فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثۡبِيتٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ كَمَثَلِ جَنَّةِۭ بِرَبۡوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٞ فَـَٔاتَتۡ أُكُلَهَا ضِعۡفَيۡنِ فَإِن لَّمۡ يُصِبۡهَا وَابِلٞ فَطَلّٞۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ} (265)

ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فئاتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير 265

( ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله ) ابتغى معناه طلب ومرضاة مصدر رضي يرضى ( وتثبيتا ) معناه يثبتون ( من أنفسهم ) ببذل أموالهم على الإيمان وسائر العبادات رياضة لها وتدريبا وتمرينا أو يكون التثبيت بمعنى التصديق أي تصديقا للاسلام ناشئا من جهة أنفسهم .

وقد اختلف السلف في معنى هذا الحرف فقال الحسن ومجاهد معناه أنهم يثبتون أن يضعوا صدقاتهم ، وقال بعضهم : معناه تصديقا ويقينا ، روي ذلك عن ابن عباس ، وقيل معناه احتسابا من أنفسهم ؛ قاله قتادة ، وقيل معناه أن أنفسهم لها بصائر فهي تثبتهم على الانفاق في طاعة الله تثبيتا قاله الشعبي والسدي وابن زيد وأبو صالح ، وهذا أرجح مما قبله ، يقال ثبت فلانا في هذا الأمر أثبته تثبيتا أي صححت عزمه .

( كمثل جنة بربوة ) الجنة البستان وهي أرض تنبت فيها الأشجار حتى تغطيها ، مأخوذ من لفظ الجن والجنين لاستتارها ، وقال أبو السعود الجنة تطلق على الأشجار الملتفة المتكاثفة وعلى الأرض المشتملة عليها ، والأول أولى ، لأجل قوله بربوة ، والربوة بالحركات الثلاث المكان المرتفع ارتفاعا يسيرا ، وإنما خص الربوة لأن نباتها يكون أحسن من غيره مع كونه لا يصطلمه البرد في الغالب لجودته وكرمه ولطافة هوائه بهبوب الرياح الملطفة له .

قال الطبري : وهي أرض الحزن التي تستكثر العرب من ذكرها ، واعترضه ابن عطية فقال : إن رياض الحزن منسوبة إلى نجد لأنها خير من رياض تهامة ونبات نجد أعطر ونسيمه أبرد وأورق ، ونجد يقال لها حزن وليست هذه المذكورة هنا من ذلك .

ولفظ الربوة مأخوذة من ربا يربو إذا زاد ، وقال الخليل : الربوة أرض مرتفعة طيبة وقيل هي الأرض المستوية الجيدة الطيبة إذا أصابها المطر انتفخت وربت وكثر ريعها وحملت أشجارها .

( أصابها وابل ) قال الخليل : الوابل المطر الشديد يقال وبلت السماء تبل والأرض موبولة ، قال الأخفش : ومنه قوله تعالى ( أخذ وبيلا ) أي شديدا ، وضرب وبيل وعذاب وبيل ، قال بعضهم .

ما روضة من رياض الحزن معشبة خضراء جاد عليها وابل هطل أراد بالحزن ما غلظ وارتفع من الأرض ( فآتت أكلها ) بضم الهمزة الثمرة التي تؤكل كقوله تعالى : ( تؤتي أكلها كل حين ) وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص كسرج الفرس وباب الدار ( ضعفين ) أي مثل ما كانت تثمر بسبب الوابل ، فالمراد بالضعف المثل وقيل أربعة أمثال .

( فإن لم يصبها وابل فطل ) أي فإن الطل يكفيها وهو الطش أي المطر الضعيف . الخفيف المستدق القطر ، قال المبرد وغيره تقديره فطل يكفيها ، وقال الزجاج : تقديره فالذي يصيبها طل والمراد أن الطل ينوب مناب الوابل في إخراج الثمرة ضعفين ، وقال قوم : الطل الندى ، وفي الصحاح الطل أضعف المطر والجمع أطلال ، قال الماوردي : وزرع الطل أضعف من زرع المطر .

والمعنى أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله لا تضيع بحال وإن كانت متفاوتة ويجوز أن يعتبر التمثيل ما بين حالهم باعتبار ما صدر عنهم من النفقة الكثيرة والقليلة ، وبين الجنة المعهودة باعتبار ما أصابها من المطر الكثير والقليل ، فكما أن كل واحد من المطرين يضاعف أكلها فكذلك نفقتهم جلت أو قلت بعد أن يطلب بها وجه الله زاكية زائدة في أجورهم .

( والله بما تعملون ) أي عملا ظاهرا قلبيا ( بصير ) لا يخفى عليه من شئ ، وفي هذا ترغيب لهم بالإخلاص مع ترهيب من الرياء ونحوه فهو وعد ووعيد .