تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَلَمَّا قَضَيۡنَا عَلَيۡهِ ٱلۡمَوۡتَ مَا دَلَّهُمۡ عَلَىٰ مَوۡتِهِۦٓ إِلَّا دَآبَّةُ ٱلۡأَرۡضِ تَأۡكُلُ مِنسَأَتَهُۥۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلۡجِنُّ أَن لَّوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ ٱلۡغَيۡبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلۡعَذَابِ ٱلۡمُهِينِ} (14)

فلم يزل الشياطين يعملون لسليمان ، عليه الصلاة والسلام ، كل بناء ، وكانوا قد موهوا على الإنس ، وأخبروهم أنهم يعلمون الغيب ، ويطلعون على المكنونات ، فأراد اللّه تعالى أن يُرِيَ العباد كذبهم في هذه الدعوى ، فمكثوا يعملون على عملهم ، وقضى اللّه الموت على سليمان عليه السلام ، واتَّكأ على عصاه ، وهي المنسأة ، فصاروا إذا مروا به وهو متكئ عليها ، ظنوه حيا ، وهابوه .

فغدوا على عملهم كذلك سنة كاملة على ما قيل ، حتى سلطت دابة الأرض على عصاه ، فلم تزل ترعاها ، حتى باد وسقط فسقط سليمان عليه السلام وتفرقت الشياطين وتبينت الإنس أن الجن { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } وهو العمل الشاق عليهم ، فلو علموا الغيب ، لعلموا موت سليمان ، الذي هم أحرص شيء عليه ، ليسلموا مما هم فيه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَلَمَّا قَضَيۡنَا عَلَيۡهِ ٱلۡمَوۡتَ مَا دَلَّهُمۡ عَلَىٰ مَوۡتِهِۦٓ إِلَّا دَآبَّةُ ٱلۡأَرۡضِ تَأۡكُلُ مِنسَأَتَهُۥۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلۡجِنُّ أَن لَّوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ ٱلۡغَيۡبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلۡعَذَابِ ٱلۡمُهِينِ} (14)

ثم ختم - سبحانه - النعم التى أنعم بها على داود وسليمان ، ببيان مشهد وفاة سليمان ، فقال : { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ } .

والمراد بدابة الأرضة : قيل هى الأَرَضَة التى تأكل الخشب وتتغذى به ، يقال : أرضتا لدابة الخشب أرضا - من باب ضرب - ، إذا أكلته . فإضافة الدابة إلى الأرض - بمعنى الأكل والقطع - من إضافة الشئ إلى فعله .

و { مِنسَأَتَهُ } أى : عصاه التى كان مستندا عليها . وسميت العصا بذلك لأنها تزجر بها الأغنام إذا جاوزت مرعاها . من نسأ البعير - كنع - إذا زجره وساقه ، أو إذا أخره ودفعه .

والمعنى : فلما حكنا على سليمان - عليه السلام - بالموت ، وأنفذناه فيه ، وأوقعناه عليه ، { مَا دَلَّهُمْ } أى : الجن الذين كانوا فى خدمته { على مَوْتِهِ } بعد أن مات وظل واقفا متكئا على عصاه { إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ } .

أى : انهم لم يدركوا أنه مات ، واستمروا فى أعمالهم الشاقة التى كلفهم بها ، حتى جاءت الدابة التى تفعل الأرْضَ - أى الأكل والقطع - فأكلت شيئا من عصاه التى كان متكئا عليها ، فصقط واقعا عبد أن كان واقفا .

{ فَلَمَّا خَرَّ } أى : فلما سقط سليمان على الأرض { تَبَيَّنَتِ الجن } أى : ظهر لهم ظهورا جليا { أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب } كما يزعم بعضهم .

{ مَا لَبِثُواْ فِي العذاب المهين } أى : ما بقوا فى الأعمال الشاقة التى كلفهم بها سليمان .

وذلك أن الجن استمروا فيما كلفهم به سليمان من اعمال شاقة ، ولم يدركوا أنه قد مات ، حتى جاءت الأرضة فأكلت شيئا من عصاه ، فسقط على الأرض وهنا فقط علموا انه قد مات .

قال ابن كثير : يذكر - تعالى - فى هذه الآية كيفية موت سليمان - عليه السلام - وكيف عمَّى الله موته على الجان المسخرين له فى الأعمال الشاقة ، فإنه مكث متوكئا على عصاه ، وهى منسأته - مدة طويلة نحواً من سنة ، فلما أكلتها دابة الأرض ، - وهى الأرضة - ضعف وسقط إلى الأرض ، وعلم أنه قد مات قبل ذلك بمدة طويلة - تبينت الجن والإِنس أيضاً - أن الجن لا يعلمون الغيب ، كما كانوا يتوهمون ويواهمون الناس ذلك .

هذا هو النموذج الأول الذى ساقه الله - تعالى - للشاكرين ، متمثلا فى موقف داود وسليمان - عليهما السلام - مما أعطاهما - سبحانه - من نعم جزيله . .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَلَمَّا قَضَيۡنَا عَلَيۡهِ ٱلۡمَوۡتَ مَا دَلَّهُمۡ عَلَىٰ مَوۡتِهِۦٓ إِلَّا دَآبَّةُ ٱلۡأَرۡضِ تَأۡكُلُ مِنسَأَتَهُۥۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلۡجِنُّ أَن لَّوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ ٱلۡغَيۡبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلۡعَذَابِ ٱلۡمُهِينِ} (14)

10

ثم نمضي مع نصوص القصة القرآنية في المشهد الأخير منها . مشهد وفاة سليمان والجن ماضية تعمل بأمره فيما كلفها عمله ؛ وهي لا تعلم نبأ موته ، حتى يدلهم على ذلك أكل الأرضة لعصاه ، التي كان مرتكزاً عليها ، وسقوطه :

( فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته ، فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) . .

وقد روي أنه كان متكئاً على عصاه حين وافاه أجله ؛ والجن تروح وتجيء مسخرة فيما كلفها إياه من عمل شاق شديد ؛ فلم تدرك أنه مات ، حتى جاءت دابة الأرض . قيل إنها الأرضة ، التي تتغذى بالأخشاب ، وهي تلتهم أسقف المنازل وأبوابها وقوائمها بشراهة فظيعة ، في الأماكن التي تعيش فيها . وفي صعيد مصر قرى تقيم منازلها دون أن تضع فيها قطعة خشب واحدة خوفاً من هذه الحشرة التي لا تبقي على المادة الخشبية ولا تذر . فلما نخرت عصا سليمان لم تحمله فخرّ على الأرض . وحينئذ فقط علمت الجن موته . وعندئذ ( تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) . .

فهؤلاء هم الجن الذين يعبدهم بعض الناس . هؤلاء هم سخرة لعبد من عباد الله . وهؤلاء هم محجوبون عن الغيب القريب ؛ وبعض الناس يطلب عندهم أسرار الغيب البعيد !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَلَمَّا قَضَيۡنَا عَلَيۡهِ ٱلۡمَوۡتَ مَا دَلَّهُمۡ عَلَىٰ مَوۡتِهِۦٓ إِلَّا دَآبَّةُ ٱلۡأَرۡضِ تَأۡكُلُ مِنسَأَتَهُۥۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلۡجِنُّ أَن لَّوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ ٱلۡغَيۡبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلۡعَذَابِ ٱلۡمُهِينِ} (14)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلّهُمْ عَلَىَ مَوْتِهِ إِلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمّا خَرّ تَبَيّنَتِ الْجِنّ أَن لّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } .

يقول تعالى ذكره : فلما أمضينا قضاءنا على سليمان بالموت فمات ما دَلّهُمْ عَلى مَوْتِهِ يقول : لم يدلّ الجنّ على موت سليمان إلاّ دَابّةُ الأرْضِ وهي الأَرَضَة وقعت في عصاه ، التي كان متكئا عليها فأكلتها ، فذلك قول الله عزّ وجلّ تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني ابن المثنى وعليّ ، قالا : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ يقول : الأَرَضَة تأكل عصاه .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ قال : عصاه .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثني أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إلاّ دَابّةُ الأرْضِ قال : الأَرَضَة تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ قال : عصاه .

حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عبد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد تأْكُلُ مِنْسأَتَهُ قال : عصاه .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن عثمة ، قال : حدثنا سعيد بن بشير ، عن قتادة ، في قوله : تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ أكلت عصاه حتى خرّ .

حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : المنسأة : العصا بلسان الحبشة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : المنسأة : العصا .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : مِنْسأتَهُ فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة وبعض أهل البصرة : «مِنْساتَهُ » غير مهموزة وزعم من اعتلّ لقارىء ذلك كذلك من أهل البصرة أن المنِساة : العصا ، وأن أصلها من نسأت بها الغنم ، قال : وهي من الهمز الذي تركته العرب ، كما تركوا همز النبيّ والبرية والخابية ، وأنشد لترك الهمز في ذلك بيتا لبعض الشعراء :

إذَا دَبَبتَ عَلى المِنساةِ مِنْ هَرَمٍ *** فَقَدْ تَباعَدَ عَنْكَ اللّهْوُ والغَزَلُ

وذكر الفراء عن أبي جعفر الرّوَاسِيّ ، أنه سأل عنها أبا عمرو ، فقال : «مِنْساتَهُ » بغير همز .

وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : مِنْسأتَهُ بالهمز ، وكأنهم وجهوا ذلك إلى أنها مِفْعَلة ، من نسأت البعير : إذا زجرته ليزداد سيره ، كما يقال : نسأت اللبن : إذا صببت عليه الماء ، وهو النّسيء . وكما يقال : نسأ الله في أجلك أي أدام الله في أيام حياتك .

قال أبو جعفر : وهما قراءتان قد قرأ بكلّ واحدة منهما علماء من القرّاء بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، وأن كنت أختار الهمز فيها لأنه الأصل .

وقوله : فَلَمّا خَرّ تَبَيّنَتِ الجِنّ يقول عزّ وجلّ : فلما خرّ سليمان ساقطا بانكسار منسأته تبيّنت الجنّ أنْ لو كانوا يعلمون الغَيْبَ الذي يدّعون علمه ما لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِينِ المذلّ حولاً كاملاً بعد موت سليمان ، وهم يحسبون أن سليمان حيّ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أحمد بن منصور ، قال : حدثنا موسى بن مسعود أبو حذيفة ، قال : حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «كانَ سُلَيْمانُ نَبِيّ اللّهِ إذَا صَلّى رأَى شَجَرَةً نابِتَةً بينَ يَدَيْهِ ، فَيَقُولُ لَهَا : ما اسمُكِ ؟ فَتَقُولُ : كَذَا ، فَيَقُولُ : لأَيّ شَيْءٍ أنْتِ ؟ فإنْ كانَتْ تُغْرَسُ غُرِسَتْ ، وَإنْ كانَتْ لِدَوَاءٍ كُتِبَتْ ، فَبَيْنَما هُوَ يُصَلّي ذَاتَ يَوْمٍ ، إذْ رأى شَجَرَةً بينَ يَدَيْهِ ، فَقالَ لَهَا : ما اسمُكِ ؟ قالَتْ : الخَرّوب ، قالَ : لأَيّ شَيْءٍ أنْتِ ؟ قالَتْ : لخَرَابِ هَذَا البَيْتِ ، فَقالَ سُلَيْمانُ : اللّهُمّ عَمّ على الجِنّ مَوْتِي حتى يَعْلَمَ الإنْسُ أنّ الجِنّ لا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ ، فَنَحَتَها عَصا فَتَوَكّأَعَلَيْها حَوْلاً مَيّتا ، والجِنّ تَعْمَلُ ، فأكَلَتْها الأرَضَةُ ، فَسَقَطَ ، فَتَبَيّنَتِ الإنْسُ أنّ الجِنّ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ ما لَبِثُوا حَوْلاً فِي العَذَابِ المُهِينِ » قال : وكان ابن عباس يقرؤها كذلك ، قال : فشكرت الجنّ للأرضة ، فكانت تأتيها بالماء .

حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مُرّة الهمْدانيّ ، عن ابن مسعود ، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كان سليمان يتجرّد في بيت المقدس السنة والسنتين ، والشهر والشهرين ، وأقلّ من ذلك وأكثر ، يَدْخل طعامه وشرابه ، فدخله في المرّة التي مات فيها ، وذلك أنه لم يكن يوم يُصبح فيه ، إلا تنبت فيه شجرة ، فيسألها ما اسمك ، فتقول الشجرة : اسمي كذا وكذا ، فيقول لها : لأيّ شيء نبتّ ؟ فتقول : نبتّ لكذا وكذا ، فيأمر بها فتقطع ، فإن كانت نبتت لغرس غرسها ، وإن كانت نبتت لدواء ، قالت : نبتّ دواء لكذا وكذا ، فيجعلها كذلك ، حتى نبتت شجرة يقال لها الخرّوبة ، فسألها : ما اسمك ؟ فقالت له : أنا الخرّوبة ، فقال : لأيّ شيء نبتّ ؟ قالت : لخراب هذا المسجد قال سليمان : ما كان الله ليخربه وأنا حيّ ، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس ، فنزعها وغرسها في حائط له ، ثم دخل المحراب ، فقام يصلي متكئا على عصاه ، فمات ولا تعلم به الشياطين في ذلك ، وهم يعملون له يخافون أن يخرج فيعاقبهم وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب ، وكان المحراب له كُوًى بين يديه وخلفه ، وكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول : ألست جَلدا إن دخلتُ ، فخرجتُ من الجانب الاَخر فدخل شيطان من أولئك فمرّ ، ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان في المحراب إلا احترق ، فمرّ ولم يسمع صوت سليمان عليه السلام ، ثم رجع فلم يسمع ، ثم رجع فوقع في البيت فلم يحترق ، ونظر إلى سليمان قد سقط فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات ، ففتحوا عنه فأخرجوه ووجدوا منسأته ، وهي العصا بلسان الحبشة ، قد أكلتها الأرضة ، ولم يعلموا منذ كم مات ، فوضعوا الأرضة على العصا ، فأكلت منها يوما وليلة ، ثم حسبوا على ذلك النحو ، فوجدوه قد مات منذ سنة . وهي في قراءة ابن مسعود : «فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولاً كاملاً » فأيقن الناس عند ذلك أن الجنّ كانوا يكذِبونهم ، ولو أنهم علموا الغيب لعلموا بموت سليمان ، ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له ، وذلك قول الله : ما دَلّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ فَلَمّا خَرّ تَبَيّنَتِ الجِنّ أنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي العَذابِ المُهِينِ يقول : تبين أمرهم للناس أنهم كانوا يكذِبونهم ، ثم إن الشياطين قالوا للأرضة : لو كنت تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام ، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب ، ولكنا سننقل إليك الماء والطين ، فالذي يكون في جوف الخشب ، فهو ما تأتيها به الشياطين شكرا لها .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كانت الجنّ تخبر الإنس أنهم كانوا يعلمون من الغيب أشياء ، وأنهم يعلمون ما في غد ، فابتلوا بموت سليمان ، فمات ، فلبث سنة على عصاه وهم لا يشعرون بموته ، وهم مسخرون تلك السنة يعملون دائبين فَلَمّا تَبَيّنَتِ الْجِنّ أنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِينِ ولقد لبثوا يدأبون ، ويعملون له حولاً .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ما دَلّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ قال : قال سليمان لملك الموت : يا ملك الموت ، إذا أُمِرْتَ بي فأعلمني قال : فأتاه فقال : يا سليمان ، قد أُمرت بك ، قد بقيت لك سُويعة ، فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ، ليس له باب ، فقام يصلي ، واتكأ على عصاه قال : فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متكىء على عصاه ولم يصنع ذلك فرارا من ملك الموت ، قال : والجنّ تعمل بين يديه ، وينظرون إليه ، يحسبون أنه حيّ ، قال : فبعث الله دابة الأرض ، قال : دابة تأكل العِيدان يقال لها القادح ، فدخلت فيها فأكلتها ، حتى إذا أكلت جوف العصا ، ضعفت وثقل عليها ، فخرّ ميتا ، قال : فلما رأت الجنّ ذلك ، انفضوا وذهبوا ، قال : فذلك قوله : ما دَلّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ قال : والمنسأة : العصا .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، قال : كان سليمان بن داود يصلي ، فمات وهو قائم يصلي والجنّ يعملون لا يعلمون بموته ، حتى أكلت الأرضة عصاه ، فخرّ ، و«أن » في قوله : أن لَوْ كانُوا في موضع رفع بتبين ، لأن معنى الكلام : فلما خرّ تبين وانكشف ، أن لو كان الجنّ يعلمون الغيب ، ما لبثوا في العذاب المهين .

وأما على التأويل الذي تأوّله ابن عباس من أن معناه : تبينت الإنس الجنّ ، فإنه ينبغي أن يكون في موضع نصب بتكريرها على الجنّ ، وكذلك يجب على هذه القراءة أن تكون الجنّ منصوبة ، غير أني لا أعلم أحدا من قرّاء الأمصار يقرأ ذلك بنصب الجنّ ، ولو نصب كان في قوله تَبَيّنَت ضمير من ذكر الإنس .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَلَمَّا قَضَيۡنَا عَلَيۡهِ ٱلۡمَوۡتَ مَا دَلَّهُمۡ عَلَىٰ مَوۡتِهِۦٓ إِلَّا دَآبَّةُ ٱلۡأَرۡضِ تَأۡكُلُ مِنسَأَتَهُۥۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلۡجِنُّ أَن لَّوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ ٱلۡغَيۡبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلۡعَذَابِ ٱلۡمُهِينِ} (14)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: فلما أمضينا قضاءنا على سليمان بالموت فمات، "ما دَلّهُمْ عَلى مَوْتِهِ "يقول: لم يدلّ الجنّ على موت سليمان "إلاّ دَابّةُ الأرْضِ" وهي الأَرَضَة وقعت في عصاه، التي كان متكئا عليها فأكلتها، فذلك قول الله عزّ وجلّ "تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ"... وقوله: "فَلَمّا خَرّ تَبَيّنَتِ الجِنّ" يقول عزّ وجلّ: فلما خرّ سليمان ساقطا بانكسار منسأته تبيّنت الجنّ أنْ لو كانوا يعلمون الغَيْبَ الذي يدّعون علمه "ما لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِينِ" المذلّ حولاً كاملاً بعد موت سليمان، وهم يحسبون أن سليمان حيّ.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{فلما قضينا عليه الموت ما دلّهم على موته إلا دابة الأرض} دل هذا على أن موته كان بحضرة أهله ومشهد منهم حيث ذكر: {ما دلّهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته}.

ودل قوله تعالى: {ما دلّهم على موته إلا دابة الأرض} على أنهم كانوا لا يدنون منه لأحد وجهين: إما لهيبته وسلطانه على الناس، فإن كان ذلك طاع له كل شيء، وخضع الجن والطير والوحش وغير ذلك، وإما لما كان يُكثر العبادة لله والخضوع له بتوحيده، وينفرد بنفسه، لم يجترئوا أن يدنوا منه، وإلا لو دَنَوا منه لرأوا فيه آثار الموت.

{تأكل مِنسأتَه} قيل المِنسأة العصا، سمّى مِنسأة من النساء لأنه كان بها يؤخّر ما أراد تأخيره، وبها يدفع ما أراد دفعه.

في إمساكه العصا أحد وجهين: إما لضعفه في نفسه، كان يتقوّى بها في أمور ربه، وإما يمسكها لخضوعه إلى ربه وطاعته له، وفيه دلالة أن الأنبياء عليهم السلام كانوا لا يشغلهم المُلك وفُضَل الدنيا ولا الحاجة ولا الفقر عن القيام بأمر الله وتبليغ الرسالة إلى الناس، وهما شاغلان لغيرهم.

ودلّ قوله: {ما لبِثوا في العذاب المُهين} أنه كان يأمرهم، ويستعملهم في أمور شاقة وأعمال صعبة حين ذكر لبثهم في ذلك لبثًا في العذاب المهين.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

وهكذا المَلِكُ الذي يقوم مُلكُه بغيره، ويكون استمساكه بعصا، فإنه إذا سَقَطَ سَقَطَ بسقوطه، ومَنْ قام بغيره زال بزواله.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

لما بين عظمة سليمان وتسخير الريح والروح له، بين أنه لم ينج من الموت، وأنه قضى عليه الموت، تنبيها للخلق على أن الموت لا بد منه، ولو نجا منه أحد لكان سليمان أولى بالنجاة منه.

{ما لبثوا في العذاب المهين} دليل على أن المؤمنين من الجن لم يكونوا في التسخير، لأن المؤمن لا يكون في زمان النبي في العذاب المهين.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان ربما استبعد موت من هو على هذه الصفة من ضخامة الملك بنفوذ الأمر وسعة الحال وكثرة الجنود، أشار إلى سهولته بقرب زمنه وسرعة إيقاعه على وجه دال على بطلان تعظيمهم للجن بالإخبار بالمغيبات بعد تنبيههم على مثل ذلك باستخدامه لهم بقوله: {فلما} بالفاء، ولذلك عاد إلى مظهر الجلال فقال: {قضينا} وحقق صفة القدرة بأداة الاستعلاء فقال: {عليه} أي سليمان عيله السلام {الموت ما دلهم} أي جنوده وكل من في ملكه من الجن والإنس وغيرهم من كل قريب وبعيد {على موته} لأنا جعلنا له من سعة العلم ووفور الهيبة ونفوذ الأمر ما تمكن به من إخفاء موته عنهم {إلا دآبة الأرض} فخمها بهذه الإضافة التي من معناها أنه لا دابة للأرض غيرها لما أفادته من العلم ولأنها لكونها تأكل من كل شيء من أجزاء الأرض من الخشب والحجر والتراب والثياب وغير ذلك أحق الدواب بهذا الاسم، ويزيد ذلك حسناً ان مصدر فعلها أرض بالفتح والإسكان فيصير من قبيل التورية ليشتد التشوف إلى تفسيرها، ثم بين أنها الأرضة بقوله مستأنفاً في جواب من كأنه قال: أي دابة هي وبما دلت: {تأكل منسأته} أي عصاه التي مات وهو متكئ... {فلما خر} أي سقط على الأرض بعد أن قصمت الأرضة عصاه {تبينت الجن} أي علمت علماً بيناً لا يقدرون معه على تدبيج وتدليس، وانفضح أمرهم وظهر ظهوراً تاماً {أن} أي أنهم {لو كانوا} أي الجن {يعلمون الغيب} أي علمه {ما لبثوا} أي أقاموا حولاً مجرماً {في العذاب المهين} من ذلك العمل الذي كانوا مسخرين فيه، والمراد إبطال ما كانوا يدعونه من علم الغيب على وجه الصفة، لأن المعنى أن دعواهم ذلك إما كذب أو جهل، فأحسن الأحوال لهم أن يكون جهلاً منهم، وقد تبين لهم الآن جهلهم بياناً لا يقدرون على إنكاره، ويجوز أن تكون "أن "تعليلية، ويكون التقدير: تبين حال الجن فيما يظن بهم من أنهم يعلمون الغيب، لأنهم إلى آخره... وفي هذا توبيخ للعرب أنهم يصدقون من ثبت بهذا الأمر أنهم لا يعلمون الغيب في الخرافات التي تأتيهم بها الكهان وغيرهم مما يفتنهم والحال أنهم يشاهدون منه كذباً كبيراً، فكانوا بذلك مساوين لمن يخبر من الآدميين عن بعض المغيبات بظن يظنه أو منام يراه أو غير ذلك، فيكون كما قال -هذا مع إعراضهم عمن يخبرهم بالآخرة شفقة عليهم ونصيحة لهم، وما أخبرهم بشيء قط إلا ظهر صدقه قبل ادعائه للنبوة وبعده، وأظهر لهم من المعجزات ما بهر العقول، وقد تقرر أن كل شيء ثبت لمن قبل نبينا صلى الله عليه وسلم من الأنبياء من الخوارق ثبت له مثله أو أعظم منه إما له نفسه أو لأحد من أمته...

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

وفي الآية دليل على أن الغيب لا يختص بالأمور المستقبلة بل يشمل الأمور الواقعة التي هي غائبة عن الشخص أيضا.

ومن باب الإشارة: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الاْرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} [سبأ: 14] فيه إشارة إلى أن الضعيف قد يفيد القوي علماً.

تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :

والكتاب الكريم لم يحدد المدة التي قضاها سليمان وهو متكئ على عصاه حتى علم الجن بموته، وقد روى القصاصون أنها كانت سنة، ومثل هذا لا ينبغي الركون إليه، فليس من الجائز أن خدم سليمان لا يتنبهون إلى القيام بواجباته المعيشية من مأكل ومشرب وملبس ونحوها يوما كاملا دون أن يحادثوه في ذلك ويطلبوا إليه القيام بخدمته، فالمعقول أن الأرضة بدأت العصا وسليمان لم يتنبه لذلك، وبينما هو متوكئ عليها حانت منيته، وكانت الأرضة قد فعلت فعلها في العصا فانكسرت فجر على الأرض فعلمت الجن كذبها، إذ كانت تدعي أنها تعلم الغيب إذ لو علمته ما لبثت ترهق نفسها في شاق الأعمال التي كلفت بها.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

فهؤلاء هم الجن الذين يعبدهم بعض الناس. هؤلاء هم سخرة لعبد من عباد الله. وهؤلاء هم محجوبون عن الغيب القريب؛ وبعض الناس يطلب عندهم أسرار الغيب البعيد!

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

قصّة النّبي سليمان (عليه السلام) ككثير من قصص الأنبياء، اختلطت مع الأسف بروايات كثيرة موضوعة وخرافات شوّهت صورة هذا النّبي العظيم، وأكثر هذه الخرافات أخذت من التوراة الرائجة اليوم، ولو اقتنعنا بما ورد في القرآن الكريم حول هذا النّبي لما واجهتنا أيّة مشكلة.