم أتى ملك بني إسرائيل ، وأخبره بما أوحى الله إليه ، ففرح واستبشر ، وقال : إن يعذّبنا ربنا فبذنوب كثيرة قدمناها لأنفسنا ، وإن عفا عنا فبقدرته¹ ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية ، وتمادوا في الشرّ ، وذلك حين اقترب هلاكهم ، فقلّ الوحي ، حتى لم يكونوا يتذكرون الاَخرة ، وأمسك عنهم حين ألهتهم الدنيا وشأنها ، فقال ملكهم : يا بني إسرائيل انتهوا عما أنتم عليه قبل أن يمسكم بأس من الله ، وقبل أن يبعث عليكم ملوك لا رحمة لهم بكم ، فإن ربكم قريب التوبة ، مبسوط اليدين بالخير ، رحيم من تاب إليه ، فأبوا عليه أن ينزعوا عن شيء مما هم عليه ، وإن الله ألقى في قلب بختنصر بن نعون بن زادان أن يسير إلى بيت المقدس ، ثم يفعل فيه ما كان جده سنحاريب أراد أن يفعله ، فخرج في ستمائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس¹ فلما فصل سائرا أتى ملك بني إسرائيل الخبر أن بختنصر أقبل هو وجنوده يريدكم ، فأرسل الملك إلى إرميا ، فجاءه فقال : يا إرميا أين ما زعمت لنا أن ربنا أوحى إليك أن لا يهلك أهل بيت المقدس حتى يكون منك الأمر في ذلك ، فقال إرميا للملك : إن ربي لا يخلف الميعاد ، وأنا به واثق¹ فلما اقترب الأجل ، ودنا انقطاع ملكهم ، وعزم الله على هلاكهم ، بعث الله ملكا من عنده ، فقال له : اذهب إلى إرميا فاستفته ، وأمره بالذي يستفتيه فيه ، فأقبل المَلك إلى إرميا ، وقد تمثل له رجلاً من بني إسرائيل ، فقال له إرميا : من أنت ؟ قال : رجل من بني إسرائيل أستفتيك في بعض أمري ، فأذن له ، فقال الملك : يا نبيّ الله أتيتك أستفتيك في أهل رحمي ، وصلت أرحامهم بما أمرني الله به ، لم آت إليهم إلا حسَنا ، ولم آلهم كرامة ، فلا تزيدهم كرامتي إياهم إلا إسخاطا لي ، فأفتني فيهم يا نبيّ الله ، فقال له : أحسن فيما بينك وبين الله ، وصل ما أمرك الله به أن تصل ، وأبشر بخير ، فانصرف عنه الملك¹ فمكث أياما ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل الذي جاءه ، فقعد بين يديه ، فقال له إرميا : من أنت ؟ قال : أنا الرجل الذي أتيتك في شأن أهلي ، فقال له نبيّ الله ، أو ما طهرت لك أخلاقهم بعد ، ولم تر منهم الذي تحب ، فقال : يا نبيّ الله ، والذي بعثك بالحقّ ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى أهل رحمه إلا وقد أتيتها إليهم وأفضل من ذلك ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : ارجع إلى أهلك فأحسن إليهم ، اسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلح ذات بينكم ، وأن يجمعكم على مرضاته ، ويجنبكم سخطه ، فقال الملك من عنده ، فلبث أياما ، وقد نزل بختنصر بجنوده حول بيت المقدس أكثر من الجراد ، ففزع بنو إسرائيل فزعا شديدا ، وشقّ ذلك على ملك بني إسرائيل ، فدعا إرميا ، فقال : يا نبيّ الله ، أين ما وعدك الله ، إني بربي واثق ، ثم إن الملك أقبل إلى إرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده ، فقعد بين يديه ، فقال له إرميا : من أنت ؟ قال : أنا الذي كنت استفتيك في شأن أهلي مرتين ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : أو لم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه ؟ فقال الملك : يا نبيّ الله كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه ، وأعلم أنما قصدهم في ذلك سخطي ، فلما أتيتهم اليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله ، ولا يحبه الله ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : على أيّ عمل رأيتهم ؟ قال : يا نبيّ الله رأيتهم على عمل عظيم من سخط الله ، ولو كانوا على مثل ما كانوا عليه قبل اليوم لم يشتدّ عليهم غضبي ، وصبرت لهم ورجوتهم ، ولكن غضبت اليوم لله ولك ، فأتيتك لأخبرك خبرهم ، وإني أسألك بالله الذي بعثك بالحقّ إلا ما دعوت عليهم ربك أن يهلكهم ، فقال إرميا : يا مالك السموات والأرض ، إن كانوا على حقّ وصواب فأبقهم ، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه ، فأهلكهم¹ فلما خرجت الكلمة من في إرميا أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس ، فالتهب مكان القربان وخُسف بسبعة أبواب من أبوابها¹ فلما رأى ذلك إرميا صاح وشقّ ثيابه ، ونبذ الرماد على رأسه ، فقال : يا ملك السماء ، ويا أرحم الراحمين أين ميعادك الذي وعدتني ؟ فنودي إرميا إنه لم يصبهم الذي أصابهم إلا بفتياك التي أفتيت بها رسولنا ، فاستيقن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها فتياه التي أفتى بها ثلاث مرات ، وأنه رسول ربه ، فطار إرميا حتى خالط الوحوش ، ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس ، فوطىء الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم ، وخرّب بيت المقدس ، ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا ثم يقذفه في بيت المقدس ، فقذفوا فيه التراب حتى ملئوه ، ثم انصرف راجعا إلى أرض بابل ، واحتمل معه سبايا بني إسرائيل ، وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم ، فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل ، فاختار منهم تسعين ألف صبي فلما خرجت غنائم جنده ، وأراد أن يقسمهم فيهم ، قالت له الملوك الذي كانوا معه : أيها الملك ، لك غنائمنا كلها ، واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل ، ففعل ، فأصاب كل واحد منهم أربعة غلمة ، وكان من أولئك الغلمان : دانيال ، وعزاريا ، ومسايل ، وحنانيا . وجعلهم بختنصر ثلاث فرق : فثلثا أقرّ بالشام ، وثلثا سبي ، وثلثا قتل ، وذهب بأسبية بيت المقدس حتى أقدمها بابل وبالصبيان التسعين الألف حتى أقدمهم بابل ، فكانت هذه الواقعة الأولى التي ذكر الله تعالى ذكره نبيّ الله بأحداثهم وظلمهم ، فلما ولى بختنصر عنه راجعا إلى بابل بمن معه من سبايا بني إسرائيل ، أقبل إرميا على حمار له معه عصير من عنب في زكرة وسلة تين ، حتى أتى إيليا ، فلما وقف عليها ، ورأى ما بها من الخراب دخله شك ، فقال : { أَنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها فأماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عامٍ } وحماره وعصيره وسلة تينه عنده حيث أماته الله ، ومات حماره معه ، فأعمى الله عنه العيون ، فلم يره أحد ، ثم بعثه الله تعالى ، فقال له : { كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إلى طَعَامِكَ وَشرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّه } يقول : لم يتغير { وَانْظُرْ إلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَك آيَةً للنّاسِ وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمّ نَكْسُوها لَحْما } فنظر إلى حماره يتصل بعضه إلى بعض ، وقد مات معه بالعروق والعصب ، ثم كيف كسي ذلك منه اللحم ، حتى استوى ، ثم جرى فيه الروح ، فقام ينهق ، ونظر إلى عصيره وتينه ، فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير . فلما عاين من قدرة الله ما عاين قال : أعلم أن الله على كل شيء قدير ، ثم عمر الله إرميا بعد ذلك ، فهو الذي يرى بفلوات الأرض والبلدان .

حدثني محمد بن عسكر وابن زَنْجُوَيْه ، قالا : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول : أوحى الله إلى إرميا وهو بأرض مصر أن الحق بأرض إيليا ، فإن هذه ليست لك بأرض مقام ، فركب حماره ، حتى إذا كان ببعض الطريق ، ومعه سلة من عنب وتين ، وكان معه سقاء جديد ، فملأه ماء ، فلما بدا له شخص بيت المقدس وما حوله من القرى والمساجد ، ونظر إلى خراب لا يوصف ، ورأى هَدم بيت المقدس كالجبل العظيم ، قال : { أَنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها } وسار حتى تبوأ منها منزلاً ، فربط حماره بحبل جديد . وعلق سقاءه ، وألقى الله عليه السبات¹ فلما نام نزع الله روحه مائة عام¹ فلما مرّت من المائة سبعون عاما ، أرسل الله ملكا إلى ملك من ملوك فارس عظيم يقال له يوسك ، فقال : إن الله يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت المقدس وإيلياء وأرضها ، حتى تعود أعمر ما كانت ، فقال الملك : أنظرني ثلاثة أيام حتى أتأهب لهذا العمل ولما يصلحه من أداء العمل ، فأنظره ثلاثة أيام ، فانتدب ثلاثمائة قهرمان ، ودفع إلى كل قهرمان ألف عامل ، وما يصلحه من أداة العمل ، فسار إليها قهارمته ، ومعهم ثلاثمائة ألف عامل¹ فلما وقعوا في العمل ردّ الله روح الحياة في عين إرميا ، وأخر جسده ميتا ، فنظر إلى إيليا وما حولها من القرى والمساجد والأنهار والحروث تعمل وتعمر وتجدّد ، حتى صارتا كما كانت . وبعد ثلاثين سنة تمام المائة ، ردّ إليه الروح ، فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنّه ، ونظر إلى حماره واقفا كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب ، ونظر إلى الرّمة في عنق الحمار لم تتغير جديدة ، وقد أتى على ذلك ريح مائة عام وبرد مائة عامر وحرّ مائة عام ، لم تتغير ولم تنتقض شيئا ، وقد نحل جسم إرميا من البلى ، فأنبت الله له لحما جديدا ، ونشزَ عظامه وهو ينظر ، فقال له الله : { انْظُرْ إلى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ وَانْظُرْ إلى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً للنّاسِ وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمّ نَكْسُوها لَحْما فَلَمّا تَبَيّنَ لَه قالَ أعْلَمُ أنّ اللّه على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله : { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها } إن إرميا لما خرب بيت المقدس وحرقت الكتب ، وقف في ناحية الجبل ، فقال : { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها فأماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عامٍ } ثم ردّ الله من ردّ من بني إسرائيل على رأس سبعين سنة من حين أماته يعمرونها ثلاثين سنة تمام المائة¹ فلما ذهبت المائة ردّ الله روحه وقد عُمّرت على حالها الأولى ، فجعل ينظر إلى العظام كيف تلتام بعضها إلى بعض ، ثم نظر إلى العظام كيف تكسى عصبا ولحما . { فَلَمّا تَبَيّنَ } له ذلك { قالَ أعْلَمُ أنّ اللّهَ عَلى كلّ شيءٍ قَدِيرٌ } فقال الله تعالى ذكره : { انْظُرْ إلى طعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ } قال : فكان طعامه تينا في مكتل ، وقُلّة فيها ماء .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { أوْ كالّذِي مَرّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ على عُرُوشِها } وذلك أن عزيرا مرّ جائيا من الشام على حمار له معه عصير وعنب وتين¹ فلما مرّ بالقرية فرآها ، وقف عليها وقلب يده وقال : كيف يحيي هذه الله بعد موتها ؟ ليس تكذيبا منه وشكّا . فأماته الله وأمات حماره ، فهلكا ومرّ عليهما مائة سنة . ثم إن الله أحيا عزيرا فقال له : كم لبثت ؟ قال له : لبثت يوما أو بعض . قيل له : بل لبثت مائة عام ، فانظر إلى طعامك من التين والعنب ، وشرابك من العصير { لَمْ يَتَسَنّهْ } . . . الآية .

القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ قال بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ } .

يعني تعالى ذكره بقوله : { ثُمّ بَعَثَهُ } ثم أثاره حيا من بعد مماته . وقد دللنا على معنى البعث فيما مضى قبل .

وأما معنى قوله : { كَمْ لَبِثْتَ } فإن كم استفهام في كلام العرب عن مبلغ العدد ، وهو في هذا الموضع نصب ب«لبثت » ، وتأويله : قال الله له : كم قدر الزمان الذي لبثت ميتا قبل أن أبعثك من مماتك حيا ؟ قال المبعوث بعد مماته : لبثت ميتا إلى أن بعثتني حيا يوما واحدا أو بعض يوم . وذكر أن المبعوث هو إرميا أو عزير ، أو من كان ممن أخبر الله عنه هذا الخبر . وإنما قال : { لَبِثْتُ يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ } لأن الله تعالى ذكره كان قبض روحه أول النهار ، ثم ردّ روحه آخر النهار بعد المائة عام فقيل له : كم لبثت ؟ قال : لبثت يوما¹ وهو يرى أن الشمس قد غربت فكان ذلك عنده يوما لأنه ذكر أنه قبض روحه أول النهار وسئل عن مقدار لبثه ميتا آخر النهار وهو يرى أن الشمس قد غربت ، فقال : لبثت يوما ، ثم رأى بقية من الشمس قد بقيت لم تغرب ، فقال : أو بعض يوم ، بمعنى : بل بعض يوم ، كما قال تعالى ذكره : { وأرْسَلْنَاهُ إلى مِائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ } بمعنى : بل يزيدون . فكان قوله : { أوْ بَعْضَ يَوْمٍ } رجوعا منه عن قوله : { لَبِثْتُ يَوْما } .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { ثُمّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ } قال : ذكر لنا أنه مات ضحى ، ثم بعثه قبل غيبوبة الشمس ، فقال : لبثت يوما . ثم التفت فرأى بقية من الشمس ، فقال : أو بعض يوم . فقال : بل لبثت مائة عام .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } قال : مرّ على قرية فتعجب ، فقال : أنى يحيي هذه الله بعد موتها ! فأماته الله أوّل النهار ، فلبث مائة عام ، ثم بعثه في آخر النهار ، فقال : كم لبثت ؟ قال : لبثت يوما أو بعض يوم ، قال : بل لبثت مائة عام .

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، قال : قال الربيع : أماته الله مائة عام ، ثم بعثه ، قال : كم لبثت ؟ قال : لبثت يوما أو بعض يوم . قال : بل لبثت مائة عام .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : لما وقف على بيت المقدس وقد خرّبه بختنصر ، قال : أنى يحيي هذه الله بعد موتها ! كيف يعيدها كما كانت ؟ فأماته الله . قال : وذكر لنا أنه مات ضحى ، وبعث قبل غروب الشمس بعد مائة عام ، فقال : كم لبثت ؟ قال : يوما . فلما رأى الشمس ، قال : أو بعض يوم .

القول في تأويل قوله تعالى : { فانْظُرْ إلى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ } .

يعني تعالى ذكره بقوله : { فانْظُرْ إلى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ } لم تغيره السنون التي أتت عليه . وكان طعامه فيما ذكر بعضهم سلة تين وعنب وشرابه قلة ماء . وقال بعضهم : بل كان طعامه سلة عنب وسلة تين وشرابه زقّ من عصير . وقال آخرون : بل كان طعامه سلة تين ، وشرابه دن خمر أو زُكْرَة خمر . وقد ذكرنا فيما مضى قول بعضهم في ذلك ونذكر ما فيه فيما يستقبل إن شاء الله .

وأما قوله { لَمْ يَتَسَنّهْ } ففيه وجهان من القراءة : أحدهما : «لم يتسنّ » بحذف الهاء في الوصل وإثباتها في الوقف . ومن قرأه كذلك فإنه يجعل الهاء في يتسنه زائدة صلة كقوله : { فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } وجعل فعلت منه : تسنيت تسنيا ، واعتلّ في ذلك بأن السنة تجمع سنوات ، فيكون تفعلت على نهجه . ومن قال في السنة سنينة فجائز على ذلك وإن كان قليلاً أن يكون تسننت تفعلت ، أبدلت النون ياء لما كثرت النونات كما قالوا : تظنيت وأصله الظن¹ وقد قال قوم : هو مأخوذ من قوله : { من حَمَإٍ مَسْنُونٍ } وهو المتغير . وذلك أيضا إذا كان كذلك ، فهو أيضا مما بدلت نونه ياء ، وهو قراءة عامة قرّاء الكوفة . والاَخر منهما : إثبات الهاء في الوصل والوقف ، ومن قرأه كذلك فإنه يجعل الهاء في يتسنه لام الفعل ويجعلها مجزومة بلم ، ويجعل فعلت منه تسنّهت ، ويفعل : أتسنّه تسنّها ، وقال في تصغير السنة : سُنَيْهة ، ومنه : أسنهت عند القوم ، وتسنهت عندهم : إذا أقمت سنة ، هذه قراءة عامة قراء أهل المدينة والحجاز .

والصواب من القراءة عندي في ذلك ، إثبات الهاء في الوصل والوقف ، لأنها مثبتة في مصحف المسلمين ، ولإثباتها وجه صحيح في كلتا الحالتين في ذلك .

ومعنى قوله : { لَمْ يَتَسَنّهْ } لم يأت عليه السنون فيتغير ، على لغة من قال : أسنهتُ عندكم أَسْنِهُ : إذا أقام سنة ، وكما قال الشاعر :

ولَيْسَتْ بِسَنْهاءٍ وَلا رُجّبِيّةٍولكنْ عَرايا في السّنِينَ الجوائِح

فجعل الهاء في السنة أصلاً ، وهي اللغة الفصحى ، وغير جائز حذف حرف من كتاب الله في حال وقف أو وصل لإثباته وجه معروف في كلامها .

فإن اعتلّ معتلّ بأن المصحف قد ألحقت فيه حروف هنّ زوائد على نية الوقف ، والوجه في الأصل عند القراءة حذفهن ، وذلك كقوله : { فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه } وقوله : { يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ } فإن ذلك هو مما لم يكن فيه شك أنه من الزوائد ، وأنه ألحق على نية الوقف . فأما ما كان محتملاً أن يكون أصلاً للحرف غير زائد فغير جائز ، وهو في مصحف المسلمين مثبت صرفه إلى أنه من الزوائد والصلات . على أن ذلك وإن كان زائدا فيما لا شك أنه من الزوائد ، فإن العرب قد تصل الكلام بزائد ، فتنطق به على نحو منطقها به في حال القطع ، فيكون وصلها إياه وقطعها سواء . وذلك من فعلها دلالة على صحة قراءة من قرأ جميع ذلك بإثبات الهاء في الوصل والوقف ، غير أن ذلك وإن كان كذلك فلقوله : { لَمْ يَتَسَنّهْ } حكم مفارق حكم ما كان هاؤه زائدا لا شك في زيادته فيه .

ومما يدلّ على صحة ما قلنا ، من أن الهاء في يتسنه من لغة من قال : «قد أسنهت » و«المسانهة » ، ما :

حدثت به عن القاسم بن سلام ، قال : حدثنا ابن مهدي ، عن أبي الجراح ، عن سليمان بن عمير ، قال : ثني هانىء مولى عثمان ، قال : كنت الرسول بين عثمان وزيد بن ثابت ، فقال زيد : سله عن قوله : لم يتسنّ ، أو لم يتسنه ؟ فقال عثمان : اجعلوا فيها هاء .

حدثت عن القاسم ، وحدثنا محمد بن محمد العطار ، عن القاسم ، وحدثنا أحمد والعطار جميعا ، عن القاسم ، قال : حدثنا ابن مهدي ، عن ابن المبارك ، قال : ثني أبو وائل شيخ من أهل اليمن عن هانىء البربري ، قال : كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف ، فأرسلني بكتف شاة إلى أبيّ بن كعب فيها : «لم يَتَسَنّ » و«فَأَمْهِل الكَافِرِينَ » و«لا تَبْدِيلَ للخَلْقِ » . قال : فدعا بالدواة ، فمحا إحدى اللامين وكتب : { لا تبديل لخلق الله } ومحا «فأَمهل » وكتب : { فمهل الكافرين } وكتب : «لم يتسنه » ألحق فيها الهاء .

ولو كان ذلك من «يتسنى » أو «يتسنن » لما ألحق فيه أبيّ هاء لا موضع لها فيه ، ولا أمر عثمان بإلحاقها فيها . وقد رُوي عن زيد بن ثابت في ذلك نحوُ الذي رُوِي فيه عن أبيّ بن كعب .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله { لَمْ يَتَسَنّهْ } فقال بعضهم بمثل الذي قلنا فيه من أن معناه لم يتغير . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن المفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه : { لَمْ يَتَسَنّهْ } لم يتغير .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { لَمْ يَتَسَنّهْ } لم يتغير .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { فانْظُرْ إلى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ } يقول : فانظر إلى طعامك من التين والعنب ، وشرابك من العصير لم يتسنه ، يقول : لم يتغير فيمحض التين والعنب ، ولم يختمر العصير هما حلوان كما هما . وذلك أنه مرّ جائيا من الشام على حمار له معه عصير وعنب وتين ، فأماته الله ، وأمات حماره ، ومرّ عليهما مائة سنة .

حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { فانْظُرْ إلى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ } يقول : لم يتغير ، وقد أتى عليه مائة عام .

حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك ، بنحوه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : { لَمْ يَتَسَنّهْ } لم يتغير .

حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن النضر ، عن عكرمة : { لَمْ يَتَسَنّهْ } لم يتغير .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { لَمْ يَتَسَنّهْ } لم يتغير في مائة سنة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني بكر بن مضر ، قال : يزعمون في بعض الكتب أن إرميا كان بإيليا حين خرّبها بختنصر ، فخرج منها إلى مصر فكان بها ، فأوحى الله إليه أن اخرج منها إلى بيت المقدس . فأتاها فإذا هي خربة ، فنظر إليها فقال : أنى يحيي هذه الله بعد موتها ! فأماته الله مائة عام ثم بعثه ، فإذا حماره حيّ قائم على رباطه ، وإذا طعامه سلّ عنب وسلّ تين لم يتغير عن حاله . قال يونس : قال لنا سلم الخواص : كان طعامه وشرابه سَلّ عنب وسَلّ تين وزِقّ عصير .

وقال آخرون : معنى ذلك : لم ينتن . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : { لَمْ يَتَسَنّهْ } لم ينتن .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسن ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد قوله : { إلى طَعامِكَ } قال : سلّ تين ، { وَشَرَابِكَ } دنّ خمر ، { لَمْ يَتَسَنّهْ } يقول : لم ينتن .

وأحسب أن مجاهدا والربيع ومن قال في ذلك بقولهما رأوا أن قوله : { لَمْ يَتَسَنّهْ } من قول الله تعالى ذكره : { مِنْ حَمَإِ مَسْنُونٍ } بمعنى المتغير الريح بالنتن من قول القائل : تسنّن . وقد بينت الدلالة فيما مضى على أن ذلك ليس كذلك .

فإن ظنّ ظانّ أنه من الأَسَن من قول القائل : أسن هذا الماء يَأْسَنُ أَسَنّا ، كما قال الله تعالى ذكره : { فِيهَا أنهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرَ آسِنٍ } فإن ذلك لو كان كذلك لكان الكلام : فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتأسن ، ولم يكن يتسنه . فإنه منه ، غير أنه ترك همزه ، قيل : فإنه وإن ترك همزه فغير جائز تشديد نونه ، لأن النون غير مشددة ، وهي في يتسنه مشددة ، ولو نطق من يتأسن بترك الهمزة لقيل يَتَسّنْ بتخفيف نونه بغير هاء تلحق فيه ، ففي ذلك بيان واضح أنه غير جائز أن يكون من الأَسَن .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَانْظُرْ إلى حِمَارِكَ } .

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { وَانْظُرْ إلى حِمارِكَ } فقال بعضهم : معنى ذلك : وانظر إلى إحيائي حمارك ، وإلى عظامه كيف أنشزها ثم أكسوها لحما .

ثم اختلف متأوّلو ذلك في هذا التأويل ، فقال بعضهم : قال الله تعالى ذكره ذلك له بعد أن أحياه خلقا سويّا ، ثم أراد أن يحيي حماره¹ تعريفا منه تعالى ذكره له كيفية إحيائه القرية التي رآها خاوية على عروشها ، فقال : { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها } مستنكرا إحياء الله إياها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه ، قال : بعثه الله فقال : { كَمْ لَبثتَ قالَ لبثتُ يوما أوْ بعضُ يومٍ } إلى قوله : { ثُمّ نَكْسُوهَا لَحْما } قال : فنظر إلى حماره يتصل بعض إلى بعض ، وقد كان مات معه بالعروق والعصب ، ثم كسا ذلك منه اللحم حتى استوى ثم جرى فيه الروح ، فقام ينهق . ونظر إلى عصيره وتينه ، فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير . فلما عاين من قدرة الله ما عاين ، قال : { أعْلَمُ أنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ثم إن الله أحيا عزيرا ، فقال : كم لبثت ؟ قال : لبثت يوما أو بعض يوم . قال : بل لبثت مائة عام ، فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ، وانظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه ، وانظر إلى عظامه كيف ننشزها ثم نكسوها لحما . فبعث الله ريحا ، فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل ذهبت به الطير والسباع ، فاجتمعت ، فركب بعضها في بعض وهو ينظر ، فصار حمارا من عظام ليس له لحم ولا دم . ثم إن الله كسا العظام لحما ودما ، فقام حمارا من لحم ودم وليس فيه روح . ثم أقبل ملك يمشي حتى أخذ بمنخر الحمار ، فنفخ فيه فنهق الحمار ، فقال : أعلم أنه الله على كل شيء قدير .

فتأويل الكلام على ما تأوله قائل هذا القول : وانظر إلى إحيائنا حمارك ، وإلى عظامه كيف ننشزها ثم نكسوها لحما ، ولنجعلك آية للناس . فيكون في قوله : { وَانْظُرْ إلى حِمَارِكَ } متروك من الكلام ، استغني بدلالة ظاهره عليه من ذكره ، وتكون الألف واللام في قوله : { وَانْظُرْ إلى العِظامِ } بدلاً من الهاء المرادة في المعنى ، لأن معناه : وانظر إلى عظامه : يعني إلى عظام الحمار .

وقال آخرون منهم : بل قال الله تعالى ذكره ذلك له بعد أن نفخ فيه الروح في عينه ، قالوا : وهي أول عضو من أعضائه نفخ الله فيه الروح ، وذلك بعد أن سوّاه خلقا سويا ، وقبل أن يحيى حماره . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : كان هذا رجلاً من بني إسرائيل نفخ الروح في عينيه ، فنظر إلى خلقه كله حين يحييه الله ، وإلى حماره حين يحييه الله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : بدأ بعينيه فنفخ فيهما الروح ، ثم بعظامه فأنشزها ، ثم وصل بعضها إلى بعض ، ثم كساها العصب ، ثم العروق ، ثم اللحم . ثم نظر إلى حماره ، فإذا حماره قد بلي وابيضت عظامه في المكان الذي ربطه فيه ، فنودي : يا عظام اجتمعي ، فإن الله منزل عليك روحا ! فسعى كل عظم إلى صاحبه ، فوصل العظام ، ثم العصب ، ثم العروق . ثم اللحم ، ثم الجلد ، ثم الشعر ، وكان حماره جَذَعا ، فأحياه الله كبيرا قد تشنن ، فلم يبق منه إلا الجلد من طول الزمن ، وكان طعامه سلّ عنب وشرابه دنّ خمر . قال ابن جريج عن مجاهد : نفخ الروح في عينيه ، ثم نظر بهما إلى خلقه كله حين نشره الله ، وإلى حماره حين يحييه الله .

وقال آخرون : بل جعل الله الروح في رأسه وبصره وجسده ميتا ، فرأى حماره قائما كهيئته يوم ربطه وطعامه وشرابه كهيئته يوم حلّ البقعة ، ثم قال الله له : انظر إلى عظام نفسك كيف ننشزها . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سهل بن عسكر ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول : ردّ الله روح الحياة في عين إرمياء وآخر جسده ميت ، فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنه ، ونظر إلى حماره واقفا كهيئته يوم ربطه ، لم يطعم ولم يشرب ، ونظر إلى الرمة في عنق الحمار لم تتغير جديدة .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { فَأماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمّ بَعَثَهُ } فنظر إلى حماره قائما قد مكث مائة عام ، وإلى طعامه لم يتغير قد أتى عليه مائة عام . { وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِرُها ثُمّ نَكْسُوها لَحْما } فكان أول شيء أحيا الله منه رأسه ، فجعل ينظر إلى سائر خلقه يخلق .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { فأمَاتَهُ اللّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمّ بَعَثَهُ } فنظر إلى حماره قائما ، وإلى طعامه وشرابه لم يتغير ، فكان أول شيء خلق منه رأسه ، فجعل ينظر إلى كل شيء منه يوصل بعضه إلى بعض . فلما تبين له ، قال : أعلم أن الله على كل شيء قدير .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أنه أول ما خلق الله منه رأسه ، ثم ركبت فيه عيناه ، ثم قيل له : انظر ! فجعل ينظر ، فجعلت عظامه تواصل بعضها إلى بعض ، وبعين نبيّ الله عليه السلام كان ذلك . فقال : أعلم أن الله على كل شيء قدير .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَانْظُرْ إلى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ وَانْظُرْ إلى حِمَارِكَ } وكان حماره عنده كما هو ، { وَلِنَجْعَلَكَ آيَة للنّاسِ وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها } . قال الربيع : ذكر لنا والله أعلم أنه أول ما خلق منه عيناه ، ثم قيل انظر ، فجعل ينظر إلى العظام يتواصل بعضها إلى بعض وذلك بعينيه . فقيل : أعلم أن الله على كل شيء قدير .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا ابن زيد قال قوله : { وَانْظُرْ إلى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ وَانْظُرْ إلى حِمارِكَ } واقفا عليك منذ مائة سنة ، { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ وَانْظُرْ إلى العِظامِ } يقول : وانظر إلى عظامك كيف نحييها حين سألتنا كيف نحيي هذه الأرض بعد موتها . قال : فجعل اللّهُ الروح في بصره وفي لسانه ، ثم قال : ادع الاَن بلسانك الذي جعل الله فيه الروح ، وانظر ببصرك ! قال : فكان ينظر إلى الجمجمة ، قال : فنادى : ليلحق كل عظم بأليفه ، قال : فجاء كل عظم إلى صاحبه ، حتى اتصلت وهو يراها ، حتى إن الكسرة من العظم لتأتي إلى الموضع الذي انكسرت منه ، فتلصق به حتى وصل إلى جمجمته ، وهو يرى ذلك . فلما اتصلت شدّها بالعصب والعروق ، وأجرى عليها اللحم والجلد ، ثم نفخ فيها الروح ، ثم قال : { انْظُرْ إلى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمّ نَكْسُوهَا لَحْما فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ } ذلك { قالَ أعْلَمُ أنّ اللّهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . قال : ثم أمر فنادى تلك العظام التي قال : { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } كما نادى عظام نفسه ، ثم أحياها الله كما أحياه .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني بكر بن مضر ، قال : يزعمون في بعض الكتب أن الله أمات إرمياء مائة عام ، ثم بعثه ، فإذا حماره حيّ قائم على رباطه . قال : وردّ الله إليه بصره وجعل الروح فيه قبل أن يبعث بثلاثين سنة ، ثم نظر إلى بيت المقدس وكيف عمر وما حوله . قال : فيقولون والله أعلم : إنه الذي قال الله تعالى ذكره : { أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ } . . . الآية .

ومعنى الآية على تأويل هؤلاء : وانظر إلى حمارك ، ولنجعلك آية للناس ، وانظر إلى عظامك كيف ننشزها بعد بلاها ، ثم نكسوها لحما ، فنحييها بحياتك ، فتعلم كيف يحيي الله القرى وأهلها بعد مماتها .

( وأولى الأقوال في هذه الآية بالصواب قول من قال : إن الله تعالى ذكره بعث قائلَ { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } من مماته ، ثم أراه نظير ما استنكر من إحياء الله القرية التي مرّ بها بعد مماتها عيانا من نفسه وطعامه وحماره ، فجعل تعالى ذكره ما أراه من إحيائه نفسه وحماره مثلاً لما استنكر من إحيائه أهل القرية التي مرّ بها خاوية على عروشها ، وجعل ما أراه من العبرة في طعامه وشرابه عبرة له وحجة عليه في كيفية إحيائه منازل القرية وجنانها ، وذلك هو معنى قول مجاهد الذي ذكرناه قبل .

وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية ، لأن قوله : { وَانْظُرْ إلى العِظامِ } إنما هو بمعنى : وانظر إلى العظام التي تراها ببصرك كيف ننشزها ، ثم نكسوها لحما ، وقد كان حماره أدركه من البلى في قول أهل التأويل جميعا نظير الذي لحق عظام من خوطب بهذا الخطاب ، فلم يمكن صرف معنى قوله : { وَانْظُرْ إلى العِظامِ } إلى أنه أمر له بالنظر إلى عظام الحمر دون عظام المأمور بالنظر إليها ، ولا إلى أنه أمر له بالنظر إلى عظام نفسه دون عظام الحمار .

وإذا كان ذلك كذلك ، وكان البلى قد لحق عظامه وعظام حماره ، كان الأولى بالتأويل أن يكون الأمر بالنظر إلى كل ما أدركه طرفه مما قد كان البلى لحقه لأن الله تعالى ذكره جعل جميع ذلك عليه حجة وله عبرة وعظة .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ } .

يعني تعالى ذكره بذلك : { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً للنّاسِ } أمتناك مائة عام ثم بعثناك . وإنما أدخلت الواو مع اللام التي في قوله : { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً للنّاسِ } وهو بمعنى «كي » ، لأن في دخولها في كي وأخواتها دلالة على أنها شرط لفعل بعدها ، بمعنى : ولنجعلك كذا وكذا فعلنا ذلك ، ولو لم تكن قبل اللام أعني لام كي واو كانت اللام شرطا للفعل الذي قبلها ، وكان يكون معناه : وانظر إلى حمارك ، لنجعلك آية للناس . وإنما عنى بقوله : { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً } ولنجعلك حجة على من جهل قدرتي ، وشكّ في عظمتي ، وأنا القادر على فعل ما أشاء من إماتة وإحياء ، وإفناء وإنشاء ، وإنعام وإذلال ، وإقتار وإغناء ، بيدي ذلك كله ، لا يملكه أحد دوني ، ولا يقدر عليه غيري .

وكان بعض أهل التأويل يقول : كان آية للناس بأنه جاء بعد مائة عام إلى ولده وولد ولده شابا وهم شيوخ . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، عن سفيان ، قال : سمعت الأعمش يقول : { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً للنّاسِ } قال : جاء شابا وولده شيوخ .

وقال آخرون : معنى ذلك أنه جاء وقد هلك من يعرفه ، فكان آية لمن قدم عليه من قومه . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : رجع إلى أهله ، فوجد داره قد بيعت وبنيت ، وهلك من كان يعرفه ، فقال : اخرجوا من داري ! قالوا : ومن أنت ؟ قال : أنا عزير . قالوا : أليس قد هلك عزير منذ كذا وكذا ؟ قال : فإن عزيرا أنا هو ، كان من حالي وكان . فلما عرفوا ذلك ، خرجوا له من الدار ودفعوها إليه .

والذي هو أولى بتأويل الآية من القول ، أن يقال : إن الله تعالى ذكره ، أخبر أنه جعل الذي وصف صفته في هذه الآية حجة للناس ، فكان ذلك حجة على من عرفه من ولده وقومه ممن علم موته ، وإحياء الله إياه بعد مماته ، وعلى من بعث إليه منهم .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها } .

قد دللنا فيما مضى قبل على أن العظام التي أمر بالنظر إليها هي عظام نفسه وحماره ، وذكرنا اختلاف المختلفين في تأويل ذلك وما يعني كل قائل بما قاله في ذلك بما أغنى عن إعادته .

وأما قوله : { كَيْفَ نُنْشِزُها } فإن القراء اختلفت في قراءته ، فقرأ بعضهم : { وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها } بضم النون وبالزاي ، وذلك قراءة عامة قراءة الكوفيين ، بمعنى : وانظر كيف نركب بعضها على بعض ، وننقل ذلك إلى مواضع من الجسم . وأصل النشز : الارتفاع ، ومنه قيل : قد نشز الغلام إذا ارتفع طوله وشبّ ، ومنه نشوز المرأة على زوجها ، ومن ذلك قيل للمكان المرتفع من الأرض : نَشَزٌ وَنَشْزٌ وَنَشاز ، فإذا أردت أنك رفعته ، قلت : أنشزته إنشازا ، ونشز هو : إذا ارتفع . فمعنى قوله : { وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها } في قراءة من قرأ ذلك بالزاي : كيف نرفعها من أماكنها من الأرض فنردّها إلى أماكنها من الجسم .

وممن تأول ذلك هذا التأويل جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس في قوله : { كَيْفَ نُنْشِزُها } كيف نخرجها .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { كَيْفَ نُنْشِزُها } قال : نحركها .

وقرأ ذلك آخرون : «وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِرُها » بضم النون ، قالوا من قول القائل : أنشر الله الموتى فهو ينشرهم إنشارا . وذلك قراءة عامة قراء أهل المدينة ، بمعنى : وانظر إلى العظام كيف نحييها ثم نكسوها لحما . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : «كَيْفَ نُنْشِرُها » قال : انظر إليها حين يحييها الله .

حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة مثله .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : «وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِرُها » قال : كيف نحييها .

واحتجّ بعض قراء ذلك بالراء وضم نون أوله بقوله : { ثُمّ إذَا شاءَ أنْشَرَهُ } فرأى أن من الصواب إلحاق قوله : «وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِرُها » به . وقرأ ذلك بعضهم : «وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نَنْشُرُها » بفتح النون من أوله وبالراء¹ كأنه وجه ذلك إلى مثل معنى نشر الشيء وطيّه . وذلك قراءة غير محمودة ، لأن العرب لا تقول : نشر الموتى ، وإنما تقول : أنشر الله الموتى ، فنَشَرُوا هم بمعنى : أحياهم فحيوا هم . ويدلّ على ذلك قوله : { ثُمّ إذَا شاءَ أنْشَرَهُ } وقوله : { آلهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ } . وعلى أنه إذا أريد به حي الميت وعاش بعد مماته ، قيل : نشر ، ومنه قول أعشى بني ثعلبة :

حتى يَقُولَ النّاسُ ممّا رَأوْايا عَجَبَا للمَيّتِ النّاشِرِ وروي سماعا من العرب : كان به جربٌ فنشر ، إذا عاد وحيي . والقول في ذلك عندي أن معنى الإنشار ومعنى الإنشاز متقاربان ، لأن معنى الإنشاز : التركيب والإثبات وردّ العظام من العظام وإعادتُها لا شك أنه ردّها إلى أماكنها ومواضعها من الجسد بعد مفارقتها إياها . فهما وإن اختلفا في اللفظ ، فمتقاربا المعنى ، وقد جاءت بالقراءة بهما الأمة مجيئا يقطع العذر ويوجب الحجة ، فبأيهما قرأ القارىء فمصيب لانقياد معنييهما ، ولا حجة توجب لإحداهما من القضاء بالصواب على الأخرى . فإن ظنّ ظان أن الإنشار إذا كان إحياء فهو بالصواب أولى ، لأن المأمور بالنظر إلى العظام وهي تنشر إنما أمر به ليرى عيانا ما أنكره بقوله : { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها } فإن إحياء العظام لا شك في هذا الموضع إنما عنى به ردّها إلى أماكنها من جسد المنظور إليه ، وهو يحيا ، لا إعادة الروح التي كانت فارقتها عند الممات . والذي يدل على ذلك قوله : { ثُمّ نَكْسُوها لَحْما } ولا شك أن الروح إنما نفخت في العظام التي أنشرت بعد أن كسيت اللحم . وإذا كان ذلك كذلك ، وكان معنى الإنشاز تركيب العظام وردّها إلى أماكنها من الجسد ، وكان ذلك معنى الإنشار ، وكان معلوما استواء معنييهما ، وأنهما متفقا المعنى لا مختلفاه ، ففي ذلك إبانة عن صحة ما قلنا فيه . وأما القراءة الثالثة فغير جائزة القراءة بها عندي ، وهي قراءة من قرأ : «كَيْفَ نَنْشُرُها » بفتح النون وبالراء ، لشذوذها عن قراءة المسلمين وخروجها عن الصحيح الفصيح من كلام العرب . القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ نَكْسُوهَا لَحْما } . يعني تعالى ذكره بذلك : { ثُمّ نَكْسُوهَا } أي العظام لحما . والهاء التي في قوله : { ثُمّ نَكْسِوها لَحْما } من ذكر العظام . ومعنى نكسوها : نلبسها ونواريها به كما يواري جسد الإنسان كسوته التي يلبسها ، وكذلك تفعل العرب ، تجعل كل شيء غطى شيئا وواراه لباسا له وكسوة ، ومنه قول النابغة الجعديّ : فالحَمْدُ لِلّهِ إذْ لَمْ يَأتِنِي أجَلِيحتى اكْتَسَيْتُ مِنَ الإسْلامِ سِرْبالاَ

فجعل الإسلام إذ غطى الذي كان عليه فواراه وأذهبه كسوة له وسربالاً .

القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ قَالَ أعْلَمُ أنّ اللّهَ عَلى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

يعني تعالى ذكره بقوله : { فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ } فلما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا من قدرة الله وعظمته عنده قبل عيانه ذلك ، قال : أعلم الاَن بعد المعاينة والإيضاح والبيان أن الله على كل شيء قدير .

ثم اختلفت القراءة في قراءة قوله : { قالَ أعْلَمُ أنّ اللّهَ } . فقرأه بعضهم : «قال اعْلَمْ » على معنى الأمر بوصل الألف من «اعلم » ، وجزم الميم منها . وهي قراءة عامة قراء أهل الكوفة ، ويذكرون أنها في قراءة عبد الله : «قيل اعْلَمْ » على وجه الأمر من الله للذي أحيى بعد مماته ، فأمر بالنظر إلى ما يحييه الله بعد مماته . وكذلك رُوي عن ابن عباس .

حدثني أحمد بن يوسف التغلبي ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : ثني حجاج ، عن هارون ، قال : هي في قراءة عبد الله : «قيل اعْلَمْ أن الله » على وجه الأمر .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه أحسبه ، شك أبو جعفر الطبري سمعت ابن عباس يقرأ : «فَلَمَا تَبَيّنَ لَهُ قَالَ اعْلَمْ » قال : إنما قيل ذلك له .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : ذكر لنا والله أعلم أنه قيل له انظر ! فجعل ينظر إلى العظام كيف يتواصل بعضها إلى بعض وذلك بعينيه ، فقيل : اعلم أن الله على كل شيء قدير .

فعلى هذا القول تأويل ذلك : فلما تبين من أمر الله وقدرته ، قال الله له : اعلم الآن أن الله على كل شيء قدير . ولو صرف متأول قوله : «قال اعلم » وقد قرأه على وجه الأمر إلى أنه من قبل المخبر عنه بما اقتصّ في هذه الآية من قصته كان وجها صحيحا ، وكان ذلك كما يقول القائل : اعلم أن قد كان كذا وكذا ، على وجه الأمر منه لغيره وهو يعني به نفسه .

وقرأ ذلك آخرون : { قالَ أعْلَمُ } على وجه الخبر عن نفسه للمتكلم به بهمز ألف أعلم وقطعها ورفع الميم . بمعنى : فلما تبين له من قدرة الله وعظيم سلطانه بمعاينته ما عاينه ، قال أليس ذلك : أعلم الاَن أنا أن الله على كل شيء قدير . وبذلك قرأ عامة أهل المدينة وبعض قراء أهل العراق ، وبذلك من التأويل تأوله جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه ، قال : لما عاين من قدرة الله ما عاين ، قال : { أعْلَمُ أنّ اللّهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول : { فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ قَالَ أعْلَمُ أنّ اللّهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : يعني نبيّ الله عليه السلام ، يعني إنشاز العظام ، فقال : أعلم أن الله على كل شيء قدير .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : قال عزير عند ذلك يعني عند معاينة إحياء الله حماره : { أعْلَمُ أنّ اللّهَ على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : جعل ينظر إلى كل شيء منه يوصل بعضه إلى بعض ، { فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ قَالَ أعْلَمُ أَنّ اللّهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، نحوه .

وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ : «اعْلَمْ » بوصل الألف وجزم الميم على وجه الأمر من الله تعالى ذكره للذي قد أحياه بعد مماته بالأمر بأن يعلم أن الله الذي أراه بعينيه ما أراه من عظيم قدرته وسلطانه من إحيائه إياه وحماره بعد موت مائة عام وبلائه حتى عادا كهيئتهما يوم قبض أرواحهما ، وحفظ عليه طعامه وشرابه مائة عام حتى ردّه عليه كهيئته يوم وضعه غير متغير على كل شيء قادر كذلك .

وإنما اخترنا قراءة ذلك كذلك وحكمنا له بالصواب دون غيره¹ لأن ما قبله من الكلام أمر من الله تعالى ذكره قولاً للذي أحياه الله بعد مماته وخطابا له به ، وذلك قوله : { فانْظُرْ إلى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ وَانْظُرْ إلى حِمَارِكَ . . . وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها } فلما تبين له ذلك جوابا عن مسألته ربه : { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها } ! قال الله له : اعلم أن الله الذي فعل هذه الأشياء على ما رأيت على غير ذلك من الأشياء قدير كقدرته على ما رأيت وأمثاله ، كما قال تعالى ذكره لخليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، بعد أن أجابه عن مسألته إياه في قوله : { رَبّ أرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى } : { وَاعْلَمْ أنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } فأمر إبراهيم بأن يعلم بعد أن أراه كيفية إحيائه الموتى أنه عزيز حكيم ، فكذلك أمر الذي سأل فقال : { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها } بعد أن أراه كيفية إحيائه إياها أن يعلم أن الله على كل شيء قدير .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{أَوۡ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرۡيَةٖ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحۡيِۦ هَٰذِهِ ٱللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۖ فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِاْئَةَ عَامٖ ثُمَّ بَعَثَهُۥۖ قَالَ كَمۡ لَبِثۡتَۖ قَالَ لَبِثۡتُ يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۖ قَالَ بَل لَّبِثۡتَ مِاْئَةَ عَامٖ فَٱنظُرۡ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمۡ يَتَسَنَّهۡۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجۡعَلَكَ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِۖ وَٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡعِظَامِ كَيۡفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكۡسُوهَا لَحۡمٗاۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعۡلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (259)

{ أو كالذي مر على قرية } تقديره أو أرأيت مثل الذي فحذف لدلالة ألم تر عليه ، وتخصيصه بحرف التشبيه لأن المنكر للإحياء كثير والجاهل بكيفيته أكثر من أن يحصى ، بخلاف مدعي الربوبية ، وقيل الكاف مزيدة وتقدير الكلام ألم تر إلى الذي حاج أو الذي مر . وقيل إنه عطف محمول على المعنى كأنه قيل : ألم تر كالذي حاج ، أو كالذي مر . وقيل : إنه من كلام إبراهيم ذكره جوابا لمعارضته وتقديره أو إن كنت تحيي فأحيي كإحياء الله تعالى الذي مر على قرية . وهو عزير بن شرحيا . أو الخضر ، أو كافر بالبعث . ويؤيده نظمه مع نمروذ . والقرية بيت المقدس حين خربه بختنصر . وقيل القرية التي خرج منها الألوف . وقيل غيرهما واشتقاقها من القرى وهو الجمع . { وهي خاوية على عروشها } خالية ساقطة حيطانها على سقوفها . { قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها } اعترافا بالقصور عن معرفة طريق الإحياء ، واستعظاما لقدرة المحيي إن كان القائل مؤمنا ، واستبعادا إن كان كافرا . و{ أنى } في موضع نصب على الظرف بمعنى متى أو على الحال بمعنى كيف . { فأماته الله مائة عام } فألبثه ميتا مائة عام أو أماته الله فلبث ميتا مائة عام . { ثم بعثه } بالإحياء . { قال كم لبثت } القائل هو الله وساغ أن يكلمه وإن كان كافرا لأنه آمن بعد البعث أو شارف الإيمان . وقيل ملك أو نبي . { قال لبثت يوما أو بعض يوم } كقول الظان . وقيل : إنه مات ضحى وبعث بعد المائة قبيل الغروب فقال قبل النظر إلى الشمس يوما ثم التفت فرأى بقية منها فقال أو بعض يوم على الإضراب . { قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه } لم يتغير بمرور الزمان ، واشتقاقه من السنة . والهاء أصلية إن قدرت لام السنة هاء وهاء سكت إن قدرت واوا . وقيل أصله لم يتسنن من الحمأ المسنون فأبدلت النون الثالثة حرف علة كتقضي البازي ، وإنما أفرد الضمير لأن الطعام والشراب كالجنس الواحد . وقيل كان طعامه تينا وعنبا وشرابه عصيرا أو لبنا وكان الكل على حاله . وقرأ حمزة والكسائي " لم يتسن " بغير الهاء في الوصل . { وانظر إلى حمارك } كيف تفرقت عظامه ، أو انظر إليه سالما في مكانه كما ربطته حفظناه بلا ماء وعلف كما حفظناه الطعام والشراب من التغير ، والأول أدل على الحال وأوفق لما بعده . { ولنجعلك آية للناس } أي وفعلنا ذلك لنجعلك آية . روي أنه أتى قومه على حماره وقال أنا عزير فكذبوه ، فقرأ التوراة من الحفظ ولم يحفظها أحد قبله فعرفوه بذلك ، وقالوا هو ابن الله . وقيل لما رجع إلى منزله كان شابا وأولاده شيوخا فإذا حدثهم بحديث قالوا حديث مائة سنة . { وانظر إلى العظام } يعني عظام الحمار ، أو الأموات الذين تعجب من إحيائهم . { كيف ننشزها } كيف نحييها ، أو نرفع بعضها على بعض ونركبه عليه ، وكيف منصوب بنشزها والجملة حال من العظام أي : انظر إليها محياة . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب " ننشرها " من أنشر الله الموتى ، وقرئ " ننشرها " من نشر بمعنى أنشر . { ثم نكسوها لحما فلما تبين له } فاعل تبين مضمر يفسره ما بعده تقديره : فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير . { قال أعلم أن الله على كل شيء قدير } فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، أو يفسره ما قبله أي فلما تبين له ما أشكل عليه . وقرأ حمزة والكسائي { قال أعلم } على الأمر والأمر مخاطبة . أو هو نفسه خاطبها به على طريق التبكيت .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَوۡ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرۡيَةٖ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحۡيِۦ هَٰذِهِ ٱللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۖ فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِاْئَةَ عَامٖ ثُمَّ بَعَثَهُۥۖ قَالَ كَمۡ لَبِثۡتَۖ قَالَ لَبِثۡتُ يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۖ قَالَ بَل لَّبِثۡتَ مِاْئَةَ عَامٖ فَٱنظُرۡ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمۡ يَتَسَنَّهۡۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجۡعَلَكَ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِۖ وَٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡعِظَامِ كَيۡفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكۡسُوهَا لَحۡمٗاۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعۡلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (259)

تخيير في التشبيه على طريقة التشبيه ، وقد تقدم بيانها عند قوله تعالى : { أو كصيب من السماء } [ البقرة : 19 ] لأنّ قوله : { ألم تر إلى الذي حاجَ إبرهيم } [ البقرة : 258 ] في معنى التمثيل والتشبيه كما تقدم ، وهو مراد صاحب « الكشاف » بقوله : « ويجوز أن يحمل على المعنى دون اللفظ كأنه قيل : أرأيت كالذي حاجَّ أو كالذي مرَّ » وإذ قد قرّر بالآية قبلها ثبوت انفراد الله بالإلاهية ، وذلك أصل الإسلام ، أعقب بإثبات البعث الذي إنكاره أصل أهل الإشراك .

واعلم أنّ العرب تستعمل الصيغتين في التعجّب : يقولون ألم تر إلى كذا ، ويقولون أرأيتَ مثل كذا أو ككَذا ، وقد يقال ألم تر ككذا لأنّهم يقولون لم أر كاليوم في الخير أو في الشر ، وفي الحَديث « فلم أَره كاليوم مَنْظَرا قط » ، وإذا كان ذلك يقال في الخير جاز أن يدخل عليه الاستفهام فتقول : ألم تر كاليوم في الخير والشر ، وحيث حذف الفعل المستفهَم عنه فلك أن تقدره على الوجهين ، ومال صاحب « الكشاف » إلى تقديره : أرأيتَ كالذي لأنّه الغالب في التعجّب مع كاف التشبيه .

والذي مر على قريةٍ قيل هو أرْمِيَا بن حلقيا ، وقيل هو عُزَير بن شرخيا ( عزرا بن سَرَّيَّا ) . والقرية بيت المقدس في أكثر الأقوال ، والذي يظهر لي أنّه حزقيال ابن بوزي نبيء إسرائيل كان معاصراً لأرميا ودانيال وكان من جملة الذين أسرهم بختنصر إلى بابل في أوائل القرن السادس قبل المسيح ، وذلك أنه لما رأى عزم بختنصر على استئصال اليهود وجمعه آثار الهيكل ليأتي بها إلى بابل ، جمع كتب شريعة موسى وتابوتَ العهد وعصَا موسى ورماها في بئر في أورشليم خشية أن يحرقها بختنصر ، ولعله اتّخذ علامة يعرفها بها وجعلها سراً بينه وبين أنبياء زمانِه وورثتهم من الأنبياء . فلما أخرج إلى بابل بقي هنالك وكتب كتاباً في مَراءٍ رآها وَحْيا تدل على مصائب اليهودِ وما يرجى لهم من الخلاص ، وكان آخر ما كتبه في السنة الخامسة والعشرين بعد سبي اليهود ، ولم يعرف له خبر بعدُ كما ورد في تاريخهم ، ويظن أنّه مات أو قُتل . ومن جملة ما كتبه « أخْرَجَنِي روحُ الرب وأنزلني في وسط البقعة وهي ملآنة عظاماً كثيرة وأمّرَني عليها وإذا تلك البقعة يابسة فقال لي : أتَحيَى هذه العظامُ ؟ فقلت : يا سيدي الرّب أنتَ تعلم . فقال لي : تنبأْ على هذه العظام وقل لها : أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الرب قال ها أنا ذا أدخل فيكم الروح وأضع عليكم عصباً وأكسوكم لحماً وجلداً . فتنبأت ، كما أمرني فتقاربتْ العظام كل عظم إلى عظمه ، ونظرت وإذا باللحم والعصب كساها وبسط الجلد عليها من فوق ودخل فيهم الروح فحيُوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جداً » .

ولما كانت رؤيا الأنبياء وحيا فلا شكّ أن الله لما أعاد عُمران أورشليم في عهد عزرا النبي في حدود سنة 450 قبل المسيح أحيا النبي حزقيال عليه السلام ليرى مصداق نبوته ، وأراه إحياء العظام ، وأراه آية في طعامه وشرابه وحماره وهذه مخاطبة بين الخالق وبعض أصفيائه على طريق المعجزة وجعل خبره آية للناس من أهل الإيمان الذين يوقنون بما أخبرهم الله تعالى ، أو لقوم أطلعهم الله على ذلك من أصفيائه ، أو لأهل القرية التي كان فيها وفُقِد من بينهم فجاءهم بعد مائة سنة وتحققه من يعرفه بصفاته ، فيكون قوله تعالى : { مرّ على قرية } إشارة إلى قوله : « أخرجني روح الرب وأمّرني عليها » . فقوله : { قال أنَّى يحيي هذه الله } إشارة إلى قوله أتحيي هذه العظام فقلت يا سيدي أنت تعلم لأنّ كلامه هذا ينبىء باستبعاد إحيائها ، ويكون قوله تعالى : { فأماته الله مائة عام } إلخ مما زاده القرآن من البيان على ما في كتب اليهود لأنّهم كتبوها بعد مرور أزمنة ، ويظن من هنا أنّه مات في حدود سنة 560 قبل المسيح ، وكان تجديد أورشليم في حدود 458 فتلك مائة سنة تقريباً ، ويكون قوله : { وانظر إلى العظام كيف ننشرها ثم نكسوها لحمَا } تذكرة له بتلك النبوءة وهي تجديد مدينة إسرائيل .

وقوله : { وهي خاوية على عروشها } الخاوية : الفارغة من السكان والبناء . والعروش جمع عرش وهو السقف . والظرف مستقرٌ في موضع الحال ، والمعنى أنّها خاوية ساقطة على سقفها وذلك أشدّ الخراب لأنّ أول ما يسقط من البناء السُقُف ثم تسقط الجدران على تلك السُقُف . والقرية هي بيت المقدس رآها في نومه كذلك أو رآها حين خربها رسل بختنصر ، والظاهر الأول لأنّه كان ممن سُبي مع ( يهويا قيم ) ملكِ إسرائيل وهو لم يقع التخريب في زمنه بل وقع رفي زمن ( صدقيا ) أخيه بعد إحدى عشرة سنة .

وقوله : { أنّى يحيي هذه الله بعد موتها } استفهامُ إنكار واستبعاد ، وقوله : { فأماته الله } التعقيب فيه بحسب المعقب فلا يلزم أن يكون أماته في وقت قوله : { أنَّى يحيي هذه الله } . وقد قيل : إنّه نام فأماته الله في نومه .

وقوله : { ثم بعثه } أي أحياه وهي حياة خاصة ردّت بها روحه إلى جسده ؛ لأنّ جسده لم يبلَ كسائر الأنبياء ، وهذا بعث خارق للعادة وهو غير بعث الحشر .

وقوله : { لبثت يوماً أو بعض يوم } اعتقد ذلك بعلم أودعه الله فيه أو لأنّه تذكر أنّه نام في أول النهار ووجد الوقت الذي أفاق فيه آخر نهار .

وقوله : { فانظر إلى طعامك } تفريع على قوله : { لبثت مائة عام } . والأمرُ بالنظر أمر للاعتبار أي فانظُره في حال أنّه لم يتسنه ، والظاهر أنّ الطعام والشراب كانا معه حين أميت أو كانا موضوعين في قبره إذا كان من أمة أو في بلد يضعون الطعام للموتى المكرّمين كما يفعل المصريون القدماء ، أو كان معه طعام حين خرج فأماته الله في نومه كما قيل ذلك .

ومعنى { لم يتسنه } لم يتغيّر ، وأصله مشتق من السَّنَة لأنّ مر السنين يوجب التغيّر وهو مثل تحجَّرَ الطين ، والهاء أصلية لا هاء سكت ، وربما عاملوا هَاء سنة معاملة التاء في الاشتقاق فقالوا أسنت فلان إذا أصابته سنة أي مجاعة ، قال مطرود الخزاعي ، أو ابن الزبعري :

عَمْرُو الذي هشَم الثريدَ لقومِه *** قومٍ بمَكَة مُسنتين عجافِ

وقوله : { وانظر إلى حمارك } قيل : كان حماره قد بلي فلم تبق إلاّ عظامه فأحياه الله أمامه . ولم يؤت مع قوله : { وانظر إلى حمارك } بذكر الحالة التي هي محل الاعتبار لأنّ مجرد النظر إليه كاف ، فإنه رآه عظاماً ثم رآه حيا ، ولعلّه هلك فبقي بتلك الساحة التي كان فيها حزقيال بعيداً عن العُمران ، وقد جمع الله له أنواع الإحياء إذْ أحيى جسده بنفخ الروح عن غير إعادة وأحيى طعامه بحفظه من التغيّر وأحيى حماره بالإعادة فكان آية عظيمة للناس الموقنين بذلك ، ولعلّ الله أطْلَع على ذلك الإحياءِ بعض الأحياء من أصفيائه .

فقوله : { ولنجعلك آية } معطوف على مقدر دل عليه قوله { فانظر إلى طعامك } وانظر إلى حمارك ؛ فإن الأمر فيه للاعتبار لأنّه ناظر إلى ذلك لا محالة ، والمقصود اعتباره في استبعاده أن يُحيي الله القرية بعد موتها ، فكان من قوة الكلام انظر إلى ما ذكر جعلناه آية لك على البعث وجعلناك آية للناس لأنّهم لم يروا طعامه وشرابَه وحماره ، ولكن رأوا ذاته وتحققّوه بصفاته . ثم قال له : وانظر إلى العظام كيف ننشرها ، والظاهر أنّ المراد عظام بعض الآدميين الذين هلكوا ، أو أراد عظام الحمار فتكون ( أل ) عوضاً عن المضاف إليه فيكون قوله إلى العظام في قوة البدل من حمارك إلاّ أنّه برز فيه العامل المنويّ تكريرُه .

وقرأ جمهور العشرة { نُنْشِرها } بالرّاء مضارع أنْشَر الرباعي بمعنى الإحياء . وقرأه ابن عامر وحمزة وعاصم والكسائي وخلف : { نُنشِزها } بالزاي مضارع أنشزه إذا رفعه ، والنشز الارتفاع ، والمراد ارتفاعها حين تغلظ بإحاطة العصب واللحم والدم بها فحصل من القراءتين معنيان لكملة واحدة ، وفي كتاب ( حزقيال ) « فتقاربت العِظام كل عظم إلى عظمه ، ونظرتُ وإذا بالعصب واللحم كساها وبسط الجلد عليها » .

وقوله : { قال أعلم أن الله على كل شيء قدير } قرأ الجمهور أعلم بهمزة قطع على أنّه مضارع عَلم فيكون جوابَ الذي مر على قرية عن قول الله له { فانظر إلى طعامك } الآية ، وجاء بالمضارع ليدل على ما في كلام هذا النبي من الدلالة على تجدد علمه بذلك لأنه عَلمِه في قبلُ وتجدد علمه إياه . وقرأه حمزة والكسائي بهمزة وصل على أنه من كلام الله تعالى ، وكان الظاهر أن يكون معطوفاً على { فانظر إلى طعامك } لكنّه ترك عطفه لأنّه جُعل كالنتيجة للاستدلال بقوله : { فانظر إلى طعامك وشرابك } الآية .