{ 55 } { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }
هذا من أوعاده{[570]} الصادقة ، التي شوهد تأويلها ومخبرها ، فإنه وعد من قام بالإيمان والعمل الصالح من هذه الأمة ، أن يستخلفهم في الأرض ، يكونون هم الخلفاء فيها ، المتصرفين في تدبيرها ، وأنه يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وهو دين الإسلام ، الذي فاق الأديان كلها ، ارتضاه لهذه الأمة ، لفضلها وشرفها ونعمته عليها ، بأن يتمكنوا من إقامته ، وإقامة شرائعه الظاهرة والباطنة ، في أنفسهم وفي غيرهم ، لكون غيرهم من أهل الأديان وسائر الكفار مغلوبين ذليلين ، وأنه يبدلهم من بعد خوفهم الذي كان الواحد منهم لا يتمكن من إظهار دينه ، وما هو عليه إلا بأذى كثير من الكفار ، وكون جماعة المسلمين قليلين جدا بالنسبة إلى غيرهم ، وقد رماهم أهل الأرض عن قوس واحدة ، وبغوا لهم الغوائل .
فوعدهم الله هذه الأمور وقت نزول الآية ، وهي لم تشاهد الاستخلاف في الأرض والتمكين فيها ، والتمكين من إقامة الدين الإسلامي ، والأمن التام ، بحيث يعبدون الله ولا يشركون به شيئا ، ولا يخافون أحدا إلا الله ، فقام صدر هذه الأمة ، من الإيمان والعمل الصالح بما يفوقون على غيرهم ، فمكنهم من البلاد والعباد ، وفتحت مشارق الأرض ومغاربها ، وحصل الأمن التام والتمكين التام ، فهذا من آيات الله العجيبة الباهرة ، ولا يزال الأمر إلى قيام الساعة ، مهما قاموا بالإيمان والعمل الصالح ، فلا بد أن يوجد ما وعدهم الله ، وإنما يسلط عليهم الكفار والمنافقين ، ويديلهم في بعض الأحيان ، بسبب إخلال المسلمين بالإيمان والعمل الصالح .
{ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ْ } التمكين والسلطنة التامة لكم ، يا معشر المسلمين ، { فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ْ } الذين خرجوا عن طاعة الله ، وفسدوا ، فلم يصلحوا لصالح ، ولم يكن فيهم أهلية للخير ، لأن الذي يترك الإيمان في حال عزه وقهره ، وعدم وجود الأسباب المانعة منه ، يدل على فساد نيته ، وخبث طويته ، لأنه لا داعي له لترك الدين إلا ذلك . ودلت هذه الآية ، أن الله قد مكن من قبلنا ، واستخلفهم في الأرض ، كما قال موسى لقومه : { وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ْ } وقال تعالى : { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ }
ثم تركت السورة الكريمة الحديث عن المنافقين ، لتسوق وعد الله الذى لا يتخلف للمؤمنين الصادقين ، قال - تعالى - : { وَعَدَ الله . . . } .
قال الإمام ابن كثير : " هذا وعد من الله - تعالى - لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض أى : أئمة الناس والولاة عليهم ، وبهم تصلح البلاد ، وتخضع لهم العباد ، وقد فعل تبارك وتعالى ذلك . . . فإنه لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح عليه مكة وخيبر والبحرين ، وسائر جزيرة العرب ، ولهذا ثبت فى الصحيح عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله زوى لى الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لى منها . . " .
وفى تصدير الآية الكريمة بقوله - تعالى - : { وَعَدَ الله . . } بشارة عظيمة للمؤمنين ، بتحقيق وعده - تعالى - ، إذ وعد الله لا يتخلف . كما قال - تعالى - : { وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ، ومن بيانية ، والآية الكريمة مقررة لمضمون ما قبلها ، وهو قوله - تعالى - { وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ . . . } أى : وعد الله - تعالى - بفضله وإحسانه ، الذين صدقوا فى إيمانهم من عباده ، والذين جمعوا مع الإيمان الصادق ، العمل الصالح ، وعدهم ليستخلفهم فى الأرض ، أى : ليجعلنهم فيها خلفاء يتصرفون فيها تصرف أصحاب العزة والسلطان والغلبة ، بدلا من أعدائهم الكفار .
قال الآلوسى : واللام فى قوله " ليستخلفنهم " واقعة فى جواب القسم المحذوف . ومفعول وعد الثانى محذوف دل عليه الجواب . أى : وعد الله الذين آمنوا استخلافهم ، وأقسم ليستخلفنهم . . . و " ما " فى قوله " كما استخلف " مصدرية والجار والمجرور متعلق بمحذوف . وقع صفة لمصدر محذوف ، أى : ليستخلفنهم استخلافا كائنا كاستخلافه " الذين من قبلهم " من الأمم المؤمنة ، الذين أسكنهم الله - تعالى - فى الأرض بعد إهلاك أعدائهم من الكفرة الظالمين .
هذا هو الوعد الأول للمؤمنين : أن يجعلهم - سبحانه - خلفاءه فى الأرض . كما جعل عباده الصالحين من قبلهم خلفاءه ، وأورثهم أرض الكفار وديارهم .
وأما الوعد الثانى فيتجلى فى قوله - تعالى - { وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ } .
والتمكين : التثبيت والتوطيد والتمليك . يقال : تمكن فلان من الشىء ، إذا حازه وقدر عليه .
أى : وعد الله المؤمنين بأن يجعلهم خلفاءه فى أرضه ، وبأن يجعل دينهم وهو دين الإسلام الذى ارتضاه لهم . ثابتا فى القلوب ، راسخا فى النفوس . باسطا سلطانه على أعدائه ، له الكلمة العليا فى هذه الحياة ، ولمخالفيه الكلمة السفلى .
وأما الوعد الثالث فهو قوله - سبحانه - : " وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا " .
أى : وعدهم الله - تعالى - بالاستخلاف فى الأرض ، وبتمكين دينهم . وبأن يجعل لهم بدلا من الخوف الذى كانوا يعيشون فيه ، أمنا واطمئنانا ، وراحة فى البال ، وهدوءا فى الحال .
قال الربيع بن أنس عن أبى العالية فى هذه الآية : " كان النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين . يدعون إلى الله وحده . . . وهم خائفون ، فلما قدموا المدينة أمرهم الله بالقتال ، فكانوا بها خائفين ، يمسون فى السلاح ويصبحون فى السلاح . فصبروا على ذلك ما شاء الله . ثم إن رجلا من الصحابة قال : يا رسول الله : " أبد الدهر نحن خائفون هكذا ؟ أما يأتى علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح ؟ فقال صلى الله عليه وسلم لن تَغْبَرُوا - أى : لن تمكثوا - إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم فى الملأ العظيم محتبيا ليست فيهم حديدة " " .
وأنزل الله هذه الآية فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب فآمنوا ووضعوا السلاح . . .
ولكن هذا الاستخلاف والتمكين والأمان متى يتحقق منه - سبحانه - لعباده ؟
لقد بين الله - تعالى - الطريق إلى تحققه فقال { يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } فهذه الجملة الكريمة يصح أن تكون مستأنفة ، أى : جوابا لسؤال تقديره متى يتحقق هذا الاستخلاف والتمكين والأمان بعد الخوف للمؤمنين ؟ فكان الجواب : يعبدوننى عبادة خالصة تامة مستكملة لكل شروطها وآدابها وأركانها ، دون أن يشركوا معى فى هذه العبادة أحدا كائنا من كان .
كما يصح أن تكون حالا من الذين آمنوا ، فيكون المعنى : وعد الله - تعالى - عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، بالاستخلاف فى الأرض ، وبتمكين دينهم فيها . وبتبديل خوفهم أمنا ، فى حال عبادتهم له - سبحانه - عبادة لا يشوبها شرك أو رياء أو نقص .
وروى الإمام أحمد عن أبى بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة ، والدين والنصر والتمكين فى الأرض ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا ، لم يكن له فى الآخرة نصيب " . ذلك هو وعد الله - تعالى - لعباده الذين أخلصوا له العبادة والطاعة ، وأدوا ما أمرهم به ، واجتنبوا ما نهاهم عنه ، أما الذين انحرفوا عن طريق الحق . وجحدوا نعمه - سبحانه - عليهم ، فقد بين عاقبتهم فقال : { وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون } .
أى : ومن كفر بعد كل هذه النعم التى وعدت بها عبادى الصالحين ، واستعمل هذه النعم فى غير ما خلقت له ، فأولئك الكافرون الجاحدون هم الفاسقون عن أمرى ، الخارجون عن وعدى ، الناكبون عن صراطى .
وهكذا نرى الآية الكريمة قد جمعت أطراف الحكمة من كل جوانبها ، فقد رغبت المؤمنين فى إخلاص العبادة لله - تعالى - بأسمى ألوان الترغيب ، حيث بينت لهم أن هذه العبادة سيترتب عليها الاستخلاف والتمكين والأمان . ثم رهبت من الكفر والجحود ، وبينت أن عاقبتهما الفسوق والحرمان من نعم الله - تعالى - .
وبعد استعراض أمر المنافقين ، والانتهاء منه على هذا النحو . . يدعهم السياق وشأنهم ، ويلتفت عنهم إلى المؤمنين المطيعين ، يبين جزاء الطاعة المخلصة ، والإيمان العامل ، في هذه الأرض قبل يوم الحساب الأخير :
( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ؛ وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ؛ وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا . يعبدونني لا يشركون بي شيئا . ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ) . .
ذلك وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات من أمة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] أن يستخلفهم في الأرض . وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم . وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا . . ذلك وعد الله . ووعد الله حق . ووعد الله واقع . ولن يخلف الله وعده . . فما حقيقة ذلك الإيمان ? وما حقيقة هذا الاستخلاف ?
إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله ؛ وتوجه النشاط الإنساني كله . فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله ؛ لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله ؛ وهي طاعة لله واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة ، لا يبقى معها هوى في النفس ، ولا شهوة في القلب ، ولا ميل في الفطرة إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من عند الله .
فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله ، بخواطر نفسه ، وخلجات قلبه . وأشواق روحه ، وميول فطرته ، وحركات جسمه ، ولفتات جوارحه ، وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعا . . يتوجه بهذا كله إلى الله . . يتمثل هذا في قول الله سبحانه في الآية نفسها تعليلا للاستخلاف والتمكين والأمن : ( يعبدونني لا يشركون بي شيئا )والشرك مداخل وألوان ، والتوجه إلى غير الله بعمل أو شعور هو لون من ألوان الشرك بالله .
ذلك الإيمان منهج حياة كامل ، يتضمن كل ما أمر الله به ، ويدخل فيما أمر الله به توفير الأسباب ، وإعداد العدة ، والأخذ بالوسائل ، والتهيؤ لحمل الأمانة الكبرى في الأرض . . أمانة الاستخلاف . .
فما حقيقة الاستخلاف في الأرض ?
إنها ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم . . إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء ؛ وتحقيق المنهج الذي رسمه الله للبشرية كي تسير عليه ؛ وتصل عن طريقه إلى مستوى الكمال المقدر لها في الأرض ، اللائق بخليقة أكرمها الله .
إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح ، لا على الهدم والإفساد . وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة ، لا على الظلم والقهر . وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري ، لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان !
وهذا الاستخلاف هو الذي وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات . . وعدهم الله أن يستخلفهم في الأرض - كما استخلف المؤمنين الصالحين قبلهم - ليحققوا النهج الذي أراده الله ؛ ويقرروا العدل الذي أراده الله ؛ ويسيروا بالبشرية خطوات في طريق الكمال المقدر لها يوم أنشأها الله . . فأما الذين يملكون فيفسدون في الأرض ، وينشرون فيها البغي والجور ، وينحدرون بها إلى مدارج الحيوان . . فهؤلاء ليسوا مستخلفين في الأرض . إنما هم مبتلون بما هم فيه ، أو مبتلى بهم غيرهم ، ممن يسلطون عليهم لحكمة يقدرها الله .
آية هذا الفهم لحقيقة الاستخلاف قوله تعالى بعده : ( وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ) . . وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب ، كما يتم بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها . فقد وعدهم الله إذن أن يستخلفهم في الأرض ، وأن يجعل دينهم الذي ارتضى لهم هو الذي يهيمن على الأرض . ودينهم يأمر بالإصلاح ، ويأمر بالعدل ، ويأمر بالاستعلاء على شهوات الأرض . ويأمر بعمارة هذه الأرض ، والانتفاع بكل ما أودعها الله من ثروة ، ومن رصيد ، ومن طاقة ، مع التوجه بكل نشاط فيها إلى الله .
( وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ) . . ولقد كانوا خائفين ، لا يأمنون ، ولا يضعون سلاحهم أبدا حتى بعد هجرة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى قاعدة الإسلام الأولى بالمدينة .
قال الربيع بن أنس عن أبي العالية في هذه الآية : كان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده ، وإلى عبادته وحده بلا شريك له ، سرا وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال ؛ حتى أمروا بعد الهجرة إلى المدينة ، فقدموها ، فأمرهم الله بالقتال ، فكانوا بها خائفين ، يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح ؛ فصبروا على ذلك ما شاء الله . ثم إن رجلا من الصحابة قال : يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا ? أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح ? فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] عليه وسلم - " لن تصبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم ليست فيه حديدة " . وأنزل الله هذه الآية ، فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب ، فأمنوا ووضعوا السلاح . ثم إن الله قبض نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان . حتى وقعوا فيما وقعوا فيه ، فأدخل الله عليهم الخوف ؛ فاتخذوا الحجزة والشرط ، وغيروا فغير بهم . .
( ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ) . . الخارجون على شرط الله . ووعد الله . وعهد الله . .
لقد تحقق وعد الله مرة . وظل متحققا وواقعا ما قام المسلمون على شرط الله : ( يعبدونني لا يشركون بي شيئا ) . . لا من الآلهة ولا من الشهوات . ويؤمنون - من الإيمان - ويعملون صالحا . ووعد الله مذخور لكل من يقوم على الشرط من هذه الأمة إلى يوم القيامة . إنما يبطى ء النصر والاستخلاف والتمكين والأمن . لتخلف شرط الله في جانب من جوانبه الفسيحة ؛ أو في تكليف من تكاليفه الضخمة ؛ حتى إذا انتفعت الأمة بالبلاء ، وجازت الابتلاء ، وخافت فطلبت الأمن ، وذلت فطلبت العزة ، وتخلفت فطلبت الاستخلاف . . كل ذلك بوسائله التي أرادها الله ، وبشروطه التي قررها الله . . تحقق وعد الله الذي لا يتخلف ، ولا تقف في طريقه قوة من قوى الأرض جميعا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنّ لَهُمْ دِينَهُمُ الّذِي ارْتَضَىَ لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَعَدَ اللّهُ الّذِين آمَنُوا بالله ورسوله مِنْكُمْ أيها الناس ، وَعمِلُوا الصّالِحاتِ يقول : وأطاعوا الله ورسوله فيما أمراه ونهياه لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ فِي الأرْضِ يقول : لَيُورثنهم الله أرض المشركين من العرب والعجم ، فيجعلهم ملوكها وساستها . كمَا اسْتَخْلَفَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يقول : كما فعل من قبلهم ذلك ببني إسرائيل ، إذ أهلك الجبابرة بالشأم وجعلهم ملوكها وسكانها . وَلَيُمَكّنَنّ لَهُمْ دِينَهُمُ الّذِي ارْتَضَى لَهُمْ يقول : وليوطئنّ لهم دينهم ، يعني ملتهم التي ارتضاها لهم فأمرهم بها . وقيل : وعد الله الذين آمنوا ، ثم تلقى ذلك بجواب اليمين بقوله : لَيَسْتَخْلفنّهُمْ لأن الوعد قول يصلح فيه «أن » ، وجواب اليمين كقوله : وعدتك أن أكرمك ، ووعدتك لأكرمنك .
واختلف القرّاء في قراءة قوله : كمَا اسْتَخْلَفَ فقرأته عامة القرّاء : كمَا اسْتَخْلَفَ بفتح التاء واللام ، بمعنى : كما استخلف الله الذين من قبلهم من الأمم . وقرأ ذلك عاصم : «كمَا اسْتُخْلِفَ » بضم التاء وكسر اللام ، على مذهب ما لم يْسَمّ فاعله .
واختلفوا أيضا في قراءة قوله : وَلَيُبَدّلَنّهُمْ فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار سوى عاصم : وَلَيُبْدّلنّهُمْ بتشديد الدال ، بمعنى : وليغّيرَنّ حالهم عما هي عليه من الخوف إلى الأمن ، والعرب تقول : قد بُدّل فلان : إذا غيرت حاله ولم يأت مكان غيره ، وكذلك كلّ مغير عن حاله فهو عندهم مبدّل بالتشديد . وربما قيل بالتخفيف ، وليس بالفصيح . فأما إذا جعل مكان الشيء المبدل غيره ، فذلك بالتخفيف : أَبْدلته فهو مُبْدَل . وذلك كقولهم : أُبدل هذا الثوب : أي جُعِل مكانه آخر غيره ، وقد يقال بالتشديد غير أن الفصيح من الكلام ما وصفت . وكان عاصم يقرؤه : «وَلَيُبْدِلَنّهُمْ » بتخفيف الدال .
والصواب من القراءة في ذلك : التشديد ، على المعنى الذي وصفت قبلُ ، لإجماع الحجة من قرّاء الأمصار عليه ، وأن ذاك تغيير حال الخوف إلى الأمن . وأرى عاصما ذهب إلى أن الأمن لما كان خلاف الخوف وجّه المعنى إلى أنه ذهب بحال الخوف وجاء بحال الأمن ، فخفّف ذلك .
ومن الدليل على ما قلنا من أن التخفيف إنما هو ما كان في إبدال شيء مكان آخر ، قول أبي النجم :
*** عَزْلُ الأمِيرِ للأَمَيرِ المُبْدَلِ ***
وقوله : يَعْبُدُونَني يقول : يخضعون لي بالطاعة ويتذللون لأمري ونهيي . لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئا يقول : لا يشركون في عبادتهم إياي الأوثان والأصنام ولا شيئا غيرها ، بل يخلصون لي العبادة فيفردونها إليّ دون كلّ ما عُبد من شيء غيري . وذُكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل شكاية بعض أصحابه إليه في بعض الأوقات التي كانوا فيها من العدوّ في خوف شديد مما هُمْ فيه من الرّعب والخوف وما يَلْقَون بسبب ذلك من الأذى والمكروه . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قوله : وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحات . . . الآية ، قال : مكث النبيّ صلى الله عليه وسلم عَشْر سنين خائفا يدعو إلى الله سرّا وعلانية ، قال : ثم أُمر بالهجرة إلى المدينة . قال : فمكث بها هو وأصحابه خائفون ، يُصبحون في السلاح ويُمسون فيه ، فقال رجل : ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاج فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تَغْبُرُونَ إلاّ يَسِيرا حتى يَجْلِسَ الرّجُلُ مِنْكُمْ فِي المَلإ العَظيمِ مُحْتَبِيا فِيهِ لَيْسَ فِيهِ حَدِيدَةٌ » . فأنزل الله هذه الآية : وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ . . . إلى قوله : فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلكَ » قال : يقول : من كفر بهذه النعمة فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسقُونَ وليس يعني الكفر بالله . قال : فأظهره الله على جزيرة العرب ، فآمنوا ، ثم تجَبّروا ، فغَيّر الله ما بهم . وكفروا بهذه النعمة ، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفعه عنهم قال القاسم : قال أبو عليّ : بقتلهم عثمان بن عفان رضي الله عنه .
واختلف أهل التأويل في معنى الكفر الذي ذكره الله في قوله : فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلكَ فقال أبو العالية ما ذكرنا عنه من أنه كفر بالنعمة لا كفر بالله . ورُوى عن حُذيفة في ذلك ما :
حدثنا به ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب بن أبي الشعثاء ، قال : كنت جالسا مع حُذيفة وعبد الله بن مسعود ، فقال حُذيفة : ذهب النفاق ، وإنما كان النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو الكفر بعد الإيمان قال : فضحك عبد الله ، فقال : لم تقول ذلك ؟ قال : علمت ذلك ، قال : وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ فِي الأرْضِ . . . حتى بلغ آخرها .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي الشّعْثاء ، قال : قعدت إلى ابن مسعود وحُذيفة ، فقال حذيفة : ذهب النّفاق فلا نفاق ، وإنما هو الكفر بعد الإيمان فقال عبد الله : تعلم ما تقول ؟ قال : فتلا هذه الآية : إنّمَا كانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ . . . حتى بلغ : فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسقُونَ قال : فضحك عبد الله . قال : فلقيت أبا الشعثاء بعد ذلك بأيام ، فقلت : من أيّ شيء ضحك عبد الله ؟ قال : لا فلقيت أبا الشعثاء بعد ذلك بأيام ، فقلت : من أيّ شيء ضحك عبد الله ؟ قال : لا أدري ، إن الرجل ربما ضحك من الشيء الذي يُعْجبه وربما ضحك من الشيء الذي لا يعجبه ، فمن أيّ شيء ضحك ؟ لا أدري .
والذي قاله أبو العالية من التأويل أشبه بتأويل الآية ، وذلك أن الله وعد الإنعام على هذه الأمة بما أخبر في هذه الآية أنه منعم به عليهم ثم قال عقيب ذلك : فمن كفر هذه النعمة بعد ذلك فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قول الله : يَعْبُدونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئا قال : تلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : أمنا يَعْبُدونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئا قال : لا يخافون غيري .
{ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات } خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وللأمة أوله ولمن معه ومن للبيان { ليستخلفنهم في الأرض } ليجعلنهم خلفاء متصرفي في الأرض تصرف الملوك في مماليكهم ، وهو جواب قسم مضمر تقديره وعدهم الله وأقسم ليستخلفنهم ، أو الوعد في تحقيقه منزل منزلة القسم . { كما استخلف الذين من قبلهم } يعني بني إسرائيل استخلفهم في مصر والشام ببعد الجبابرة ، وقرأ أبو بكر بضم التاء وكسر اللام وإذا ابتدأ ضم الألف والباقون بفتحهما وإذا ابتدؤوا كسروا الألف { وليمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم } وهو الإسلام بالتقوية والتثبيت . { وليبدلنهم من بعد خوفهم } من الأعداء ، وقرأ ابن كثير وأبو بكر بالتخفيف . { أمنا } منهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين ، ثم هاجروا إلى المدينة وكان يصبحون في السلاح ويمسون فيه حتى أنجز الله وعده فأظهرهم على العرب كلهم وفتح لهم بلاد الشرق والغرب ، وفيه دليل على صحة النبوة للإخبار عن الغيب على ما هو به وخلافه الخلفاء الراشدين إذ لم يجتمع الموعود والموعود عليه لغيرهم بالإجماع . وقيل الخوف من العذاب والأمن منه في الآخرة { يعبدونني } حال من الذين لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد ، أو استئناف ببيان المقتضي للاستخلاف والأمن . { لا يشركون بي شيئا } حال من الواو أي يعبدونني غير مشركين . { من كفر } ومن ارتد أو كفر هذه النعمة . { بعد ذلك } بعد الوعد أو حصول الخلافة . { فأولئك هم الفاسقون } الكاملون في فسقهم حيث ارتدوا بعد وضوح هذه الآيات ، أو كفروا تلك النعمة العظيمة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَعَدَ اللّهُ الّذِين آمَنُوا" بالله ورسوله "مِنْكُمْ "أيها الناس، "وَعمِلُوا الصّالِحاتِ"، يقول: وأطاعوا الله ورسوله فيما أمراه ونهياه "لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ فِي الأرْضِ" يقول: لَيُورثنهم الله أرض المشركين من العرب والعجم، فيجعلهم ملوكها وساستها، "كمَا اسْتَخْلَفَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ"، يقول: كما فعل من قبلهم ذلك ببني إسرائيل، إذ أهلك الجبابرة بالشأم وجعلهم ملوكها وسكانها، "وَلَيُمَكّنَنّ لَهُمْ دِينَهُمُ الّذِي ارْتَضَى لَهُمْ" يقول: وليوطئنّ لهم دينهم، يعني ملتهم التي ارتضاها لهم فأمرهم بها...
قوله: "وَلَيُبَدّلَنّهُمْ":.. وليغّيرَنّ حالهم عما هي عليه من الخوف إلى الأمن، والعرب تقول: قد بُدّل فلان: إذا غيرت حاله ولم يأت مكان غيره، وكذلك كلّ مغير عن حاله فهو عندهم مبدّل (بالتشديد)...
وقوله: "يَعْبُدُونَني" يقول: يخضعون لي بالطاعة ويتذللون لأمري ونهيي.
"لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئا" يقول: لا يشركون في عبادتهم إياي الأوثان والأصنام ولا شيئا غيرها، بل يخلصون لي العبادة فيفردونها إليّ دون كلّ ما عُبد من شيء غيري. وذُكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل شكاية بعض أصحابه إليه في بعض الأوقات التي كانوا فيها من العدوّ في خوف شديد مما هُمْ فيه من الرّعب والخوف وما يَلْقَون بسبب ذلك من الأذى والمكروه...
عن أبي العالية، قوله: "وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحات..."، قال: مكث النبيّ صلى الله عليه وسلم عَشْر سنين خائفا يدعو إلى الله سرّا وعلانية، قال: ثم أُمر بالهجرة إلى المدينة. قال: فمكث بها هو وأصحابه خائفون، يُصبحون في السلاح ويُمسون فيه، فقال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تَغْبُرُونَ إلاّ يَسِيرا حتى يَجْلِسَ الرّجُلُ مِنْكُمْ فِي المَلإ العَظيمِ مُحْتَبِيا فِيهِ لَيْسَ فِيهِ حَدِيدَةٌ». فأنزل الله هذه الآية: "وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ" إلى قوله: "فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلكَ" قال: يقول: من كفر بهذه النعمة فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسقُونَ وليس يعني الكفر بالله. قال: فأظهره الله على جزيرة العرب، فآمنوا، ثم تجَبّروا، فغَيّر الله ما بهم، وكفروا بهذه النعمة، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفعه عنهم...
واختلف أهل التأويل في معنى الكفر الذي ذكره الله في قوله: "فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلكَ" فقال أبو العالية ما ذكرنا عنه من أنه كفر بالنعمة لا كفر بالله. ورُوى عن حُذيفة في ذلك ما:
حدثنا به ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي الشعثاء، قال: كنت جالسا مع حُذيفة وعبد الله بن مسعود، فقال حُذيفة: ذهب النفاق، وإنما كان النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو الكفر بعد الإيمان قال: فضحك عبد الله، فقال: لم تقول ذلك؟ قال: علمت ذلك، قال: "وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ فِي الأرْضِ..." حتى بلغ آخرها...
والذي قاله أبو العالية من التأويل أشبه بتأويل الآية، وذلك أن الله وعد الإنعام على هذه الأمة بما أخبر في هذه الآية أنه منعم به عليهم، ثم قال عقيب ذلك: فمن كفر هذه النعمة بعد ذلك "فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ".
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"ومن كفر بعد ذلك" يعني بعد الذي قصصنا عليك ووعدناهم به "فأولئك هم الفاسقون" وانما ذكر الفسق بعد الكفر مع أن الكفر أعظم من الفسق،لأحد أمرين: أحدهما -أنه أراد الخارجين في كفرهم إلى أفحشه، لأن الفسق في كل شيء هو الخروج إلى أكبره. الثاني- أراد من كفر تلك النعمة بالفساد بعدها فسق، وليس يعني الكفر بالله...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وَعْدُ الله حقٌّ وكلامُه صدقٌ، والآية تدل على صحة الخلفاء الأربعة لأنه -بالإجماع- لم يتقدمهم في الفضيلة -إلى يومنا- أحدٌ؛ فأولئك مقطوعٌ بإمامتهم، وصدَق وعدُ الله فيهم، وهم على الدين المرضيِّ من قِبلِ الله، ولقد أَمِنُوا بعد خوفهم، وقاموا بسياسة المسلمين، والذَّبِّ عن حوزة الإسلام أحسنَ قيام. وفي الآية إشارة إلى أئمة الدين الذين هم أركان المِلَّة ودعائم الإسلام، الناصحون لعباده، الهادون مَنْ يسترشِدُ في الله..
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وعدهم الله أن ينصر الإسلام على الكفر، ويورّثهم الأرض، ويجعلهم فيها خلفاء، كما فعل ببني إسرائيل، حين أورثهم مصر والشام بعد إهلاك الجبابرة، وأن يمكن الدين المرتضى وهو دين الإسلام. وتمكينه: تثبيته وتوطيده، وأن يؤمن سربهم ويزيل عنهم الخوف الذي كانوا عليه...
{وَمَن كَفَرَ} يريد كفران النعمة...فإن قلت: هل في هذه الآية دليل على أمر الخلفاء الراشدين؟ قلت: أوضح دليل وأبينه؛ لأن المستخلفين الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم هم.
بلغ أيها الرسول وأطيعوه أيها المؤمنون، فقد وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات أي الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح أن يستخلفهم في الأرض فيجعلهم الخلفاء والغالبين والمالكين كما استخلف عليها من قبلهم في زمن داود وسليمان عليهما السلام وغيرهما، وأنه يمكن لهم دينهم وتمكينه ذلك هو أن يؤيدهم بالنصرة والإعزاز ويبدلهم من بعد خوفهم من العدو أمنا بأن ينصرهم عليهم فيقتلوهم ويأمنوا بذلك شرهم، فيعبدونني آمنين لا يشركون بي شيئا ولا يخافون {ومن كفر} أي من بعد هذا الوعد وارتد {فأولئك هم الفاسقون}...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
هذا وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم. بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أي: أئمةَ الناس والولاةَ عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد، ولَيُبدلَنّ بعد خوفهم من الناس أمنا وحكما فيهم، وقد فعل تبارك وتعالى ذلك، وله الحمد والمنة، فإنه لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين، وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها، وأخذ الجزية من مَجُوس هَجَر، ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر والإسكندرية -وهو المقوقس- وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة، الذي تَملَّك بعد أصْحَمة، رحمه الله وأكرمه.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذا من أوعاده الصادقة، التي شوهد تأويلها ومخبرها، فإنه وعد من قام بالإيمان والعمل الصالح من هذه الأمة، أن يستخلفهم في الأرض، يكونون هم الخلفاء فيها، المتصرفين في تدبيرها، وأنه يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وهو دين الإسلام...فوعدهم الله هذه الأمور وقت نزول الآية، وهي لم تشاهد الاستخلاف في الأرض والتمكين فيها، والتمكين من إقامة الدين الإسلامي، والأمن التام، بحيث يعبدون الله ولا يشركون به شيئا، ولا يخافون أحدا إلا الله، فقام صدر هذه الأمة، من الإيمان والعمل الصالح بما يفوقون على غيرهم، فمكنهم من البلاد والعباد، وفتحت مشارق الأرض ومغاربها، وحصل الأمن التام والتمكين التام، فهذا من آيات الله العجيبة الباهرة، ولا يزال الأمر إلى قيام الساعة، مهما قاموا بالإيمان والعمل الصالح، فلا بد أن يوجد ما وعدهم الله، وإنما يسلط عليهم الكفار والمنافقين، ويديلهم في بعض الأحيان، بسبب إخلال المسلمين بالإيمان والعمل الصالح
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد استعراض أمر المنافقين، والانتهاء منه على هذا النحو.. يدعهم السياق وشأنهم، ويلتفت عنهم إلى المؤمنين المطيعين، يبين جزاء الطاعة المخلصة، والإيمان العامل، في هذه الأرض قبل يوم الحساب الأخير:
(وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم؛ وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم؛ وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا. يعبدونني لا يشركون بي شيئا. ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون)..
ذلك وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات من أمة محمد [صلى الله عليه وسلم] أن يستخلفهم في الأرض. وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم. وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا.. ذلك وعد الله. ووعد الله حق. ووعد الله واقع. ولن يخلف الله وعده.. فما حقيقة ذلك الإيمان؟ وما حقيقة هذا الاستخلاف؟
إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله؛ وتوجه النشاط الإنساني كله. فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله؛ لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله؛ وهي طاعة لله واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة، لا يبقى معها هوى في النفس، ولا شهوة في القلب، ولا ميل في الفطرة إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله [صلى الله عليه وسلم] من عند الله.
فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله، بخواطر نفسه، وخلجات قلبه. وأشواق روحه، وميول فطرته، وحركات جسمه، ولفتات جوارحه، وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعا.. يتوجه بهذا كله إلى الله.. يتمثل هذا في قول الله سبحانه في الآية نفسها تعليلا للاستخلاف والتمكين والأمن: (يعبدونني لا يشركون بي شيئا) والشرك مداخل وألوان، والتوجه إلى غير الله بعمل أو شعور هو لون من ألوان الشرك بالله.
ذلك الإيمان منهج حياة كامل، يتضمن كل ما أمر الله به، ويدخل فيما أمر الله به توفير الأسباب، وإعداد العدة، والأخذ بالوسائل، والتهيؤ لحمل الأمانة الكبرى في الأرض.. أمانة الاستخلاف..
إنها ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم.. إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء؛ وتحقيق المنهج الذي رسمه الله للبشرية كي تسير عليه؛ وتصل عن طريقه إلى مستوى الكمال المقدر لها في الأرض، اللائق بخليقة أكرمها الله.
إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح، لا على الهدم والإفساد. وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة، لا على الظلم والقهر. وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري، لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان!
وهذا الاستخلاف هو الذي وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. وعدهم الله أن يستخلفهم في الأرض -كما استخلف المؤمنين الصالحين قبلهم- ليحققوا النهج الذي أراده الله؛ ويقرروا العدل الذي أراده الله؛ ويسيروا بالبشرية خطوات في طريق الكمال المقدر لها يوم أنشأها الله.. فأما الذين يملكون فيفسدون في الأرض، وينشرون فيها البغي والجور، وينحدرون بها إلى مدارج الحيوان.. فهؤلاء ليسوا مستخلفين في الأرض. إنما هم مبتلون بما هم فيه، أو مبتلى بهم غيرهم، ممن يسلطون عليهم لحكمة يقدرها الله.
آية هذا الفهم لحقيقة الاستخلاف قوله تعالى بعده: (وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم).. وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب، كما يتم بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها. فقد وعدهم الله إذن أن يستخلفهم في الأرض، وأن يجعل دينهم الذي ارتضى لهم هو الذي يهيمن على الأرض. ودينهم يأمر بالإصلاح، ويأمر بالعدل، ويأمر بالاستعلاء على شهوات الأرض. ويأمر بعمارة هذه الأرض، والانتفاع بكل ما أودعها الله من ثروة، ومن رصيد، ومن طاقة، مع التوجه بكل نشاط فيها إلى الله.
(وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا).. ولقد كانوا خائفين، لا يأمنون، ولا يضعون سلاحهم أبدا حتى بعد هجرة الرسول [صلى الله عليه وسلم] إلى قاعدة الإسلام الأولى بالمدينة.
قال الربيع بن أنس عن أبي العالية في هذه الآية: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وإلى عبادته وحده بلا شريك له، سرا وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال؛ حتى أمروا بعد الهجرة إلى المدينة، فقدموها، فأمرهم الله بالقتال، فكانوا بها خائفين، يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح؛ فصبروا على ذلك ما شاء الله. ثم إن رجلا من الصحابة قال: يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح؟ فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عليه وسلم -"لن تصبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم ليست فيه حديدة" . وأنزل الله هذه الآية، فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله قبض نبيه [صلى الله عليه وسلم] فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان. حتى وقعوا فيما وقعوا فيه، فأدخل الله عليهم الخوف؛ فاتخذوا الحجزة والشرط، وغيروا فغير بهم..
(ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون).. الخارجون على شرط الله. ووعد الله. وعهد الله..
لقد تحقق وعد الله مرة. وظل متحققا وواقعا ما قام المسلمون على شرط الله: (يعبدونني لا يشركون بي شيئا).. لا من الآلهة ولا من الشهوات. ويؤمنون- من الإيمان -ويعملون صالحا. ووعد الله مذخور لكل من يقوم على الشرط من هذه الأمة إلى يوم القيامة. إنما يبطى ء النصر والاستخلاف والتمكين والأمن. لتخلف شرط الله في جانب من جوانبه الفسيحة؛ أو في تكليف من تكاليفه الضخمة؛ حتى إذا انتفعت الأمة بالبلاء، وجازت الابتلاء، وخافت فطلبت الأمن، وذلت فطلبت العزة، وتخلفت فطلبت الاستخلاف.. كل ذلك بوسائله التي أرادها الله، وبشروطه التي قررها الله.. تحقق وعد الله الذي لا يتخلف، ولا تقف في طريقه قوة من قوى الأرض جميعا.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والاستخلاف: جعلهم خلفاء، أي عن الله في تدبير شؤون عباده...وتعليق فعل الاستخلاف بمجموع الذين آمنوا وعملوا الصالحات وإن كان تدبير شؤون الأمة منوطاً بولاة الأمور لا بمجموع الأمة من حيث إن لمجموع الأمة انتفاعاً بذلك وإعانة عليه كل بحسب مقامه في المجتمع...ولهذا فالوجه أن المراد من الأرض جميعُها، وأن الظرفية المدلولة بحرف (في) ظاهرة في جزء من الأرض وهو موطن حكومة الأمة وحيث تنال أحكامُها سكانه. والأصل في الظرفية عدم استيعاب المظروف الظرف كقوله تعالى: {واستعمركم فيها} [هود: 61]. وإنما صيغ الكلام في هذا النظم ولم يقتصر على قوله: {ليستخلفنهم} دون تقييد بقوله: {في الأرض} ل {ليستخلفنهم} للإيماء إلى أن الاستخلاف يحصل في معظم الأرض. وذلك يقبل الامتداد والانقباض كما كان الحال يوم خروج بلاد الأندلس من حكم الإسلام. ولكن حرمة الأمة واتقاء بأسها ينتشر في المعمورة كلها بحيث يخافهم من عداهم من الأمم في الأرض التي لم تدخل تحت حكمهم ويسعون الجهد في مرضاتهم ومسالمتهم.
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
والآيات تدلّ على أن طاعة اللَّه بالإيمان به، والعلم الصالح سبب للقوّة والاستخلاف في الأرض ونفوذ الكلمة...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ} اللام تنبئ عن قسم مضمر في القول، فالله وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بسبب إيمانهم، وعلمهم الصالح في الطاعات والمعاملات الإنسانية وعدهم سبحانه بأن يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من بعد نوح كعاد، وغيرهم خلفاء مسيطرين على ما في الأرض، وقد أكد سبحانه وتعالى وعده بالقسم، وبنون التوكيد الثقيلة، وبالمشابهة بينهم، وبين من سبقوهم ممن جعلهم خلفاء في الأرض. وإن ذلك تبشير للمؤمنين الذين آمنوا واتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم في جهاده، وهو ماض إلى يوم القيامة، وليست الخلافة هي خلافة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها خلافة الله في الأرض بمقتضى الفطرة الإنسانية التي قال تعالى فيها: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ... (30)} [البقرة]، فهي السلطان في الأرض بمقتضى التمكين الإلهي... وإن استخلافهم في الأرض كان معه أمور أعزتهم وأعلتهم، ذكرها سبحانه في قوله تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمّْ} وهذا هو الأمر الأول...والثاني بينه سبحانه وتعالى بقوله: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}، أي يجعل الله تعالى من بعد الخوف المستمر من المشركين آمنا دائما مستقرا، وكان التنكير لبيان عظيم الأمن، وإنه أمن مستقر ثابت... {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}، أي يعبدونني وحدي في عامة أمورهم، لا يشركون بي شيئا في عبادة ولا طاعة ولا عمل...فإن استمروا على ذلك استمر لهم السلطان في الأرض.
{وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، أي من كفر وخالف وعصى الله بعد التمكين والأمن والاستقرار {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، أي الخارجون الجائرون البائرون فلا يكون كفرهم مجرد جحود، بل هو الضياع لا محالة...
{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض} فمن فعل ذلك كان أهلا للخلافة عن الله، إنها معركة ابتلاءات وتمحيص تبين الغث من السمين، ألا ترى المسلمين الأوائل كيف كانوا يعذبون ويضطهدون، ولا يجرؤ أحد على حمايتهم حتى اضطروا للهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة...والوعد: بشارة بخير لم يأت زمنه بعد، حتى يستعد الناس بالوسيلة له، وضده الوعيد أو الإنذار بشر أو الإنذار بشر لم يأت زمنه بعد، لتكون هناك فرصة للاحتياط وتلافى الوقوع في أسبابه.وما دام الوعد من الله تعالى فهو صدق...فبماذا وعد الله الذين آمنوا؟ {ليستخلفنهم في الأرض} وهذه ليست جديدة، فقد سبقهم أسلافهم الأوائل {كما استخلف الذين من قبلهم}، فاستخلاف الذين آمنوا ليس بدعا، إنما هو أمر مشاهد في مواكب الرسل والنبوة ومشاهد في المسلمين الأوائل من الصحابة الذين أوذوا وعذبوا واضطهدوا وأخرجوا من ديارهم وأولادهم وأموالهم ولم يؤمروا برد العدوان...
لكن، ما المراد بالأرض في {ليستخلفنهم في الأرض}؟ إذا جاءت الأرض هكذا مفردة غير مضافة لشيء فتعني كل الأرض...
ثم يقول تعالى: {وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم} ففوق الاستخلاف في الأرض يمكن الله لهم الدين، ومعنى تمكين الدين: سيطرته على حركة الحياة، فلا يصدر من أمور الحياة أمر إلا في ضوئه وعلى هديه، لا يكون دينا معطلا كما نعطله نحن اليوم، تمكين الدين يعني توظيفه وقيامه بدوره في حركة الحياة تنظيما وصيانة. وقوله سبحانه: {وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا} وهم الذين قالوا: نبيت في السلاح، ونصبح في السلاح، فيبدلهم الله بعد هذا الخوف أمنا، فإذا ما حدث ذلك فعليهم أن يحافظوا على الخلافة هذه، وأن يقوموا بحقها {يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرض} فيجعل لهم القوّة والسيطرة والخلافة، بحيث يصبحون الأمناء على إدارة شؤون الأرض التي يسيطرون عليها {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من الأمم السابقة التي عاشت الاضطهاد والقهر والإذلال، ولكن الله جعلها في موقع الانتصار والقوّة، فاستطاعت تكوين مجتمعاتها الصالحة، كما حدّثنا الله عن بعض هؤلاء في قوله تعالى: {وَمَا لنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ *وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أرضنا أَوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين} [إبراهيم: 12-13] وبذلك تكون الإشارة إلى القوم الصالحين الذين سبقوهم من أتباع الأنبياء...
{وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارْتَضَى لَهُمْ} وذلك بانتشاره بين الناس، بحيث يتحوّل إلى مركز قوّة في الساحة الفكرية والعملية، لكثرة المنتسبين إليه، والداعين إلى اعتناقه، والمتحركين من خلال مفاهيمه، والدارسين له، والحاكمين باسمه...وإننا نعتقد أن الآية جاءت من أجل أن تثير في نفوس المسلمين الثقة الكبيرة بالله وبأنفسهم، وتكشف لهم الغيب الإلهيّ الذي يتحرك من سنن الله في الكون، في ما يمنحهم الله من لطفه وفي ما يأخذ به الناس من أسباب النصر، في الدعوة والحركة والجهاد، في كل ما تحتاجه الحياة من عناصر القوّة للرسالة وللإنسان، كي لا يتساقطوا تحت تأثير الضغوط الصعبة التي تطبق عليهم وتحيط بهم من كل جانب، وكي لا يضعفوا أمام نوازع الضعف الكامنة فيهم، ليستمروا في التحرك، وليتابعوا المسيرة بقوّةٍ وجدٍّ وإخلاص..