فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{لَّـٰكِنِ ٱلرَّـٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ مِنۡهُمۡ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَۚ وَٱلۡمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَٱلۡمُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ أُوْلَـٰٓئِكَ سَنُؤۡتِيهِمۡ أَجۡرًا عَظِيمًا} (162)

{ لكن الراسخون في العلم منهم } استدراك من قوله تعالى { واعتدنا } الآية أو من الذين هادوا ، وبيان لكون بعضهم على خلاف حالهم عاجلا وآجلا وذلك أن اليهود أنكروا وقالوا : إن هذه الأشياء كانت حراما في الأصل وأنت تحلها فنزل { لكن الراسخون } والراسخ هو المبالغ في علم الكتاب الثابت فيه ، والرسوخ الثبوت وقد تقدم الكلام عليه في آل عمران والمراد بهم عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ونحوهما .

{ والمؤمنون } بالله ورسوله ، والمراد أما من آمن من أهل الكتاب أو من المهاجرين والأنصار أو من الجميع { يؤمنون بما أنزل إليك } أي القرآن { وما أنزل من قبلك } أي سائر الكتب المنزلة على الأنبياء { والمقيمين الصلاة } قرأ جماعة المقيمون على العطف على ما قبله ، وكذا في مصحف ابن مسعود تنزيلا للتغاير العنواني منزلة التغاير الذاتي ، ونصب مقيمين على قراءة الجمهور هو على المدح والتعظيم عند سيبويه وهو أول الأعاريب .

وقال الخليل والكسائي : وهو معطوف على قوله { بما أنزل إليك } واستبعده الأخفش ، ووجهه محمد بن يزيد المبرد .

وعن عائشة أنها سئلت عن المقيمين وعن قوله إن هذا لساحران والصابئون في المائدة فقالت : يا ابن أخي الكتاب أخطأوا ، وروي عن عثمان بن عفان أنه لما فرغ من المصحف أتى به قال : أرى فيه شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها ، فقيل له ألا تغيره فقال دعوه فإنه لا يحل حراما ولا يحرم حلالا{[568]} .

قال ابن الأنباري : وما روي عن عثمان لا يصح لأنه متصل ومحال أن يؤخر عثمان شيئا فاسدا ليصلحه غيره ، ولأن القرآن منقول بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه .

وقال الزمخشري في الكشاف : ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوع لحن في خط المصحف وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ، يعني كتاب سيبويه ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم من النصب على الاختصاص والمدح من الافتنان وهو باب واسع قد ذكره سيبويه على أمثلة وشواهد ، وربما خفي عليه أن السابقين الأولين كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذب الطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله عز وجل ثلمة يسدها من بعدهم ، وخرقا يرفوه من يلحق بهم انتهى .

وقد رجح سيبويه كثير من أئمة النحو والتفسير واختاره الزجاج ، ورجح قول الخليل والكسائي ابن جرير الطبري والقفال .

{ والمؤتون الزكاة } عطف على المؤمنون ، لأن من صفتهم { والمؤمنون } يؤمنون ، { بالله واليوم الآخر } هم مؤمنوا أهل الكتاب وصفوا أولا بالرسوخ في العلم ثم الإيمان بكتب الله وأنهم يقيمون الصلاة ويأتون الزكاة ويؤمنون بالله واليوم الآخر ، وقيل المراد بهم المؤمنون من الأنصار والمهاجرين من هذه الأمة كما سلف وأنهم جامعون بين هذه الأوصاف .

{ أولئك } أي الراسخون ، وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم في الفضل { سنؤتيهم } أي سنعطيهم على ما كان منهم من طاعة الله واتباع أمره ، والسين لتأكيد الوعد { أجرا } ثوابا { عظيما } وهو الجنة ، والتنكير للتفخيم ، وهذا الإعراب أنسب بتجاوب طرفي الاستدراك حيث وعد الأولون بالعذاب الأليم ، ووعد الآخرون بالأجر العظيم .


[568]:قال السخاوي: هذا الأثر ضعيف، والإسناد فيه اضطراب وانقطاع، لأن عثمان رضي الله عنه جعل للناس إماما يقتدون به، فكيف يرى فيه لحنا ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها؟ وقد كتب مصاحف سبعة، وليس فيها اختلاف قط إلا فيما هو من وجوه القراءات، وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع، كيف يقيمه غيرهم؟ وقد نقل بن هشام في شرح "شذور الذهب": 50 عن الإمام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه الله أنه قال: وقد زعم قوم أن قراءة من قرأ (إن هذان) لحن، وأن عثمان رضي الله عنه قال: إن في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها، وهذا خبر باطل لا يصح من وجوه: أحدها: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتسارعون إلى إنكار أدنى النكرات، فكيف يقرؤون اللحن في القرآن مع أنهم لا كلفة عليهم في إزالته. والثاني: أن العرب كانت تستقبح اللحن غاية الاستقباح في الكلام، فكيف لا يستقبحون بقاءه في المصحف. والثالث: أن الاحتجاج بأن العرب ستقيمه بألسنتها غير مستقيم، لأن المصحف الكريم يقف عليه العربي والعجمي. والرابع: أنه قد ثبت في "الصحيح" أن زيد ابن ثابت أراد أن يكتب (التابوت) بالهاء على لغة الأنصار، فمنعوه من ذلك، ورفعوه إلى عثمان رضي الله عنه، فأمرهم أن يكتبوه بالتاء على لغة قريش. قال ابن عباس: قال عدي بن زيد، وسكين: يا محمد ما نعلم الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى، فنزلت هذه الآية. سيرة ابن هشام1/562، وابن جرير9/400 عن ابن عباس، وفي سنده محمد ابن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال الذهبي: لا يعرف. وسكين بن أبي سكين، وعدي بن زيد من بني قينقعان، ذكرهم ابن هشام في "السيرة" في الأعداء من يهود.