والمخادعة : أن يظهر المخادع لمن يخادعه شيئا ، ويبطن خلافه لكي يتمكن من مقصوده ممن يخادع ، فهؤلاء المنافقون ، سلكوا مع الله وعباده هذا المسلك ، فعاد خداعهم على أنفسهم ، فإن{[39]} هذا من العجائب ، لأن المخادع ، إما أن ينتج خداعه ويحصل له ما يريد{[40]} أو يسلم ، لا له ولا عليه ، وهؤلاء عاد خداعهم عليهم ، وكأنهم{[41]} يعملون ما يعملون من المكر لإهلاك أنفسهم وإضرارها وكيدها ، لأن الله تعالى لا يتضرر بخداعهم [ شيئا ] وعباده المؤمنون ، لا يضرهم كيدهم شيئا ، فلا يضر المؤمنين أن أظهر المنافقون الإيمان ، فسلمت بذلك أموالهم وحقنت دماؤهم ، وصار كيدهم في نحورهم ، وحصل لهم بذلك الخزي والفضيحة في الدنيا ، والحزن المستمر بسبب ما يحصل للمؤمنين من القوة والنصرة .
ثم في الآخرة لهم العذاب الأليم الموجع المفجع ، بسبب كذبهم وكفرهم وفجورهم ، والحال أنهم من جهلهم وحماقتهم لا يشعرون بذلك .
ثم بين - سبحانه - الدوافع التي دفعتهم إلى أن يقولوا { آمَنَّا بالله وباليوم الآخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } فقال : { يُخَادِعُونَ الله والذين آمَنُوا } .
والخدع في أصل اللغة : الإِخفاء والإِبهام ، يقال خدعه - كمنعه - خدعا ، ختله وأراد به مكروها من حيث لا يعلم ؛ وأصله من خدع الضب حارسه إذ أظهر الإِقبال عليه ثم خرج من باب آخر . وخداعهم لله - تعالى - معناه إظهارهم الإِيمان وإبطانهم الكفر ليحقنوا دماءهم وأموالهم ، ويفوزوا بسهم من الغنائم ، وسمى فعلهم هذا خداعاً لله - تعالى - لأن صورته صورة الخداع ، فالجملة الكريمة مسوقة على أسلوب المشاكلة ، ولا يجوز حملها على الحقيقة ، لأنه - سبحانه - لا يخفى عليه صنع المنافقين ؛ بل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء . قال - تعالى - { إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ }
أما خداعهم للمؤمنين فمن مظاهره إظهارهم لهم أنهم إخوانهم في العقيدة وأنهم لا يريدون لهم إلا الخير . بينما هم في الحقيقة يضمرون لهم إلا الخير . بينما هم في الحقيقة يضمرون لهم العداوة ويتربصون بهم الدوائر .
وجاءت الآية الكريمة هكذا بدون عطف ، لأنها جواب سؤال نشأ من الآية السابقة ، إذ أن قول المنافقين " آمنا " وما هم بمؤمنين ، يثير في نفس السامعين استفهاما عما يدعو هؤلاء لمثل تلك الحالة المضطربة والحياة القلقة المقامة على الكذب ، فكان الجواب : إنهم يفعلون ذلك محاولين مخادعة المؤمنين ، جهلا منهم بصفات خالقهم .
وقال القرآن : { يُخَادِعُونَ الله والذين آمَنُوا } . ولم يذكر مخادعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم ، ولعل الحكمة في ذلك أن القرآن يعتبر مخادعة لرسوله ، لأنه هو الذي بعثه إليهم ، وهو المبلغ عن الله أحكامه وشرائعه . قال - تعالى - : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } وقال - تعالى { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } ثم بين - سبحانه - غفلتهم وغباءهم فقال : { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ } .
الأنفس : جمع نفس بمعنى ذات الشيء وحقيقته . وتطلق على الجوهر اللطيف الذي يكون به الحس والحركة والإدراك .
ويشعرون : مضارع شعر بالشيء - كنصر وكرم - يقال : شعر بالشيء أي : فطن له ، ومنه الشاعر لفطنته ، لأنه يفطن لما لا يفطن له غيره من غريب المعاني ودقائقها .
والشعور : العلم الحاصل بالحواس ، ومنه مشاعر الإنسان أي : حواسه . والمعنى : أن هؤلاء المنافقين لم يخادعوا الله لعلمه بما يسرون ، ولم يخادعوا المؤمنين لأن الله يدفع عنهم ضرر خداع المنافقين ، وإنما يخدعون أنفسهم لأن ضرر المخادعة عائد عليهم ولكنهم لا يشعرون بذلك . لأن ظلام الغي خالط قلوبهم ، فجعلهم عديمي الشعور ، فاقدى الحس .
وأتى بجملة " وما يخدعون إلا أنفسهم " بأسلوب القصر مع أن خداعهم للمؤمنين قد ينالهم بسببه ضرر ، لأن أولئك المنافقين سيصيبهم عذاب شديد بسبب ذلك ، أما المؤمنون فحتى لو نالهم ضرر فلهم عند الله ثوابه . ونفى عنهم الشعور مع سلامة مشاعرهم ، لأنهم لم ينتفعوا من نعمتها ، ولم يستعملوها فيما خلقت له ، فكانوا كالفاقدين لها .
يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ ( 9 ) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ( 10 )
وهم يظنون في أنفسهم الذكاء والدهاء والقدرة على خداع هؤلاء البسطاء ؛ ولكن القرآن يصف حقيقة فعلتهم ، فهم لا يخادعون المؤمنين ، إنما يخادعون الله كذلك أو يحاولون :
( يخادعون الله والذين آمنوا ) . .
وفي هذا النص وأمثاله نقف أمام حقيقة كبيرة ، وأمام تفضل من الله كريم . . تلك الحقيقة هي التي يؤكدها القرآن دائما ويقررها ، وهي حقيقة الصلة بين الله والمؤمنين . إنه يجعل صفهم صفه ، وأمرهم أمره . وشأنهم شأنه . يضمهم سبحانه إليه ، ويأخذهم في كنفه ، ويجعل عدوهم عدوه ، وما يوجه إليهم من مكر موجها إليه - سبحانه - وهذا هو التفضل العلوي الكريم . . التفضل الذي يرفع مقام المؤمنين وحقيقتهم إلى هذا المستوى السامق ؛ والذي يوحي بأن حقيقة الإيمان في هذا الوجود هي أكبر وأكرم الحقائق ، والذي يسكب في قلب المؤمن طمأنينة لا حد لها ، وهو يرى الله - جل شأنه - يجعل قضيته هي قضيته ، ومعركته هي معركته ، وعدوه هو عدوه ، ويأخذه في صفة ، ويرفعه إلى جواره الكريم . . فماذا يكون العبيد وكيدهم وخداعهم وأذاهم الصغير ؟ !
وهو في ذات الوقت تهديد رعيب للذين يحاولون خداع المؤمنين والمكر بهم ، وإيصال الأذى إليهم . تهديد لهم بأن معركتهم ليست مع المؤمنين وحدهم إنما هي مع الله القوي الجبار القهار . وأنهم إنما يحاربون الله حين يحاربون أولياءه ، وإنما يتصدون لنقمة الله حين يحاولون هذه المحاولة اللئيمة .
وهذه الحقيقة من جانبيها جديرة بأن يتدبرها المؤمنون ليطمئنوا ويثبتوا ويمضوا في طريقهم لا يبالون كيد الكائدين ، ولا خداع الخادعين ، ولا أذى الشريرين . ويتدبرها أعداء المؤمنين فيفزعوا ويرتاعوا ويعرفوا من الذي يحاربونه ويتصدون لنقمته حين يتصدون للمؤمنين . .
ونعود إلى هؤلاء الذين يخادعون الله والذين آمنوا بقولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر . ظانين في أنفسهم الذكاء والدهاء . . ولكن يا للسخرية ! يا للسخرية التي تنصب عليهم قبل أن تكتمل الآية : ( وما يخدعون إلا أنفسهم ، وما يشعرون ) . .
إنهم من الغفلة بحيث لا يخدعون إلا أنفسهم في غير شعور ! إن الله بخداعهم عليم ؛ والمؤمنون في كنف الله فهو حافظهم من هذا الخداع اللئيم . أما أولئك الأغفال فهم يخدعون أنفسهم ويغشونها . يخدعونها حين يظنون أنهم أربحوها وأكسبوها بهذا النفاق ، ووقوها مغبة المصارحة بالكفر بين المؤمنين . وهم في الوقت ذاته يوردونها موارد التهلكة بالكفر الذي يضمرونه ، والنفاق الذي يظهرونه . وينتهون بها إلى شر مصير !
{ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ }
قال أبو جعفر : وخداع المنافق ربه والمؤمنين إظهاره بلسانه من القول والتصديق خلاف الذي في قلبه من الشك والتكذيب ليدرأ عن نفسه بما أظهر بلسانه حُكْمَ الله عز وجل اللازمَ من كان بمثل حاله من التكذيب لو لم يظهر بلسانه ما أظهر من التصديق والإقرار من القتل والسباء ، فذلك خداعه ربه وأهل الإيمان بالله .
فإن قال قائل : وكيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعا وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية ؟ قيل : لا تمتنع العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي هو في ضميره تقية لينجو مما هو له خائف ، فنجا بذلك مما خافه مخادعا لمن تخلص منه بالذي أظهر له من التقية ، فكذلك المنافق سمي مخادعا لله وللمؤمنين باظهاره ما أظهر بلسانه تقية مما تخلص به من القتل والسباء والعذاب العاجل ، وهو لغير ما أظهر مستبطن ، وذلك من فعله وإن كان خداعا للمؤمنين في عاجل الدنيا فهو لنفسه بذلك من فعله خادع لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها أنه يعطيها أمنيتها ويسقيها كأس سرورها ، وهو موردها به حياض عطبها ، ومجرّعها به كأس عذابها ، ومذيقها من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به . فذلك خديعته نفسه ظنّا منه مع إساءته إليها في أمر معادها أنه إليها محسن ، كما قال جل ثناؤه : وَما يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَما يَشْعَرُونَ إعلاما منه عباده المؤمنين أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسخاطهم ربهم بكفرهم وشكهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين ، ولكنهم على عمياء من أمرهم مقيمون .
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك كان ابن زيد يقول .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : سألت عبد الرحمن بن زيد ، عن قول الله جل ذكره : يُخادعُونَ اللّهَ وَالّذِينَ آمَنُوا إلى آخر الآية ، قال : هؤلاء المنافقون يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا ، أنهم مؤمنون بما أظهروا .
وهذه الآية من أوضح الدليل على تكذيب الله جل ثناؤه قول الزاعمين : إن الله لا يعذب من عباده إلا من كفر به عنادا ، بعد علمه بوحدانيته ، وبعد تقرّر صحة ما عاند ربه تبارك وتعالى عليه من توحيده والإقرار بكتبه ورسله عنده لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عن الذين وصفهم بما وصفهم به من النفاق وخداعهم إياه والمؤمنين أنهم لا يشعرون أنهم مبطلون فيما هم عليه من الباطل مقيمون ، وأنهم بخداعهم الذي يحسبون أنهم به يخادعون ربهم وأهل الإيمان به مخدوعون . ثم أخبر تعالى ذكره أن لهم عذابا أليما بتكذيبهم بما كانوا يكذبونه من نبوّة نبيه واعتقاد الكفر به ، وبما كانوا يكذبون في زعمهم أنهم مؤمنون ، وهم على الكفر مصرّون .
فإن قال لنا قائل : قد علمت أن المفاعلة لا تكون إلا من فاعلين ، كقولك : ضاربت أخاك ، وجالست أباك إذا كان كل واحد مجالس صاحبه ومضاربه . فأما إذا كان الفعل من أحدهما فإنما يقال : ضربت أخاك وجلست إلى أبيك ، فمن خادع المنافق فجاز أن يقال فيه : خادع الله والمؤمنين . قيل : قد قال بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب : إن ذلك حرف جاء بهذه الصورة ، أعني «يُخادع » بصورة «يُفاعل » وهو بمعنى «يَفْعل » في حروف أمثالها شاذّة من منطق العرب ، نظير قولهم : قاتلك الله ، بمعنى قتلك الله .
وليس القول في ذلك عندي كالذي قال ، بل ذلك من التفاعل الذي لا يكون إلا من اثنين كسائر ما يعرف من معنى «يُفاعل ومُفاعل » في كل كلام العرب ، وذلك أن المنافق يخادع الله جل ثناؤه بكذبه بلسانه على ما قد تقدم وصفه ، والله تبارك اسمه خادعه بخذلانه عن حسن البصيرة بما فيه نجاة نفسه في آجل معاده ، كالذي أخبر في قوله : { وَلا يَحْسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا أنّمَا نُمْلي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إثْما } وبالمعنى الذي أخبر أنه فاعل به في الاَخرة بقوله : { يَوْمَ يَقُولُ المُنافِقُونَ وَالمُنافِقَاتُ لِلّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } الآية ، فذلك نظير سائر ما يأتي من معاني الكلام بيفاعل ومفاعل . وقد كان بعض أهل النحو من أهل البصرة يقول : لا تكون المفاعلة إلا من شيئين ، ولكنه إنما قيل : يخادعون الله عند أنفسهم بظنهم أن لا يعاقبوا ، فقد علموا خلاف ذلك في أنفسهم بحجة الله تبارك اسمه الواقعة على خلقه بمعرفته وما يخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ . قال : وقد قال بعضهم : وما يخدعون يقول : يخدعون أنفسهم بالتخلية بها . وقد تكون المفاعلة من واحد في أشياء كثيرة .
القول في تأويل قوله تعالى : وَما يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ .
إن قال لنا قائل : أوليس المنافقون قد خدعوا المؤمنين بما أظهروا بألسنتهم من قيل الحقّ عن أنفسهم وأموالهم وذراريهم حتى سلمت لهم دنياهم وإن كانوا قد كانوا مخدوعين في أمر آخرتهم ؟ قيل : خطأ أن يقال إنهم خدعوا المؤمنين لأنا إذا قلنا ذلك أوجبنا لهم حقيقة خدعة جازت لهم على المؤمنين ، كما أنا لو قلنا : قتل فلان فلانا ، أوجبنا له حقيقة قتل كان منه لفلان . ولكنا نقول : خادع المنافقون ربهم والمؤمنين ، ولم يخدعوهم بل خدعوا أنفسهم ، كما قال جل ثناؤه ، دون غيرها ، نظير ما تقول في رجل قاتل آخر فقتل نفسه ولم يقتل صاحبه : قاتل فلان فلانا ولم يقتل إلا نفسه ، فتوجب له مقاتلة صاحبه ، وتنفي عنه قتله صاحبه ، وتوجب له قتل نفسه . فكذلك تقول : خادع المنافق ربه والمؤمنين ، ولم يخدع إلا نفسه ، فتثبت منه مخادعة ربه والمؤمنين ، وتنفي عنه أن يكون خدع غير نفسه لأن الخادع هو الذي قد صحت له الخديعة ووقع منه فعلها . فالمنافقون لم يخدعوا غير أنفسهم ، لأن ما كان لهم من مال وأهل فلم يكن المسلمون ملكوه عليهم في حال خداعهم إياه عنه بنفاقهم ولا قبلها فيستنقذوه بخداعهم منهم ، وإنما دافعوا عنه بكذبهم وإظهارهم بألسنتهم غير الذي في ضمائرهم ، ويحكم الله لهم في أموالهم وأنفسهم وذراريهم في ظاهر أمورهم بحكم ما انتسبوا إليه من الملة ، والله بما يخفون من أمورهم عالم . وإنما الخادع من خَتَلَ غيره عن شيئه ، والمخدوع غير عالم بموضع خديعة خادعه . فأما والمخادَع عارف بخداع صاحبه إياه ، وغير لاحقه من خداعه إياه مكروه ، بل إنما يتجافى للظان به أنه له مخادع استدراجا ليبلغ غاية يتكامل له عليه الحجة للعقوبة التي هو بها موقع عند بلوغه إياها . والمستدرج غير عالم بحال نفسه عند مستدرجه ، ولا عارف باطلاعه على ضميره ، وأن إمهال مستدرجيه إياه تركه معاقبته على جرمه ليبلغ المخاتل المخادع من استحقاقه عقوبة مستدرجه بكثرة إساءته وطول عصيانه إياه وكثرة صفح المستدرج وطول عفوه عنه أقصى غاية ، فإنما هو خادع نفسه لا شك دون من حدثته نفسه أنه له مخادع . ولذلك نفى الله جل ثناؤه عن المنافق أن يكون خدع غير نفسه ، إذ كانت الصفة التي وصفنا صفته . وإذ كان الأمر على ما وصفنا من خداع المنافق ربه وأهل الإيمان به ، وأنه غير سائر بخداعه ذلك إلى خديعة صحيحة إلا لنفسه دون غيرها لما يورطها بفعله من الهلاك والعطب ، فالواجب إذا أن يكون الصحيح من القراءة : وَما يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ دون : «وما يخادعون » ، لأن لفظ المخادع غير موجب تثبيت خديعة على صحة ، ولفظ خادع موجب تثبيت خديعة على صحة . ولا شك أن المنافق قد أوجب خديعة الله عز وجل لنفسه بما ركب من خداعه ربه ورسوله والمؤمنين بنفاقه ، فلذلك وجبت الصحة لقراءة من قرأ : وَما يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ .
ومن الدلالة أيضا على أن قراءة من قرأ : وما يَخْدَعُونَ أولى بالصحة من قراءة من قرأ : «وما يخادعون » أن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم يخادعون الله والمؤمنين في أول الآية ، فمحال أن ينفي عنهم ما قد أثبت أنهم قد فعلوه ، لأن ذلك تضادّ في المعنى ، وذلك غير جائز من الله جل وعز .
القول في تأويل قوله تعالى : وَما يَشْعُرُونَ .
يعني بقوله جل ثناؤه : وَما يَشْعُرُونَ : وَما يدرون ، يقال : ما شعر فلان بهذا الأمر ، وهو لا يشعر به إذا لم يدر ولم يعلم شعرا وشعورا ، كما قال الشاعر :
عَقّوا بِسَهْمٍ ولَمْ يَشْعُرْ بِهِ أحَدٌ *** ثُمّ اسْتَفاءُوا وَقالُوا حَبّذَا الوَضَحُ
يعني بقوله : «لم يشعر به » : لم يدر به أحد ولم يعلم . فأخبر الله تعالى ذكره عن المنافقين ، أنهم لا يشعرون بأن الله خادعهم بإملائه لهم واستدراجه إياهم الذي هو من الله جل ثناؤه إبلاغ إليهم في الحجة والمعذرة ، ومنهم لأنفسهم خديعة ، ولها في الاَجل مضرّة . كالذي :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سألت ابن زيد عن قوله : وَما يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ قال : ما يشعرون أنهم ضرّوا أنفسهم بما أسرّوا من الكفر والنفاق . وقرأ قول الله : يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعا قال : هم المنافقون ، حتى بلغ وَيحْسَبُونَ أنّهُمْ على شَيءٍ قد كان الإيمان ينفعهم عندكم .
{ يخادعون الله والذين آمنوا } الخدع أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه من المكروه لتنزله عما هو فيه ، وعما هو بصدده من قولهم : خدع الضب . إذ توارى في جحره ، وضب خادع وخدع إذا أوهم الحارس إقباله عليه ، ثم خرج من باب آخر وأصله الإخفاء ومنه المخدع للخزانة ، والأخدعان لعرقين خفيين في العنق ، والمخادعة تكون بين اثنين .
وخداعهم مع الله ليس على ظاهره لأنه لا تخفى عليه خافية ، ولأنهم لم يقصدوا خديعته بل المراد إما مخادعة رسوله على حذف المضاف ، أو على أن معاملة الرسول معاملة الله من حيث إنه خليفته كما قال تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } . { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } . وإما أن صورة صنيعهم مع الله تعالى من إظهار الإيمان واستبطان الكفر ، وصنع الله معهم بإجراء أحكام المسلمين عليهم ، وهم عنده أخبث الكفار وأهل الدرك الأسفل من النار ، استدراجا وامتثال الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أمر الله في إخفاء حالهم ، وإجراء حكم الإسلام عليهم مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة صنيع المتخادعين . ويحتمل أن يراد ب{ يخادعون } يخدعون لأنه بيان ليقول ، أو مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة صنيع المخادعين . ويحتمل أن يراد ب{ يخادعون } يخدعون لأنه بيان ليقول ، أو استئناف بذكر ما هو الغرض منه ، إلا أنه أخرج في زنة فاعل للمبالغة ، فإن الزنة لما كانت للمبالغة والفعل متى غولب فيه ، كان أبلغ منه إذا جاء بلا مقابلة معارض ومبار استصحبت ذلك ، ويعضده قراءة من قرأ { يخدعون } . وكان غرضهم في ذلك أن يدفعوا عن أنفسهم ما يطرق به من سواهم من الكفرة ، وأن يفعل بهم ما يفعل بالمؤمنين من الإكرام والإعطاء ، وأن يختلطوا بالمسلمين فيطلعوا على أسرارهم ويذيعوها إلى منابذيهم إلى غير ذلك من الأغراض والمقاصد .
{ وما يخادعون إلا أنفسهم } قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو . والمعنى : أن دائرة الخداع راجعة إليهم وضررها يحيق بهم . أو أنهم في ذلك خدعوا أنفسهم لما غروها بذلك . وخدعتهم أنفسهم حيث حدثتهم بالأماني الفارغة وحملتهم على مخادعة من لا تخفى عليه خافية .
وقرأ الباقون { وما يتخدعون } ، لأن المخادعة لا تتصور إلا بين اثنين وقرئ { يخدعون } من خدع و{ يخدعون } بمعنى يختدعون و{ يخدعون } و{ يخادعون } على البناء للمفعول ، ونصب أنفسهم بنزع الخافض ، والنفس ذات الشيء وحقيقته ، ثم قيل للروح لأن نفس الحي به ، وللقلب لأنه محل الروح أو متعلقة ، وللدم لأن قوامها به ، وللماء لفرط حاجتها إليه ، وللرأي في قولهم فلان يؤامر نفسه لأنه ينبعث عنها أو يشبه ذاتا تأمره وتشير عليه . والمراد بالأنفس ههنا ذواتهم ويحتمل حملها على أرواحهم وآرائهم .
{ وما يشعرون } لا يحسون لذلك لتمادي غفلتهم . جعل لحوق وبال الخداع ورجوع ضرره إليهم في الظهور كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على مؤوف الحواس . والشعور : الإحساس ، ومشاعر الإنسان حواسه ، وأصله الشعر ومنه الشعار .