ف { قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً } ماء لأن القوارير شفافة ، [ ص 606 ] يرى الماء الذي تحتها كأنه بذاته يجري ليس دونه شيء ، { وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا } للخياضة وهذا أيضا من عقلها وأدبها ، فإنها لم تمتنع من الدخول للمحل الذي أمرت بدخوله لعلمها أنها لم تستدع إلا للإكرام وأن ملك سليمان وتنظيمه قد بناه على الحكمة ولم يكن في قلبها أدنى شك من حالة السوء بعد ما رأت ما رأت .
فلما استعدت للخوض قيل لها : { إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ } أي : مملس { مِنْ قَوَارِيرَ } فلا حاجة منك لكشف الساقين . فحينئذ لما وصلت إلى سليمان وشاهدت ما شاهدت وعلمت نبوته ورسالته تابت ورجعت عن كفرها و { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .
فهذا ما قصه الله علينا من قصة ملكة سبأ وما جرى لها مع سليمان ، وما عدا ذلك من الفروع المولدة والقصص الإسرائيلية فإنه لا يتعلق بالتفسير لكلام الله وهو من الأمور التي يقف الجزم بها ، على الدليل المعلوم عن المعصوم ، والمنقولات في هذا الباب كلها أو أكثرها ليس كذلك ، فالحزم كل الحزم ، الإعراض عنها وعدم إدخالها في التفاسير . والله أعلم .
ثم ختم - سبحانه - هذه القصة ببيان ما فاجأها به سليمان ، لتزداد يقينا بوحدانية الله - تعالى - ، وبعظم النعم التى أعطاها - سبحانه - له فقال : { قِيلَ لَهَا ادخلي الصرح فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا } .
والصرح : القصر ويطلق على كل بناء مرتفع . ومنه قوله - تعالى - : { وَقَالَ فَرْعَوْنُ ياهامان ابن لِي صَرْحاً لعلي أَبْلُغُ الأسباب } ويطلق - أيضا - على صحن الدار وساحته . يقال : هذه صرحة الدار . أى : ساحتها وعرصتها .
وكان سليمان - عليه السلام - قد بنى هذا الصرح ، وجعل بلاطه من زجاج نقى صاف كالبلور . بحيث يرى الناظر ما يجرى تحته من ماء .
أى : قال سليمان لملكة سبأ بعد أن سألها : أهكذا عرشك ، وبعد أن أجابته بما سبق بيانه . قال لها : ادخلى هذا القصر ، فلما رأت هذا الصرح وما عليه من جمال وفخامة ، حسبته لجة ، أى : ظنته ماء غزيرا كالبحر .
{ وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا } لئلا تبتل بالماء أذيال ثيابها .
وهنا قال سليمان مزيلا لما اعتراها من دهشة : { إِنَّهُ } أى : ما حسبته لجة { صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ } أى : قصر مملس من زجاج لا يحجب ما وراءه .
فقوله { مُّمَرَّدٌ } بمعنى مملس ، مأخوذ من قولهم : شجرة مرداء إذا كانت عارية من الورق ، وغلام أمرد ، إذا لم يكن فى وجهه شعر والتمريد فى البناء ، معناه : التمليس والتسوية والنعومة .
والقوارير : جمع قارورة ، وهى إناء من زجاج ، وتطلق القارورة على المرأة ، لأن الولد يقر فى رحمها ، أو تشبيها لها بآنية الزجاج من حيث ضعفها ، ومنه الحديث الشريف : " رفقا بالقوارير " والمراد بالقوارير هنا . المعنى الأول .
ثم حكى - سبحانه - ما قالته بلقيس بعد أن رأت جانبا من عداب صنع الله فقال : { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } أى : بسبب عبادى لغيرك قبل هذا الوقت . . . { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ } طائعة مختارة ، وإسلامى إنما هو { لِلَّهِ رَبِّ العالمين } وليس لأحد سواه .
وبعد ، فهذا تفسير محرر لتلك القصة ، وقد أعرضنا عن كثير من الإسرائيليات التى حشا بها بعض المفسرين تفاسيرهم ، عند حديثهم عن الآيات التى وردت فى هذه القصة ، ومن ذلك ما يتعلق بسليمان - عليه السلام - وبجنوده من الطير . وبمحاورة النملة له ، وبالهدية التى أرسلتها ملكة سبأ إليه ، وبما قالته الشياطين لسليمان عن هذه المرأة . . الخ وقد اشتملت هذه القصة على عبر وعظات وأحكام وآداب ، من أهمها ما يأتى :
1 - أن الله - تعالى - قد أعطى - بفضله وإحسانه - داود وسليمان - عليهما السلام - نعما عظيمة ، على رأسها نعمة النبوة ، والملك ، والعلم النافع .
وأنهما قد قابلا هذه النعم بالشكر لله - تعالى - واستعمالها فيما خلقت له .
ونرى ذلك فى قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المؤمنين } وفى قوله - تعالى - : { رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين } وفى قوله - سبحانه - : { هذا مِن فَضْلِ رَبِّي ليبلوني أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } 2 - أن سليمان - عليه السلام - قد أقام دولته على الإيمان بالله - تعالى - وعلى العلم النافع ، وعلى القوة العادلة .
أما الإيمان بالله - تعالى - وإخلاص العبادة له - سحبانه - ، فهو كائن له - عليه السلام - بمقتضى نبوته التى اختاره الله لها ، وبمقتضى دعوته إلى وحدانية الله - عز وجل - فقد حكى القرآن عنه أنه قال فى رسالته إلى ملكة سبأ : { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ }
وأما العلم النافع ، فيكفى أن القصة الكريمة قد افتتحت بقوله - تعالى - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً . . } واشتملت على قوله - سبحانه - : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير . . } وعلى قوله - عز و جل - : { قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } وأما القوة ، فنراها فى قوله - تعالى - : { وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجن والإنس والطير فَهُمْ يُوزَعُونَ } وفى قوله - سبحانه { ارجع إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ } 3 - أن سليمان عليه السلام كانت رسالته الأولى نشر الإيمان بالله - تعالى - فى الأرض ، وتطهيرها من كل معبود سواه .
والدليل على ذلك أن الهدهد عندما أخبره بحال الملكة التى كانت هى وقومها يعبدون الشمس من دون الله . . .
ما كان من سليمان - عليه السلام - إلا أن حمله كتابا قويا بليغا يأمرهم فيه بترك التكبر والغرور ، وبإسلام وجوهمم لله وحده : { أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } 4 - أن سليمان - عليه السلام - كان يمثل الحاكم اليقظ المتنبه لأحوال رعيته ، حيث يعرف شئونها الصغيرة والكبيرة ، ويعرف الحاضر من أفرادها والغائب ، حتى ولو كان الغائب طيرا صغيرا ، من بين آلاف الخلائق الذين هم تحت قيادته .
ولقد صور القرآن ما كان عليه سليمان - عليه السلام - من يقظة ودراية بأفراد رعيته أبدع تصوير فقال : { وَتَفَقَّدَ الطير فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين } قال الإمام القرطبى : رحمه الله - : فى هذه الآية دليل على تفقد الإمام أحوال رعيته ، والمحافظة عليهم ، فانظر إلى الهدهد مع صغره ، كيف لم يَخْفَ على سليمان حاله ، فكيف بعظام الملك . .
ثم يقول - رحمه الله - على سبيل التفجع والشكوى عن حال الولاة فى عهده : فما ظنك بوال تذهب على يديه البلدان ، وتضيع الرعية ويضيع الرعيان . . . ورحم الله القائل :
وهل أفسد الدينَ إلا الملوكُ . . . وأحبارُ سوءٍ ورهبانُها
5 - أن سليمان - عليه السلام - كان بجانب تعهده لشئون رعيته ، يمثل الحاكم الحازم العادل ، الذى يحاسب المهمل ، ويتوعد المقصر ، ويعاقب من يستحق العقاب ، وفى الوقت نفسه يقبل عذر المعتذر متى اعتذر عذرا مشروعا ومقنعا .
انظر إليه وهو يقول - كما حكى القرآن عنه - عندما تفقد الهدهد فلم يجده : { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } إن الجيوش الجرارة التى تحت قيادة سليمان - عليه السلام - لا تؤثر فيها غياب هدهد منها . . . ولكن سليمان القائد الحازم ، كأنه يريد أن يعلم جنوده ، أن لكل جندى رسالته التى يجب عليه أن يؤديها على الوجه الأكمل سواء أكان هذا الجندى صغيرا أم كبيرا ، وأ ، من فرط فى الأمور الصغيرة ، لا يستبعد منه أن يفرط فى الأمور الكبيرة .
6 - أن الجندى الصغير فى الأمة التى يظلها العدل والحرية والأمان . . . لا يمنعه صغره من أن يرد على الحاكم الكبير ، بشجاعة وقوة . . .
انظر إلى الهدهد - مع صغره - يحكى عن القرآن ، أنه رد على نبى الله سليمان الذى آتاه الله ملكا لا ينبغى لأحد من بعده بقوله : { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } ونجد سليمان - عليه السلام - لا يؤاخذه على هذا القول ، بل يضع قوله موضع التحقيق والاختبار فيقول له : { قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين } وهكذا الأمم العاقلة الرشيدة ، لا يهان فيها الصغير ، ولا يظلم فيها الكبير .
7 - أن حكمة الله - تعالى - قد اقتضت أن تتألف الأمم من حاكمين ومحكومين ، وأن كل فريق له حقوق وعليه واجبات ، وأن الأمم لا تصلح بدون حاكم يحكمها ويرعى شئونها ، ويحق الحق ويبطل الباطل .
قال القرطبى : عند تفسيره لقوله - تعالى - : { وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجن والإنس والطير فَهُمْ يُوزَعُونَ } فى الآية دليل على اتخاذ الإمام والحكام وَزَعةً - أى ولاة ، أو قضاة - يكفون الناس ويمنعونهم من تطاول بعضهم على بعض . . .
قال ابن عون : سمعت الحسن يقول وهو فى مجلس قضائه : والله ما يصلح هؤلاء الناس إلا وزعة .
ومن الأقوال الحكيمة لأمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضى الله عنه - " إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " .
8 - أن الحاكم العاقل هو الذى يستشير من هو أهل للاستشارة فى الأمور التى تهم الأمة . فها هى ذى ملكة سبأ عندما جاءها كتاب سليمان - عليه السلام - جمعت وجوه قومها ، وقالت لهم - كما حكى القرآن عنها : { ياأيها الملأ أَفْتُونِي في أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حتى تَشْهَدُونِ . . } قال القرطبى : وفى هذه الآية دليل على صحة المشاورة . . . وقد قال - الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر } وقد مدح الله الفضلاء بقوله : { وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ } والمشاورة من الأمر القديم وخاصة فى الحرب ، فهذه بلقيس امرأة جاهلية كانت تعبد الشمس من دون الله قالت : { ياأيها الملأ أَفْتُونِي في أَمْرِي . . } لتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم . وربما كان فى استبدادها برأيها وهن فى طاعتها ، وكان فى مشاورتهم وأخذ رأيهم عون على ما تريده من شوكتهم ، وشدة مدافعتهم ، ألا ترى إلى قولهم فى جوابهم : { نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ والأمر إِلَيْكِ فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ . . } 9 - أن الهداية إذا لمس المهدى إليه من ورائها ، عدم الإخلاص فى إهدائها . وأن المقصد منها صرفه عن حق يقيمه ، أو عن باطل يزيله .
. . فإن الواجب عليه أن يرد هذه الهدية لصاحبها . وأن يمتنع عن قبولها . . .
ألا ترى إلى سليمان - عليه السلام - قد رد الهدية الثمينة التى أهدتها بلقيس إليه ، حين أحس أن من وراء هذه الهدية شيئا . يتنافى مع تبليغ وتنفيذ رسالة الله - تعالى - التى أمره بتبليغها وتنفيذها ، ألا وهى : الأمر بإخلاص العبادة لله - تعالى - والنهى عن الإشراك به ، وبلقيس إنما كانت تقصد بهديتها ، اختبار سليمان ، أنبى هو أم ملك ، كما سبق أن أشرنا .
لذا وجدنا القرآن يحكى عن سليمان - عليه السلم - أنه رد هذه الهدية مع من جاءوا بها ، وقال : { أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ الله خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } 10 - أن ملكة سبأ دل تصرفها على أنها كانت ملكة عاقبة رشيدة ، حكيمة ، فقد استشارت خاصتها فى كتاب سليمان - عليه السلام - ، ولوحت لهم بقوته وبما سيترتب على حره ، وآثرت أن تقدم له هدية على سبيل الامتحان ، واستحبت المسالمة على المحاربة . . . وكان عندها الاستعداد لقبول الحق والدخول فيه ، وما أخرها عن المسارعة إليه إلا لكونها كانت من قوم كافرين .
وعندما التقت بسليمان ، وانكشفت لها الحقائق سارعت إلى الدخول فى الدين الحق ، وقالت : { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين } .
هذه بعض العبر والعظات التى تؤخذ من هذه القصة . . . ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك جانبا من قصة صالح - عليه السلام - مع قومه ، فقال - تعالى - : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ . . . } .
القول في تأويل قوله تعالى : حسر سورة النمل ) { قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصّرْحَ فَلَمّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنّهُ صَرْحٌ مّمَرّدٌ مّن قَوارِيرَ قَالَتْ رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ } .
ذُكر أن سليمان لما أقبلت صاحبة سبأ تريده ، أمر الشياطين فبنوا له صرحا ، وهو كهيئة السطح من قوارير ، وأجرى من تحته الماء ليختبر عقلها بذلك ، وفهمها على نحو الذي كانت تفعل هي من توجيهها إليه الوصائف والوصفاء ليميز بين الذكور منهم والإناث معاتبة بذلك كذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : أمر سليمان بالصرح ، وقد عملته له الشياطين من زجاج كأنه الماء بياضا ، ثم أرسل الماء تحته ، ثم وضع له فيه سريره ، فجلس عليه ، وعكفت عليه الطير والجنّ والإنس ، ثم قال : ادْخُلِي الصّرْحَ ليريها مُلكا هو أعزّ من مُلكها ، وسلطانا هو أعظم من سلطانها فَلَما رأَتْهُ حَسِبَتْهُ لّجةً وكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها لا تشكّ أنه ماء تخوضه ، قيل لها : ادخلي إنه صرح ممرّد من قوارير فلما وقفت على سليمان دعاها إلى عبادة الله وعاتبها في عبادتها الشمس دون الله ، فقالت بقول الزنادقة ، فوقع سليمان ساجدا إعظاما لما قالت ، وسجد معه الناس وسقط في يديها حين رأت سليمان صنع ما صنع فلما رفع سليمان رأسه قال : ويحكِ ماذا قلت ؟ قال : وأُنْسِيت ما قالت : ، فقالت : رَبّ إنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وأسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانِ لله رَبّ العالَمِينَ وأسلمت ، فحسُن إسلامها .
وقيل : إن سليمان إنما أمر ببناء الصرح على ما وصفه الله ، لأن الجنّ خافت من سليمان أن يتزوّجها ، فأرادوا أن يزهدوه فيها ، فقالوا : إن رجلها رجل حمار ، وإن أمها كانت من الجنّ ، فأراد سليمان أن يعلم حقيقة ما أخبرته الجنّ من ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب القرظيّ ، قال : قالت الجنّ لسليمان تزهّدهِ في بِلقيس : إن رجلها رجل حمار ، وإن أمها كانت من الجنّ فأمر سليمان بالصرح ، فعُمل ، فسجن فيه دواب البحر : الحِيتان ، والضفادع فلما بصرت بالصرح قالت : ما وجد ابن داود عذابا يقتلني به إلا الغرق فَحَسِبَتْهُ لُجّةً وكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قال : فإذا ( هي ) أحسن الناس ساقا وقدما . قال : فضنّ سليمان بساقها عن الموسى ، قال : فاتّخذت النّورة بذلك السبب .
وجائز عندي أن يكون سليمان أمر باتخاذ الصرح للأمرين الذي قاله وهب ، والذي قاله محمد بن كعب القرضيّ ، ليختبر عقلها ، وينظر إلى ساقها وقدمها ، ليعرف صحة ما قيل له فيها .
وكان مجاهد يقول فيما ذكر عنه في معنى الصرح ما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : الصرْحَ قال : بركة من ماء ضرب عليها سليمان قوارير ألبسها . قال : وكانت بلقيس هلباء شعراء ، قدمها كحافر الحمار ، وكانت أمها جنية .
حدثني أحمد بن الوليد الرملي ، قال : حدثنا هشام بن عمار ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، عن سعيد بن بشير ، عن قَتادة ، عن النضر بن أنس ، عن بشير بن نهيك ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كانَ أحَدُ أبَوَيْ صَاحِبَةِ سَبإٍ جِنّبّا » .
قال : ثنا صفوان بن صالح ، قال : ثني الوليد ، عن سعيد بن بشير ، عن قَتادة ، عن بشير بن نهيك ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولم يذكر النضر بن أنس .
وقوله : فَلَما رأتْهُ حَسِبَتْهُ لُجةً يقول : فلما رأت المرأة الصرح حسبته لبياضه واضطراب دواب الماء تحته لجة بحر كشفت عن ساقيها لتخوضه إلى سليمان . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة قِيل لَهَا ادْخُلِي الصرْحَ فَلَمّا رأتْهُ حَسِبَتْهُ لُجّةً قال : وكان من قوارير ، وكان الماء من خلفه فحسبته لجة .
قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله حَسِبَتْهُ لُجّةً قال : بحرا .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا ابن سوار ، قال : حدثنا روح بن القاسم ، عن عطاء بن السائب ، عن مجاهد ، في قوله : وكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها فإذا هما شعراوان ، فقال : ألا شيء يذهب هذا ؟ قالوا : الموسى ، قال : لا ، الموسى له أثر ، فأمر بالنّورة فصنعت .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا حفص ، عن عمران بن سليمان ، عن عكرمة وأبي صالح قالا : لما تزوّج سليمان بلقيس قالت له : لم تمسني حديدة قطّ قال سليمان للشياطين : انظروا ما يُذهب الشعر ؟ قالوا : النّورة ، فكان أوّل من صنع النورة .
وقوله : إنّهُ صَرْحٌ مُمَرّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ يقول جلّ ثناؤه : قال سليمان لها : إن هذا ليس ببحر ، إنه صرح ممّرد من قوارير ، يقول : إنما هو بناء مبنيّ مشيد من قوارير . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، مُمَرّدً قال : مشيد .
وقوله : قالَتْ رَبّ إنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وأسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ . . . الاَية ، يقول تعالى ذكره : قالت المرأة صاحبة سبأ : ربّ إني ظلمت نفسي في عبادتي الشمس ، وسجودي لما دونك وأسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلّهِ تقول : وانقدت مع سليمان مذعنة الله بالتوحيد ، مفردة له بالألوهة والربوبية دون كلّ من سواه . وكان ابن زيد يقول في ذلك ما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في حَسِبَتْهُ لُجّةً قال : إنّهُ صَرْحٌ مُمَرّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ فعرفت أنها قد غلبت قالَتْ رَبّ إني ظَلَمْتُ نَفْسِي ، وأسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلّهِ رَبّ العالَمِينَ .