{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
هذا أمر من الله تعالى للمؤمنين أن يدخلوا { فِي السِّلْمِ كَافَّةً } أي : في جميع شرائع الدين ، ولا يتركوا منها شيئا ، وأن لا يكونوا ممن اتخذ إلهه هواه ، إن وافق الأمر المشروع هواه فعله ، وإن خالفه ، تركه ، بل الواجب أن يكون الهوى ، تبعا للدين ، وأن يفعل كل ما يقدر عليه ، من أفعال الخير ، وما يعجز عنه ، يلتزمه وينويه ، فيدركه بنيته .
ولما كان الدخول في السلم كافة ، لا يمكن ولا يتصور إلا بمخالفة طرق الشيطان قال : { وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي : في العمل بمعاصي الله { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } والعدو المبين ، لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء ، وما به الضرر عليكم .
وبعد أن عرض القرآن هذين النوعين اللذين نجدهما في كل زمان ومكان ، وجه نداء إلى المؤمنين دعاهم فيه إلى الاستجابة التامة لخالقهم فقال - تعالى - :
{ ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا . . . }
{ السلم } - بكسر السين وفتحها مع إسكان اللام - بمعنى واحد ، ويطلقان على الإِسلام وعلى المسالمة - وبعضهم فرق بين اللفظين فجعل { السلم } بكسر السين - للإِسلام ، و { السلم } - بفتحها - للمسالمة ، وأنكر المبرد هذه التفرقة .
قال الفخر الرازي : وأصل هذه الكلمة من الانقياد . قال - تعالى - : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين } والإِسلام إنما سمى إسلامها لهذا المعنى . وغلب اسم السلم على الصلح وترك الحرب ، وهذا أيضاً راجع إلى هذا المعنى . لأن عند الصلح ينقاد كل واحد إلى صاحبه " .
و { كَآفَّةً } أي جميعاً ، وهي في الأصل صفة من كف بمعنى منع ، واستعملت بمعنى الجملة والجميع بعلاقة أنها مانعة من التفرق وهي حال من قوله : { السلم } أي : يأيها المؤمنون ادخلوا في الإِسلام والتزاموا بكل تعاليمه ، ونفذوا جميع أحكامه وآدابه ، واعملوا بكل أوامره ونواهيه ، ولا تكونوا ممن يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض . فالمقصود التزام جميع شرائع الإِسلام وأحكامه وآدابه .
وبعضهم يرى أن قوله : { كَآفَّةً } حال من فاعل ادخلوا وهو ضمير الجماعة والمعنى عليه : ادخلوا في الإِسلام جميعاً ، وانقادوا لأحكامه مجتمعين غير متفرقين ، لأنه الدين الذي ألف الله به بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً .
وسواء أكان لفظ { كَآفَّةً } حالا من { السلم } أو من فاعل { ادخلوا } فالمقصود من الآية دعوة المؤمنون إلى التمسك بجميع شعب الإِسلام وشرائعه مع التزامهم برباط الإِخاء الذي ربط الله به بين قلوبهم بسبب اتباعهم لهذا الدين الحنيف .
وإذا كان المراد بكلمة { السلم } المسالمة والمصالحة كان المعنى : يأيها الذين آمنوا إن إيمانكم يوجب عليكم فيما بينكم أن تكونوا متصالحين غير متعادين ، متحابين غير متباغضين ، متجمعين غير متفرقين ، كما أنه يوجب عليكم بالنسبة لغيركم ممن هو ليس على دينكم أن تسالموه متى سالمكم ، وأن تحابوه متى اعتدى عليكم ، فإن دينكم ما جاء للحرب والخصام وإنما جاء للهداية وللسلام العزيز القوي الذي يرد الاعتداء بمثله .
هذا هو المعنى الذي نراه ظاهراً في الآية ، وهو ما سار عليه المحققون من المفسرين .
وبعضهم ذكر أن الخطاب في الآية لمؤمني أهل الكتاب ، لما روى عن ابن عباس أنه قال : نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه ، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا بشرائعه وشرائع موسى عليه السلام - فعظموا السبت وكرهوا لحم الإِبل وألبانها بعد أن أسلموا ، فأنكر عليهم المسلمون فقالوا ، إنا نقوى على هذا وهذا ؛ وقالوا النبي صلى الله عليه وسلم إن التوراة كتاب الله فدعنا فلنعمل بها فأنزل الله هذه الآية . فالخطاب لمؤمني أهل الكتاب .
وبعضهم ذكر أن المراد بالآية المنافقون والتقدير : يأيها الذين آمنوا بألسنتهم ادخلوا بكليتكم في الإِسلام ولا تتبعوا خطوات الشيطان .
وهذان القولان ضعفهما ظاهر ، إذ لا سند لهما يعتمد عليه ، ولا يؤيدها سياق الآية الكريمة ، لأن الآية الكريمة صريحة في دعوة المؤمنين إلى التمسك بجميع تعاليم الإِسلام ، وإلى الإِخاء الجامع ونبذ التفرق والاختلاف والاعتداء .
وقوله : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } تحذير لهم مما يصدهم عن الدخول في السلم .
أي : ادخلوا في السلم واحذورا أن تتبعوا مدارج الشيطان وطرقه إنه لكم عدو ظاهر العداوة بحيث لا تخفى عداوته على عاقل .
والخطوات . جمع خطوة - بفت الخاء وضمها - وهي ما بين قدمي من يخطو .
وفي قوله : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان } إشعار بأن الشيطان كثيراً ما يجر الإِنسان إلى الشر خطوة فخطوة ودرجة فدرجة حتى يجعله يألفه ويقتحمه بدون تردد ، وبذلك يكون ممن استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله . والعاقل من الناس هو الذي يبتعد عن كل ما هو من نزغات الشيطان ووساوسه ، فإن صغير الذنوب قد يوصل إلى كبيرها ، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه .
وقوله : { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } جملة تعليلية ، مؤكدة للنهي ومبينة لحكمته .
وفي ظلال هاتين اللوحتين المشخصتين لنموذج النفاق الفاجر ، ونموذج الإيمان الخالص . يهتف بالجماعة المسلمة ، باسم الإيمان الذي تعرف به ، للدخول في السلم كافة ، والحذر من اتباع خطوات الشيطان ، مع التحذير من الزلل بعد البيان .
( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، إنه لكم عدو مبين . فإن زللتم ، من بعد ما جاءتكم البينات ، فاعلموا أن الله عزيز حكيم )
إنها دعوة للمؤمنين باسم الإيمان . بهذا الوصف المحبب إليهم ، والذي يميزهم ويفردهم ، ويصلهم بالله الذي يدعوهم . . دعوة للذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة . .
وأول مفاهيم هذه الدعوة أن يستسلم المؤمنون بكلياتهم لله ، في ذوات أنفسهم ، وفي الصغير والكبير من أمرهم . أن يستسلموا الاستسلام الذي لا تبقى بعده بقية ناشزة من تصور أو شعور ، ومن نية أو عمل ، ومن رغبة أو رهبة ، لا تخضع لله ولا ترضى بحكمه وقضاه . استسلام الطاعة الواثقة المطمئنة الراضية . الاستسلاملليد التي تقود خطاهم وهم واثقون أنها تريد بهم الخير والنصح والرشاد ؛ وهم مطمئنون إلى الطريق والمصير ، في الدنيا والآخرة سواء .
وتوجيه هذه الدعوة إلى الذين آمنوا إذ ذاك تشي بأنه كانت هنالك نفوس ما تزال يثور فيها بعض التردد في الطاعة المطلقة في السر والعلن . وهو أمر طبيعي أن يوجد في الجماعة إلى جانب النفوس المطمئنة الواثقة الراضية . . وهي دعوة توجه في كل حين للذين آمنوا ؛ ليخلصوا ويتجردوا ؛ وتتوافق خطرات نفوسهم واتجاهات مشاعرهم مع ما يريد الله بهم ، وما يقودهم إليه نبيهم ودينهم ، في غير ما تلجلج ولا تردد ولا تلفت .
والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلم وكله سلام . عالم كله ثقة واطمئنان ، وكله رضى واستقرار . لا حيرة ولا قلق ، ولا شرود ولا ضلال . سلام مع النفس والضمير . سلام مع العقل والمنطق . سلام مع الناس والأحياء . سلام مع الوجود كله ومع كل موجود . سلام يرف في حنايا السريرة . وسلام يظلل الحياة والمجتمع . سلام في الأرض وسلام في السماء .
وأول ما يفيض هذا السلام على القلب يفيض من صحة تصوره لله ربه ، ونصاعة هذا التصور وبساطته . . إنه إله واحد . يتجه إليه المسلم وجهة واحدة يستقر عليها قلبه ؛ فلا تتفرق به السبل ، ولا تتعدد به القبل ؛ ولا يطارده إله من هنا وإله من هناك - كما كان في الوثنية والجاهلية - إنما هو إله واحد يتجه إليه في ثقة وفي طمأنينة وفي نصاعة وفي وضوح .
وهو إله قوي قادر عزيز قاهر . . فإذا اتجه إليه المسلم فقد اتجه إلى القوة الحقة الوحيدة في هذا الوجود . وقد أمن كل قوة زائفة واطمأن واستراح . ولم يعد يخاف أحدا أو يخاف شيئا ، وهو يعبد الله القوي القادر العزيز القاهر . ولم يعد يخشى فوت شيء . ولا يطمع في غير من يقدر على الحرمان والعطاء .
وهو إله عادل حكيم ، فقوته وقدرته ضمان من الظلم ، وضمان من الهوى ، وضمان من البخس . وليس كآلهة الوثنية والجاهلية ذوات النزوات والشهوات . ومن ثم يأوي المسلم من إلهه إلى ركن شديد ، ينال فيه العدل والرعاية والأمان .
وهو رب رحيم ودود . منعم وهاب . غافر الذنب وقابل التوب . يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء . فالمسلم في كنفه آمن آنس ، سالم غانم ، مرحوم إذا ضعف ، مغفور له متى تاب . .
وهكذا يمضي المسلم مع صفات ربه التي يعرفه بها الإسلام ؛ فيجد في كل صفة ما يؤنس قلبه ، وما يطمئن روحه ، وما يضمن معه الحماية والوقاية والعطف والرحمة والعزة والمنعة والاستقرار والسلام . .
كذلك يفيض السلام على قلب المسلم من صحة تصور العلاقة بين العبد والرب . وبين الخالق والكون . وبين الكون والإنسان . . فالله خلق هذا الكون بالحق ؛ وخلق كل شيء فيه بقدر وحكمة . وهذا الإنسان مخلوق قصدا ، وغير متروك سدى ، ومهيأ له كل الظروف الكونية المناسبة لوجوده ، ومسخر له ما في الأرض جميعا . وهو كريم على الله ، وهو خليفته في أرضه . والله معينه على هذه الخلافة . والكون من حوله صديق مأنوس ، تتجاوب روحه مع روحه ، حين يتجه كلاهما إلى الله ربه . وهو مدعو إلى هذا المهرجان الإلهي المقام في السماوات والأرض ليتملاه ويأنس به . وهو مدعو للتعاطف مع كل شيء ومع كل حي في هذا الوجودالكبير ، الذي يعج بالأصدقاء المدعوين مثله إلى ذلك المهرجان ! والذي يؤلفون كلهم هذا المهرجان !
والعقيدة التي تقف صاحبها أمام النبتة الصغيرة ، وهي توحي إليه أن له أجرا حين يرويها من عطش ، وحين يعينها على النماء ، وحين يزيل من طريقها العقبات . . هي عقيدة جميلة فوق أنها عقيدة كريمة . عقيدة تسكب في روحه السلام ؛ وتطلقه يعانق الوجود كله ويعانق كل موجود ؛ ويشيع من حوله الأمن والرفق ، والحب والسلام .
والاعتقاد بالآخرة يؤدي دوره الأساسي في إفاضة السلام على روح المؤمن وعالمه ؛ ونفي القلق والسخط والقنوط . . إن الحساب الختامي ليس في هذه الأرض ؛ والجزاء الأوفى ليس في هذه العاجلة . . إن الحساب الختامي هناك ؛ والعدالة المطلقة مضمونة في هذا الحساب . فلا ندم على الخير والجهاد في سبيله إذا لم يتحقق في الأرض أو لم يلق جزاءه . ولا قلق على الأجر إذا لم يوف في هذه العاجلة بمقاييس الناس ، فسوف يوفاه بميزان الله . ولا قنوط من العدل إذا توزعت الحظوظ في الرحلة القصيرة على غير ما يريد ، فالعدل لا بد واقع . وما الله يريد ظلما للعباد .
والاعتقاد بالآخرة حاجز كذلك دون الصراع المجنون المحموم الذي تداس فيه القيم وتداس فيه الحرمات . بلا تحرج ولا حياء . فهناك الآخرة فيها عطاء ، وفيها غناء ، وفيها عوض عما يفوت . وهذا التصور من شأنه أن يفيض السلام على مجال السباق والمنافسة ؛ وأن يخلع التجمل على حركات المتسابقين ؛ وأن يخفف السعار الذي ينطلق من الشعور بأن الفرصة الوحيدة المتاحة هي فرصة هذا العمر القصير المحدود !
ومعرفة المؤمن بأن غاية الوجود الإنساني هي العبادة ، وأنه مخلوق ليعبد الله . . من شأنها - ولا شك - أن ترفعه إلى هذا الأفق الوضيء . ترفع شعوره وضميره ، وترفع نشاطه وعمله ، وتنظف وسائله وأدواته . فهو يريد العبادة بنشاطه وعمله ؛ وهو يريد العبادة بكسبه وإنفاقه ؛ وهو يريد العبادة بالخلافة في الأرض وتحقيق منهج الله فيها . فأولى به ألا يغدر ولا يفجر ؛ وأولى به ألا يغش ولا يخدع ؛ وأولى به ألا يطغى ولا يتجبر ؛ وأولى به ألا يستخدم أداة مدنسة ولا وسيلة خسيسة . وأولى به كذلك ألا يستعجل المراحل ، وألا يعتسف الطريق ، وألا يركب الصعب من الأمور . فهو بالغ هدفه من العبادة بالنية الخالصة والعمل الدائب في حدود الطاقة . . ومن شأن هذا كله ألا تثور في نفسه المخاوف والمطامع ، وألا يستبد به القلق في أية مرحلة من مراحل الطريق . فهو يعبد في كل خطوة ؛ وهو يحقق غاية وجوده في كل خطرة ، وهو يرتقي صعدا إلى الله في كل نشاط وفي كل مجال .
وشعور المؤمن بأنه يمضي مع قدر الله ، في طاعة الله ، لتحقيق إرادة الله . . وما يسكبه هذا الشعور في روحه من الطمأنينة والسلام والاستقرار ؛ والمضي في الطريق بلا حيرة ولا قلق ولا سخط على العقبات والمشاق ؛ وبلا قنوط من عون الله ومدده ؛ وبلا خوف من ضلال القصد أو ضياع الجزاء . . ومن ثم يحس بالسلام في روحه حتى وهو يقاتل أعداء الله وأعداءه . فهو إنما يقاتل لله ، وفي سبيل الله ، ولإعلاء كلمة الله ؛ ولا يقاتل لجاه أو مغنم أو نزوة أو عرض ما من أعراض هذه الحياة .
كذلك شعوره بأنه يمضي على سنة الله مع هذا الكون كله . قانونه قانونه ، ووجهته وجهته . فلا صدام ولا خصام ، ولا تبديد للجهد ولا بعثرة للطاقة . وقوى الكون كله تتجمع إلى قوته ، وتهتدي بالنور الذي يهتدي به ، وتتجه إلى الله وهو معها يتجه إلى الله .
والتكاليف التي يفرضها الإسلام على المسلم كلها من الفطرة ولتصحيح الفطرة . لا تتجاوز الطاقة ؛ ولاتتجاهل طبيعة الإنسان وتركيبه ؛ ولا تهمل طاقة واحدة من طاقاته لا تطلقها للعمل والبناء والنماء ؛ ولا تنسى حاجة واحدة من حاجات تكوينه الجثماني والروحي لا تلبيها في يسر وفي سماحة وفي رخاء . . ومن ثم لا يحار ولا يقلق في مواجهة تكاليفه . يحمل منها ما يطيق حمله ، ويمضي في الطريق إلى الله في طمأنينة وروح وسلام .
والمجتمع الذي ينشئه هذا المنهج الرباني ، في ظل النظام الذي ينبثق من هذه العقيدة الجميلة الكريمة ، والضمانات التي يحيط بها النفس والعرض والمال . . كلها مما يشيع السلم وينشر روح السلام .
هذا المجتمع المتواد المتحاب المترابط المتضامن المتكافل المتناسق . هذا المجتمع الذي حققه الإسلام مرة في أرقى وأصفى صوره . ثم ظل يحققه في صور شتى على توالي الحقب ، تختلف درجة صفائه ، ولكنه يظل في جملته خيرا من كل مجتمع آخر صاغته الجاهلية في الماضي والحاضر ، وكل مجتمع لوثته هذه الجاهلية بتصوراتها ونظمها الأرضية !
هذا المجتمع الذي تربطه آصرة واحدة - آصرة العقيدة - حيث تذوب فيها الأجناس والأوطان ، واللغات والألوان ، وسائر هذه الأواصر العرضية التي لا علاقة لها بجوهر الإنسان . .
هذا المجتمع الذي يسمع الله يقول له : ( إنما المؤمنون إخوة ) . . والذي يرى صورته في قول النبي الكريم : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " . .
هذا المجتمع الذي من آدابه : ( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ) . . ( ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا ، إن الله لا يحب كل مختال فخور ) . . ( ادفع بالتي هي أحسن - فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) . . ( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن . ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب . بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان . ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ) . . ( ولا يغتب بعضكم بعضا . أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم ) . .
هذا المجتمع الذي من ضماناته : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) . . ( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ) . ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ) . . و . . " كل المسلم على المسلم حرام : دمه وعرضه وماله " . .
ثم هذا المجتمع النظيف العفيف الذي لا تشيع فيه الفاحشة ؛ ولا يتبجح فيه الإغراء ، ولا تروج فيه الفتنة ، ولا ينتشر فيه التبرج ، ولا تتلفت فيه الأعين على العورات ، ولا ترف فيه الشهوات على الحرمات ، ولا ينطلق فيه سعار الجنس وعرامة اللحم والدم كما تنطلق في المجتمعات الجاهلية قديما وحديثا . . هذا المجتمع الذي تحكمه التوجيهات الربانية الكثيرة ، والذي يسمع الله - سبحانه - يقول :
( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) . . ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ؛ وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) . . ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ، وأولئك هم الفاسقون ) ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ، ذلك أزكى لهم ، إن الله خبير بما يصنعون . وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ، وليضربن بخمرهن على جيوبهن ، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن ، أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن ، أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن ، أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء . ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ، وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) . . والذي يخاطب فيه نساء النبي - أطهر نساء الأرض في أطهر بيت في أطهر بيئة في أطهر زمان : ( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن . فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا . وقرن في بيوتكن ، ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، وأقمن الصلاة وآتين الزكاة ، وأطعن الله ورسوله . إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) . .
وفي مثل هذا المجتمع تأمن الزوجة على زوجها ، ويأمن الزوج على زوجته ، ويامن الأولياء على حرماتهم وأعراضهم ، ويأمن الجميع على أعصابهم وقلوبهم . حيث لا تقع العيون على المفاتن ، ولا تقود العيون القلوب إلى المحارم . فإما الخيانة المتبادلة حينذاك وإما الرغائب المكبوتة وأمراض النفوس وقلق الأعصاب . . بينما المجتمع المسلم النظيف العفيف آمن ساكن ، ترف عليه أجنحة السلم والطهر والأمان !
وأخيرا إنه ذلك المجتمع الذي يكفل لكل قادر عملا ورزقا ، ولكل عاجز ضمانة للعيش الكريم ، ولكل راغب في العفة والحصانة زوجة صالحة ، والذي يعتبر أهل كل حي مسؤولين مسؤولية جنائية لو مات فيهم جائع ؛ حتى ليرى بعض فقهاء الإسلام تغريمهم بالدية .
والمجتمع الذي تكفل فيه حريات الناس وكراماتهم وحرماتهم وأموالهم بحكم التشريع ، بعد كفالتها بالتوجيه الرباني المطاع . فلا يؤخذ واحد فيه بالظنة ، ولا يتسور على أحد بيته ، ولا يتجسس على أحد فيه متجسس ، ولا يذهب فيه دم هدرا والقصاص حاضر ؛ ولا يضيع فيه على أحد ماله سرقة أو نهبا والحدود حاضرة .
المجتمع الذي يقوم على الشورى والنصح والتعاون . كما يقوم على المساواة والعدالة الصارمة التي يشعر معها كل أحد أن حقه منوط بحكم شريعة الله لا بإرادة حاكم ، و لا هوى حاشية ، ولا قرابة كبير .
وفي النهاية المجتمع الوحيد بين سائر المجتمعات البشرية ، الذي لا يخضع البشر فيه للبشر . إنما يخضعون حاكمين ومحكومين لله ولشريعته ؛ وينفذون حاكمين ومحكومين حكم الله وشريعته . فيقف الجميع على قدم المساواة الحقيقية أمام الله رب العالمين وأحكم الحاكمين ، في طمأنينة وفي ثقة وفي يقين . .
هذه كلها بعض معاني السلم الذي تشير إليه الآية وتدعو الذين آمنوا للدخول فيه كافة . ليسلموا أنفسهم كلها لله ؛ فلا يعود لهم منها شيء ، ولا يعود لنفوسهم من ذاتها حظ ؛ إنما تعود كلها لله في طواعية وفي انقيادوفي تسليم . .
ولا يدرك معنى هذا السلم حق إدراكه من لا يعلم كيف تنطلق الحيرة وكيف يعربد القلق في النفوس التي لا تطمئن بالإيمان ، في المجتمعات التي لا تعرف الإسلام ، أو التي عرفته ثم تنكرت له ، وارتدت إلى الجاهلية ، تحت عنوان من شتى العنوانات في جميع الأزمان . . هذه المجتمعات الشقية الحائرة على الرغم من كل ما قد يتوافر لها من الرخاء المادي والتقدم الحضاري ، وسائر مقومات الرقي في عرف الجاهلية الضالة التصورات المختلة الموازين .
وحسبنا مثل واحد مما يقع في بلد أوربي من أرقى بلاد العالم كله وهو " السويد " . حيث يخص الفرد الواحد من الدخل القومي ما يساوي خمسمائة جنيه في العام . وحيث يستحق كل فرد نصيبه من التأمين الصحي وإعانات المرض التي تصرف نقدا والعلاج المجاني في المستشفيات . وحيث التعليم في جميع مراحله بالمجان ، مع تقديم إعانات ملابس وقروض للطلبة المتفوقين وحيث تقدم الدولة حوالي ثلاثمائة جنيه إعانة زواج لتأثيث البيوت . . وحيث وحيث من ذلك الرخاء المادي والحضاري العجيب . .
ولكن ماذا ؟ ماذا وراء هذا الرخاء المادي والحضاري وخلو القلوب من الإيمان بالله ؟
إنه شعب مهدد بالانقراض ، فالنسل في تناقص مطرد بسبب فوضى الاختلاط ! والطلاق بمعدل طلاق واحد لكل ست زيجات بسبب انطلاق النزوات وتبرج الفتن وحرية الاختلاط ! والجيل الجديد ينحرف فيدمن على المسكرات والمخدرات ؛ ليعوض خواء الروح من الإيمان وطمأنينة القلب بالعقيدة . والأمراض النفسية والعصبية والشذوذ بأنواعه تفترس عشرات الآلاف من النفوس والأرواح والأعصاب . . ثم الانتحار . . والحال كهذا في أمريكا . . والحال أشنع من هذا في روسيا . .
إنها الشقوة النكدة المكتوبة على كل قلب يخلو من بشاشة الإيمان وطمأنينة العقيدة . فلا يذوق طعم أسلم الذي يدعى المؤمنون ليدخلوا فيه كافة ، ولينعموا فيه بالأمن والظل والراحة والقرار :
( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة . . ولا تتبعوا خطوات الشيطان . إنه لكم عدو مبين ) . .
ولما دعا الله الذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة . . حذرهم أن يتبعوا خطوات الشيطان . فإنه ليس هناك إلا اتجاهان اثنان . إما الدخول في السلم كافة ، وإما اتباع خطوات الشيطان . إما هدى وأما ضلال . إما إسلام وإما جاهلية . إما طريق الله وإما طريق الشيطان . وإما هدى الله وإما غواية الشيطان . . وبمثل هذا الحسم ينبغي أن يدرك المسلم موقفه ، فلا يتلجلج ولا يتردد ولا يتحير بين شتى السبل وشتى الاتجاهات .
إنه ليست هنالك مناهج متعددة للمؤمن أن يختار واحدا منها ، أو يخلط واحدا منها بواحد . . كلا ! إنه من لا يدخل في السلم بكليته ، ومن لا يسلم نفسه خالصة لقيادة الله وشريعته ، ومن لا يتجرد من كل تصور آخر ومن كل منهج آخر ومن كل شرع آخر . . إن هذا في سبيل الشيطان ، سائر على خطوات الشيطان . .
ليس هنالك حل وسط ، ولا منهج بين بين ، ولا خطة نصفها من هنا ونصفها من هناك ! إنما هناك حق وباطل . هدى وضلال . إسلام وجاهلية . منهج الله أو غواية الشيطان . والله يدعو المؤمنين في الأولى إلى الدخول في السلم كافة ؛ ويحذرهم في الثانية من اتباع خطوات الشيطان . ويستجيش ضمائرهم ومشاعرهم ، ويستثير مخاوفهم بتذكيرهم بعداوة الشيطان لهم ، تلك العداوة الواضحة البينة ، التي لا ينساها إلا غافل . والغفلة لا تكون مع الإيمان .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَآفّةً وَلاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مّبِينٌ }
اختلف أهل التأويل في معنى السلم في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معناه : الإسلام . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجل : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ قال : ادخلوا في الإسلام .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ قال : ادخلوا في الإسلام .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ كافّةً قال : السلم : الإسلام .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن النضر بن عربي ، عن مجاهد : ادخلوا في الإسلام .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ قال : السلم : الإسلام .
حدثني موسى بن هارون ، قال : أخبرنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ يقول : في الإسلام .
حدثت عن الحسين بن فرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ : في الإسلام .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ادخلوا في الطاعة . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ يقول : ادخلوا في الطاعة .
وقد اختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء أهل الحجاز : «ادْخُلُوا فِي السّلْمِ » بفتح السين . وقرأته عامة قراء الكوفيين بكسر السين . فأما الذين فتحوا السين من «السلم » ، فإنهم وجهوا تأويلها إلى المسالمة ، بمعنى : ادخلوا في الصلح والمسالمة وترك الحرب وإعطاء الجزية . وأما الذين قرءوا ذلك بالكسر من السين فإنهم مختلفون في تأويله فمنهم من يوجهه إلى الإسلام ، بمعنى ادخلوا في الإسلام كافة ، ومنهم من يوجهه إلى الصلح ، بمعنى : ادخلوا في الصلح ، ويستشهد على أن السين تكسر ، وهي بمعنى الصلح بقول زهير بن أبي سلمى :
وقدْ قُلْتُما إنْ نُدْركِ السّلْمَ وَاسِعا *** بِمَالٍ وَمَعُروفٍ مِنَ الأمْرِ نَسْلمِ
وأولى التأويلات بقوله : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ قول من قال : معناه : ادخلوا في الإسلام كافة .
وأما الذي هو أولى القراءتين بالصواب في قراءة ذلك ، فقراءة من قرأ بكسر السين لأن ذلك إذا قرىء كذلك وإن كان قد يحتمل معنى الصلح ، فإن معنى الإسلام : ودوام الأمر الصالح عند العرب ، أغلب عليه من الصلح والمسالمة ، وينشد بيت أخي كندة :
دَعَوْتُ عَشِيرَتي للسّلْمِ لَمّا *** رأيْتُهُمْ تَوَلّوْا مُدْبِرِينا
بكسر السين ، بمعنى : دعوتهم للإسلام لما ارتدوا ، وكان ذلك حين ارتدت كندة مع الأشعث بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد كان أبو عمرو بن العلاء يقرأ سائر ما في القرآن من ذكر السلم بالفتح سوى هذه التي في سورة البقرة ، فإنه كان يخصها بكسر سينها توجيها منه لمعناها إلى الإسلام دون ما سواها .
وإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل في قوله : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ وصرفنا معناه إلى الإسلام ، لأن الآية مخاطب بها المؤمنون ، فلن يعدو الخطاب إذ كان خطابا للمؤمنين من أحد أمرين ، إما أن يكون خطابا للمؤمنين بمحمد المصدّقين به وبما جاء به ، فإن يكن ذلك كذلك ، فلا معنى أن يقال لهم وهم أهل الإيمان : ادخلوا في صلح المؤمنين ومسالمتهم ، لأن المسالمة والمصالحة إنما يؤمر بها من كان حربا بترك الحرب . فأما الموالي فلا يجوز أن يقال له : صالح فلانا ، ولا حرب بينهما ولا عداوة . أو يكون خطابا لأهل الإيمان بمن قبل محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء المصدقين بهم ، وبما جاءوا به من عند الله المنكرين محمدا ونبوّته ، فقيل لهم : ادخلوا في السلم يعني به الإسلام لا الصلح . لأن الله عز وجل إنما أمر عباده بالإيمان به وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، وإلى ذلك دعاهم دون المسالمة والمصالحة بل نهى نبيه صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال عن دعاء أهل الكفر إلى الإسلام ، فقال : فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلى السّلْمِ وأنْتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللّهُ مَعَكُمْ وإنما أباح له صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال إذا دعوه إلى الصلح ابتداء المصالحة ، فقال له جل ثناؤه : وَإنْ جَنَحُوا للسّلْمِ فاجنَحْ لَهَا فأما دعاؤهم إلى الصلح ابتداء فغير موجود في القرآن ، فيجوز توجيه قوله : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ إلى ذلك .
فإن قال لنا قائل : فأيّ هذين الفريقين دعي إلى الإسلام كافة ؟ قيل قد اختلف في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : دعي إليه المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وما جاء به .
وقال آخرون : قيل : دعي إليه المؤمنون بمن قبل محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء المكذبون بمحمد .
فإن قال : فما وجه دعاء المؤمن بمحمد وبما جاء به إلى الإسلام ؟ قيل : وجه دعائه إلى ذلك الأمر له بالعمل بجميع شرائعه ، وإقامة جميع أحكامه وحدوده ، دون تضييع بعضه والعمل ببعضه . وإذا كان ذلك معناه ، كان قوله كافّةً من صفة السلم ، ويكون تأويله : ادخلوا في العمل بجميع معاني السلم ، ولا تضيعوا شيئا منه يا أهل الإيمان بمحمد وما جاء به . وبنحو هذا المعنى كان يقول عكرمة في تأويل ذلك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة قوله : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ كافّةً قال : نزلت في ثعلبة وعبد الله بن سلام وابن يامين وأسد وأسيد ابني كعب وشعبة بن عمرو وقيس بن زيد ، كلهم من يهود ، قالوا : يا رسول الله يوم السبت يوم كنا نعظمه فدعنا فلنسبت فيه ، وإن التوراة كتاب الله ، فدعنا فلنقم بها بالليل فنزلت : يَا أيّها الّذينَ آمَنُوا ادْخُلُوا في السّلْمِ كافةً وَلا تَتّبِعُوا خُطُوَاتِ الشّيْطانِ .
فقد صرّح عكرمة بمعنى ما قلنا في ذلك من أن تأويل ذلك دعاء للمؤمنين إلى رفض جميع المعاني التي ليست من حكم الإسلام ، والعمل بجميع شرائع الإسلام ، والنهي عن تضييع شيء من حدوده .
وقال آخرون : بل الفريق الذي دعي إلى السلم فقيل لهم ادخلوا فيه بهذه الآية هم أهل الكتاب ، أمروا بالدخول في الإسلام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس في قوله : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ كافّةً يعني أهل الكتاب .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قول الله عزّ وجلّ : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ كافّةً قال : يعني أهل الكتاب .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال إن الله جل ثناؤه أمر الذين آمنوا بالدخول في العمل بشرائع الإسلام كلها ، وقد يدخل في الذين آمنوا المصدقون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به ، والمصدّقون بمن قبله من الأنبياء والرسل ، وما جاءوا به ، وقد دعا الله عز وجل كلا الفريقين إلى العمل بشرائع الإسلام وحدوده ، والمحافظة على فرائضه التي فرضها ، ونهاهم عن تضييع شيء من ذلك ، فالآية عامة لكل من شمله اسم الإيمان ، فلا وجه لخصوص بعض بها دون بعض .
وبمثل التأويل الذي قلنا في ذلك كان مجاهد يقول .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ كافّةً قال : ادخلوا في الإسلام كافة ، ادخلوا في الأعمال كافة .
القول في تأويل قوله تعالى : كافّةً يعني جل ثناؤه كافّةً عامة جميعا . كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : في السّلْمِ كافّةً قال : جميعا .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فِي السّلْمِ كافّةً قال : جميعا .
وحدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع فِي السّلْمِ كافّةً قال : جميعا ، وعن أبيه ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع بن الجرّاح ، عن النضر ، عن مجاهد ، ادْخُلُوا في الإسلام جميعا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : كافّةً : جميعا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كافّةً جميعا ، وقرأ : وَقاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافّةً كمَا يُقاتِلُونَكُمْ كافةً : جميعا .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ كافّةً قال : جميعا .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَتّبِعُوا خُطُوَاتِ الشّيْطانِ إنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مُبِينٌ .
يعني جل ثناؤه بذلك : اعملوا أيها المؤمنون بشرائع الإسلام كلها ، وادخلوا في التصديق به قولاً وعملاً ، ودعوا طرائق الشيطان وآثاره أن تتبعوها فإنه لكم عدوّ مبين لكم عداوته . وطريق الشيطان الذي نهاهم أن يتبعوه هو ما خالف حكم الإسلام وشرائعه ، ومنه تَسْبِيتُ السبت وسائر سنن أهل الملل التي تخالف ملة الإسلام . وقد بينت معنى الخطوات بالأدلة الشاهدة على صحته فيما مضى ، فكرهت إعادته في هذا المكان .