فلهذا لما ذكر صفات المؤمنين حقا ، ذكر صفات الكفار المظهرين لكفرهم ، المعاندين للرسول فقال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } يخبر تعالى أن الذين كفروا ، أي : اتصفوا بالكفر ، وانصبغوا به ، وصار وصفا لهم لازما ، لا يردعهم عنه رادع ، ولا ينجع فيهم وعظ ، إنهم مستمرون على كفرهم ، فسواء عليهم أأنذرتهم ، أم لم تنذرهم لا يؤمنون .
وحقيقة الكفر : هو الجحود لما جاء به الرسول ، أو جحد بعضه ، فهؤلاء الكفار لا تفيدهم الدعوة إلا إقامة الحجة ، وكأن في هذا قطعا لطمع الرسول صلى الله عليه وسلم في إيمانهم ، وأنك لا تأس عليهم ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات .
وبعد أن انتهى القرآن من بيان شأن الكتاب وأثره في الهداية والإرشاد ، وتصوير حال المتقين الذين اهتدوا به ، وما اكتسبوه بالهداية من أوصاف سامية ، وما كان لهم على ذلك من خير العاقبة وحسن الجزاء ، أقول بعد أن انتهى من بيان كل ذلك شرع في بيان حال الكافرين ، وما هم عليه من سوء الحال وقبيح الأوصاف فقال : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ . . . }
في هاتين الآيتين بيان لأحوال طائفة ثانية من الناس ، على الضد في طبيعتها وأوصافها ومآلها من الطائفة الأولى التي فازت برضوان الله .
والكفر - بالضم - ضد الإيمان . وأصله المأخوذ منه الكفر - بالفتح - وهو ستر الشيء وتغطيته ، ومنه سمي الليل كافراً ، لأنه يغطي كل شيء بسواده ، وسمي السحاب كافراً لستره ضوء الشمس . ثم شاع الكفر في مجرد ستر النعمة ، كأن المنعم عليه قد غطى النعمة بجحوده لها ، ويستعمله الشارع في عدم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . وسمي من لم يؤمن بما يجب الإيمان به بعد الدعوة إليه - كافراً ، لأنه صار بجحوده لذلك الحق وعدم الإذعان إليه كالمغطى له . والمراد بالذين كفروا في الآية التي معنا ، طائفة معينة صمت آذانها عن الحق ، عناداً وحسداً ، وليس عموم الكافرين ، لأن منهم من دخل في الإسلام بعد نزول هذه الآية . وسواء : اسم مصدر بمعنى الاستواء والمراد به اسم الفاعل أي : مستو ولذلك يوصف به كما يوصف بالمصدر ، كما في قوله - تعالى - : { قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } أي : مستوية .
والإنذار : إخبار معه تخويف في مدة تتسع للتحفظ من المخوف ، فإن لم تتسع له فهو إعلام وإشعار لا إنذار ، وأكثر ما يستعمل في القرآن في التخويف من عذاب الله - تعالى - . والمعنى : إن الذين كفروا برسالتك يا محمد مستو عندهم إنذارك وعدمه ، فهم لا يؤمنون بالحق ، ولا يستجيبون لداعي الهدى ، لسوء استعدادهم ، وفساد فطرهم .
وجاءت جملة " إن الذين كفروا " مستأنفة ولم تعطف على ما قبلها لاختلاف الغرض الذي سيق له الكلام ، إذ في الجمل السابقة حديث عن الكتاب وآثاره وعظمته ، وهنا حديث عن الكافرين وأحوالهم . وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال : " فإن قلت لم قطعت قصة الكفار عن قصة المؤمنين ولم تعطف كنحو قوله : { إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ . وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ } وغيره من الآيات الكثيرة ؟ قلت : ليس وزان هاتين القصتين وزان ما ذكرت . لأن الأولى فيما نحن فيه مسوقة لذكر الكتاب وأنه هدى المتقين ، وسيقت الثانية لأن الكفار من صفتهم كيت وكيت ؛ فبين الجملتين تباين في الغرض والأسلوب ، وهما على حد لا مجال فيه للعاطف " .
وقوله { سَوَآءٌ } خبر إن { عَلَيْهِمْ } متعلق به ، و { أَأَنذَرْتَهُمْ } مؤول بمصدر فاعل سواء .
أي : إن الذين كفروا سواء عندهم إنذارهم وعدم إنذارهم وإنما استوى لديهم الإنذار وعدمه ؛ مع أن الإنذار إنما يواجههم به نبي قوي أمين مؤيد من الله - تعالى - ، لأنهم لما جحدوا نعم الله ، وعموا عن آياته ، وحسدوا رسوله على ما آتاه الله من فضله ، صاروا بسبب ذلك في حضيض جمد معه شعورهم ، وبرد فيه إحساسهم ، فلا تؤثر فيهم موجعات القول ، ولا تنفذ إلى قلوبهم بالغات الحجج . فهم كما قال الشاعر :
لقد أسمعت إذ ناديت حيا . . . ولكن لا حياة لمن تنادي
ولم يذكر - سبحانه - التبشير مع الإنذار ، لأنهم ليسوا أهلا للبشارة ، ولأن الإنذار أوقع في القلوب ، والذي لا يتأثر به يكون عدم تأثره بغيره أولى .
ولم يقل - سبحانه - سواء عليك أأنذرتهم أم لم تنذرهم . . الخ ، لأنه بالنسبة له صلى الله عليه وسلم لا يستوي الأمران ، إذ هو في حالة إنذاره لهم مثاب ومأجور ، أما في حالة عدم إنذاره فهو مؤاخذ من الله - تعالى - لأنه مكلف بتبليغ ما أنزل إليه من ربه .
وجملة { لاَ يُؤْمِنُونَ } مفسرة لمعنى الجملة التي قبلها ومؤكدة لها ، لأنه حيث كان الإنذار وعدمه سواء ، فلا يتوقع منهم الإيمان . ولذلك فصلت . وفي هذه الجملة إخبار بعدم إيمانهم ألبتة ، وذلك لأن حرف " لا " إذا دخل على الفعل المضارع - كما هنا - أفاد أن الفعل لا يقع في المستقبل حتى تقوم قرينة تقصر النفي في المستقبل على وقت محدد .
والحكمة في الإخبار بعدم إيمان هذه الطائفة المعينة من الكفار ، تسلية النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يكون في صدره حرج من تمردهم وعدم إيمانهم بعد أن قام بواجب دعوتهم ، وفي ذلك تذكرة لكل داع مصلح بأن لا يحترق قلبه أسفاً على قوم أعرضوا عن سلوك الصراط المستقيم ، بعد أن دعاهم إليه ، وبذل قصارى جهده في تبصيرهم وإرشادهم .
فأما الصورة الثانية فهي صورة الكافرين . وهي تمثل مقومات الكفر في كل أرض وفي كل حين :
( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون . ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم غشاوة ، ولهم عذاب عظيم ) . .
وهنا نجد التقابل تاما بين صورة المتقين وصورة الكافرين . . فإذا كان الكتاب بذاته هدى للمتقين ، فإن الإنذار وعدم الإنذار سواء بالقياس إلى الكافرين . إن النوافذ المفتوحة في أرواح المتقين ، والوشائج التي تربطهم بالوجود وبخالق الوجود ، وبالظاهر والباطن والغيب والحاضر . . إن هذه النوافذ المفتحة كلها هناك ، مغلقة كلها هنا . وإن الوشائج الموصولة كلها هناك ، مقطوعة كلها هنا :
{ إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }
اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية ، وفيمن نزلت ، فكان ابن عباس يقول ، كما :
حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا أي بما أنزل إليك من ربك ، وإن قالوا إنا قد آمنا بما قد جاءنا من قبلك . وكان ابن عباس يرى أن هذه الآية ، نزلت في اليهود الذين كانوا بنواحي المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم توبيخا لهم في جحودهم نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وتكذيبهم به ، مع علمهم به ومعرفتهم بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وإلى الناس كافة .
[ وحدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن صدر سورة البقرة إلى المائة منها نزل في رجال سماهم بأعيانهم وأنسابهم من أحبار يهود ومن المنافقين من الأوس والخزرج كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم ، وقد روى عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر وهو ما :
حدثنا به المثنى بن إبراهيم قال حدثنا عبد الله ابن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى فأخبره الله جل ثناؤه أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول وقال آخرون بما :
حدثت به عن عمار بن الحسن قال حدثنا عبد الله بن أبى جعفر عن أبيه ، عن الربيع بن انس ، قال : آيتان في قاده الأحزاب : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) إلى قوله : ( ولهم عذاب عظيم ) قال وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار قال فهم الذين قتلوا يوم بدر .
وأولى هذه التأويلات بالآية تأويل ابن عباس الذي ذكره محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عنه وإن كان لكل قول مما قاله الذين ذكرنا قولهم في ذلك مذهب .
فأما مذهب من تأول في ذلك ما قاله الربيع بن أنس فهو أن الله تعالى ذكره لما أخبر عن قوم من أهل الكفر بأنهم لا يؤمنون وأن الإنذار غير نافعهم ثم كان من الكفار من قد نفعه الله بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إياه لايمانه بالله وبالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله بعد نزول هذه السورة لم يجز أن تكون الآية نزلت إلا في خاص من الكفار وإذ كان ذلك كذلك وكانت قادة الأحزاب لا شك أنهم ممن لم ينفعه الله عز وجل بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إياه حتى قتلهم الله تبارك وتعالى بأيدي المؤمنين يوم بدر ، علم أنهم ممن عنى الله جل ثناؤه بهذه الآية .
وأما علتنا في اختيارنا ما اخترنا من التأويل في ذلك فهي أن قول الله جل ثناؤه ان الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون عقيب خبر الله جل ثناؤه عن مؤمني أهل الكتاب وعقيب نعتهم وصفتهم وثنائه عليهم بإيمانهم به وبكتبه ورسله فأولى الأمور بحكمة الله أن يتلى ذلك الخبر عن كفارهم ونعوتهم وذم أسبابهم وأحوالهم ، وإظهار شتمهم والبراءة منهم لان مؤمنيهم ومشركيهم وإن اختلفت أحوالهم باختلاف أديانهم فإن الجنس يجمع جميعهم بأنهم بنو إسرائيل .
وإنما احتج الله جل ثناؤه بأول هذه السورة لنبيه صلى الله عليه وسلم على مشركي اليهود من أحبار بني إسرائيل الذين كانوا مع علمهم بنبوته منكرين نبوته بإظهار نبيه صلى الله عليه وسلم على ما كانت تسره الأحبار منهم وتكتمه فيجهله عظم اليهود وتعلمه الأحبار منهم ، ليعلموا أن الذي أطلعه على علم ذلك هو الذي أنزل الكتاب على موسى إذ كان ذلك من الأمور التي لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم ولا قومه ولا عشيرته يعلمونه ولا يعرفونه من قبل نزول الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم ، فيمكنهم ادعاء اللبس في أمره عليه السلام أنه نبي وأن ما جاء به من عند الله ، وأنى يمكنهم ادعاء اللبس في صدق أمي نشأ بين أميين لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب فيقال قرأ الكتب فعلم أو حسب فنجم وانبعث على أحبار قراء كتبة قد درسوا الكتب ورأسوا الأمم يخبرهم عن مستور عيوبهم ومصون علومهم ومكتوم أخبارهم وخفيات أمورهم التي جهلها من هو دونهم من أحبارهم ، أن أمر من كان كذلك لغير مشكل وأن صدقه والحمد لله لبين .
ومما ينبئ عن صحة ما قلنا من ان الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله ان الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون هم أحبار اليهود الذين قتلوا على الكفر وماتوا عليه اقتصاص الله تعالى ذكره نبأهم وتذكيره إياهم ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق في أمر محمد عليه الصلاة والسلام بعد اقتصاصه تعالى ذكره ما اقتص من أمر المنافقين واعتراضه بين ذلك بما اعترض به من الخبر عن ابليس وآدم في قوله يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم الآيات ، واحتجاجه لنبيه عليهم بما احتج به عليهم فيها بعد جحودهم نبوته فإذا كان الخبر أولا عن مؤمني أهل الكتاب وآخرا عن مشركيهم فأولى أن يكون وسطا عنهم إذ كان الكلام بعضه لبعض تبع الا أن تأتيهم دلالة واضحة بعدول بعض ذلك عما ابتدئ به من معانيه فيكون معروفا حينئذ انصرافه عنه .
وأما معنى الكفر في قوله ان الذين كفروا فإنه الجحود وذلك أن الأحبار من يهود المدينة جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وستروه عن الناس وكتموا أمره وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم .
وأصل الكفر عند العرب تغطية الشئ ولذلك سمو الليل كافر التغطية ظلمته ما لبسته كما قال الشاعر :
فتذكر ثقلا رثيدا بعد ما *** ألقت ذكاء يمينها في كافر
*** في ليلة كفر النجوم غمامها***
يعني غطاها فكذلك الأحبار من اليهود غطوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكتموه الناس مع علمهم بنبوته ووجودهم صفته في كتبهم فقال الله جل ثناؤه فيهم إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون وهم الذين أنزل الله عز وجل فيهم : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون )
وتأويل سواء معتدل مأخوذ من التساوي كقولك متساو هذان الأمران عندي وهما عندي سواء أي هما متعادلان عندي ، ومنه قول الله جل ثناؤه فانبذ إليهم على سواء يعني أعلمهم وآذنهم بالحرب حتى يستوي علمك وعلمهم بما عليه كل فريق منهم للفريق الآخر . فكذلك قوله سواء عليهم معتدل عندهم أي الأمرين كان منك إليهم الإنذار أم ترك الإنذار لأنهم كانوا لا يؤمنون وقد ختمت على قلوبهم وسمعهم ومن ذلك قول عبد الله بن قيس الرقيات .
تغذبي الشهباء نحو ابن جعفر *** سواء عليها ليلها ونهارها
يعني بذلك معتدل عندها في السير الليل والنهار لأنه لا فتور فيه ومنه قول الآخر
وليل يقول المرء من ظلماته *** سواء صحيحات العيون وعورها
لان الصحيح لا يبصر فيه إلا بصرا ضعيفا من ظلمته وأما قوله أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون فإنه ظهر به الكلام ظهور الاستفهام وهو خبر لأنه وقع موقع أي كما تقول لا نبالي أقمت أم قعدت وأنت مخبر لا مستفهم لوقوع ذلك موقع أي وذلك أن معناه إذا قلت ذلك ما نبالي أي هذين كان منك فكذلك ذلك في قوله سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لما كان معنى الكلام : سواء عليهم أي هذين كان منك إليهم حسن في موضعه مع سواء أفعلت أم لم تفعل .
وقد كان بعض نحويي البصرة يزعم أن حرف الاستفهام إنما دخل مع سواه وليس باستفهام لان المستفهم إذا استفهم غيره فقال أزيد عندك أم عمرو ومستثبت صاحبه أيهما عنده فليس أحدهما أحق بالاستفهام من الاخر ، فلما كان قوله سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم بمعنى التسوية أشبه ذلك الاستفهام إذ أشبهه في التسوية ، وقد بينا الصواب في ذلك ، فتأويل الكلام إذا : معتدل يا محمد على هؤلاء الذين جحدوا نبوتك من أحبار يهود المدينة بعد علمهم بها وكتموا بيان أمرك للناس بأنك رسولي إلى خلقي وقد أخذت عليهم العهد والميثاق أن لا يكتموا ذلك ، وأن يبينوه للناس ويخبروهم أنهم يجدون صفتك في كتبهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم فأنهم لا يؤمنون ولا يرجعون إلى الحق ولا يصدقون بك وبما جئتهم به كما :
حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون أي إنهم قد كفروا بما عندهم من العلم من ذكر وجحدوا ما أخذ عليهم من اليثاق لك فقد كفروا بما جاءك وبما عندهم مما جاءهم به غيرك فكيف يسمعون منك إنذار وتحذيرا وقد كفروا بما عندهم من علمك .
{ إن الذين كفروا } لما ذكر خاصة عباده ، وخلاصة أوليائه بصفاتهم التي أهلتهم للهدى والفلاح ، عقبهم بأضدادهم العتاة المردة ، الذين لا ينفع فيهم الهدى ولا تغني عنهم الآيات والنذر ، ولم يعطف قصتهم على قصة المؤمنين كما عطف في قوله تعالى ؛ { إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم } لتباينهما في الغرض ، فإن الأولى سيقت لذكر الكتاب وبيان شأنه والأخرى مسوقة لشرح تمردهم ، وانهماكهم في الضلال ، و( إن ) من الحروف التي تشابه الفعل في عدد الحروف والبناء على الفتح ولزوم الأسماء وإعطاء معانيه ، والمتعدي خاصة في دخولها على اسمين . ولذلك أعملت عمله الفرعي وهو نصب الجزء الأول ورفع الثاني إيذانا بأنه فرع في العمل دخيل فيه .
وقال الكوفيون : الخبر قبل دخولها كان مرفوعا بالخبرية ، وهي بعد باقية مقتضية للرفع قضية للاستصحاب فلا يرفعه الحرف . وأجيب بأن اقتضاء الخبرية الرفع مشروط بالتجرد لتخلفه عنها في خبر كان ، وقد زال بدخولها فتعين إعمال الحرف . وفائدتها تأكيد النسبة وتحقيقها ، ولذلك يتلقى بها القسم ويصدر بها الأجوبة ، وتذكر في معرض الشك مثل قوله تعالى : { ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض } ، { وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين } قال المبرد ( قولك عبد الله قائم ، إخبار عن قيامه ، وإن عبد الله قائم ، جواب سائل عن قيامه ، وإن عبد الله لقائم ، جواب منكر لقيامه ) . وتعريف الموصول : إما للعهد ، والمراد به ناس بأعيانهم كأبي لهب ، وأبي جهل ، والوليد بن المغيرة ، وأحبار اليهود . أو للجنس ، متناولا من صمم على الكفر ، وغيرهم فخص منهم غير المصرين بما أسند إليه . والكفر لغة : ستر النعمة ، وأصله الكفر بالفتح وهو الستر ، ومنه قيل للزارع ولليل كافر ، ولكمام الثمرة كافور . وفي الشرع : إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم به ، وإنما عد لبس الغيار وشد الزنار ونحوهما كفرا لأنها تدل على التكذيب ، فإن من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجترئ عليها ظاهرا لا أنها كفر في أنفسها . واحتجت المعتزلة بما جاء في القرآن بلفظ الماضي على حدوثه لاستدعائه سابقة المخبر عنه ، وأجيب بأنه مقتضى التعلق وحدوثه لا يستلزم حدوث الكلام كما في العلم .
{ سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم } خبر إن وسواء اسم بمعنى الاستواء ، نعت به كما نعت بالمصادر قال الله تعالى : { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } رفع بأنه خبر إن وما بعده مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل : إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه ، أو بأنه خبر لما بعده بمعنى : إنذارك وعدمه سيان عليهم ، والفعل إنما يمتنع الإخبار عنه إذا أريد به تمام ما وضع له ، أما لو أطلق وأريد به اللفظ ، أو مطلق الحدث المدلول عليه ضمنا على الاتساع فهو كالاسم في الإضافة ، والإسناد إليه كقوله تعالى : { وإذا قيل لهم آمنوا } وقوله : { يوم ينفع الصادقين صدقهم } وقولهم : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه .
وإنما عدل ههنا عن المصدر إلى الفعل لما فيه من إيهام التجدد وحسن دخول الهمزة ، وأم عليه لتقرير معنى الاستواء وتأكيده ، فإنهما جردتا عن معنى الاستفهام لمجرد الاستواء ، كما جردت حروف النداء عن الطلب لمجرد التخصيص في قولهم : اللهم اغفر لنا أيتها العصابة .
والإنذار : التخويف أريد به التخويف من عذاب الله ، وإنما اقتصر عليه دون البشارة لأنه أوقع في القلب وأشد تأثيرا في النفس ، من حيث إن دفع الضر أهم من جلب النفع ، فإذا لم ينفع فيهم كانت البشارة بعدم النفع أولى ، وقرئ { أأنذرتهم } بتحقيق الهمزتين وتخفيف الثانية بين بين ، وقلبها ألفا وهو لحن لأن المتحركة لا تقلب ، ولأنه يؤدي إلى جمع الساكنين على غير حده ، وبتوسيط ألف بينهما محققتين ، وبتوسيطها والثانية بين بين وبحذف الاستفهامية ، وبحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها .
{ لا يؤمنون } جملة مفسرة لإجمال ما قبلها فيما فيه الاستواء فلا محل لها أو حال مؤكدة . أو بدل عنه . أو خبر إن والجملة قبلها اعتراض بما هو علة الحكم .
والآية مما احتج به من جوز تكليف ما لا يطاق ، فإنه سبحانه وتعالى أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون وأمرهم بالإيمان ، فلو آمنوا انقلب خبره كذبا . وشمل إيمانهم الإيمان بأنهم لا يؤمنون فيجتمع الضدان . والحق أن التكليف بالممتنع لذاته وإن جاز عقلا من حيث إن الأحكام لا تستدعي غرضا سيما الامتثال ، لكنه غير واقع للاستقراء ، والإخبار بوقوع الشيء أو عدمه لا ينفي القدرة عليه كإخباره تعالى عما يفعله هو أو العبد باختياره ، وفائدة الإنذار بعد العلم بأنه لا ينجح إلزام الحجة ، وحيازة الرسول فضل الإبلاغ ، ولذلك قال { سواء عليهم } ولم يقل سواء عليك . كما قال لعبدة الأصنام { سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون } وفي الآية إخبار بالغيب على ما هو به إن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم فهي من المعجزات .