فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَا تَغۡلُواْ فِي دِينِكُمۡ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّۚ إِنَّمَا ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥٓ أَلۡقَىٰهَآ إِلَىٰ مَرۡيَمَ وَرُوحٞ مِّنۡهُۖ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۖ وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌۚ ٱنتَهُواْ خَيۡرٗا لَّكُمۡۚ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ سُبۡحَٰنَهُۥٓ أَن يَكُونَ لَهُۥ وَلَدٞۘ لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلٗا} (171)

{ يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ( 171 ) }

{ يا أهل الكتاب } قيل نزلت في النصارى وقيل فيهم وفي اليهود { لا تغلوا في دينكم } الغلو هو التجاوز في الحد ، ومنه غلا السعر يغلو غلاء وغلا الرجل في الأمر غلوا ، وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فتجاوزت لداتها ، والمراد بالآية النهي عن الإفراط تارة والتفريط أخرى .

فمن الإفراط غلو النصارى في عيسى حتى جعلوه ربا ، ومن التفريط غلو اليهود فيه عليه السلام حتى جعلوه لغير رشدة ، وما أحسن قول الشاعر :

ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم

{ ولا تقولوا على الله إلا الحق } وهو ما وصف به نفسه ووصفته به رسله ، ولا تقولوا الباطل كقول اليهود عزير ابن الله وقول النصارى المسيح ابن الله ، وهذا الاستثناء مفرغ { إنما المسيح عيسى ابن مريم } الجملة تعليل للنهي ، وقد تقدم الكلام على المسيح في آل عمران والمعنى ليس له نسب غير هذا ، وأنه { رسول الله } فمن زعم غير هذا فقد أشرك وكفر .

{ وكلمته } أي كونه بقوله كن فكان بشرا من غير أب ، وقيل كلمته بشارة الله مريم ورسالته إليها على لسان جبريل بقوله { إذا قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه } وقيل الكلمة ههنا بمعنى الآية ومنه { وصدقت بكلمات ربها } وقوله ما نفذت كلمات الله { ألقاها إلى مريم } أي أوصلها إليها { وروح } أي ذو روح { منه } وسمي روحا لأنه حصل من الريح الحاصل من نفخ جبريل ، أي أرسل جبريل فنفخ في جيب درع مريم فحملت بإذن الله ، وهذه الإضافة للتفضيل والتشريف وإن كان جميع الأرواح من خلقه تعالى .

وقيل قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحا ويضاف إلى الله فيقال هذا روح من الله أي من خلقه كما يقال في النعمة أنها من الله .

وقيل روح منه أي من خلقه كما قال تعالى { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه } أي من خلقه ، وقيل رحمة منه ، وقيل برهان منه ، وكان عيسى برهانا وحجة على قومه .

والمعنى روح كائنة منه وجعلت الروح منه سبحانه وإن كانت بنفخ جبريل لكونه تعالى الآمر لجبريل بالنفخ ، والمعنى ليس هو كما زعمتم ابن الله وإلها معه أو ثالث ثلاثة لأن ذا الروح مركب ، والإله منزه عن التركيب وعن نسبة المركب إليه .

وعن أبي موسى أن النجاشي قال لجعفر : ما يقول صاحبك في ابن مريم ؟ قال : يقول فيه قول الله ، هو روح الله وكلمته أخرجه من البتول العذراء لم يقربها بشر ، فتناول عودا من الأرض فرفعه فقال يا معشر القسيسين والرهبان ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذه .

وعن ابن مسعود بأطول من هذا . وأخرج البخاري عن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله{[575]} .

وعن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، والجنة والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان له من العمل أخرجه الشيخان{[576]} .

{ فآمنوا بالله ورسله } أي لأنه سبحانه إله واحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، وبأن رسله صادقون مبلغون عن الله ما أمرهم بتبليغه ، ولا تكذبوهم ولا تغلوا فيهم فتجعلوا بعضهم آلهة { ولا تقولوا ثلاثة } قال الزجاج أي لا تقولوا آلهتنا ثلاثة .

وقال الفراء وأبو عبيد أي لا تقولوا هم ثلاثة كقوله سيقولون ثلاثة ، وقال أبو علي الفارسي : لا تقولوا هو ثالث فحذف المبتدأ المضاف ، والنصارى مع تفرق مذاهبهم متفقون على التثليث ، ويعنون بالثلاثة الثلاثة الأقانيم فيجعلونه سبحانه جوهرا واحدا وله ثلاثة أقانيم ويعنون بالأقانيم أقنوم الوجود وأقنوم الحياة وأقنوم العلم ، وإنما يعبرون عن الأقانيم بالأب والابن وروح القدس ، فيعنون بالأب الوجود وبالروح الحياة وبالابن المسيح ، وقيل المراد بالآلهة الثلاثة سبحانه وتعالى ومريم والمسيح .

وقد اختبط النصارى في هذا اختباطا طويلا ، ووقفنا في الأناجيل الأربعة التي يطلق عليها اسم الإنجيل عندهم على اختلاف كثير في عيسى ، فتارة يوصف بأنه ابن الإنسان وتارة يوصف بأنه ابن الله وتارة يوصف بأنه ابن الرب ، وهذا تناقض ظاهر وتلاعب بالدين .

والحق ما أخبرنا الله به في القرآن ، وما خالفه في التوراة والإنجيل أو الزبور فهو من تحريف المحرفين وتلاعب المتلاعبين .

ومن أعجب ما رأيناه أن الأناجيل الأربعة كل واحد منها منسوب إلى واحد من أصحاب عيسى عليه السلام ، وحاصل ما فيها جميعا أن كل واحد من هؤلاء الأربعة ذكر سيرة عيسى من عند أن بعثة الله إلى أن رفعه الله ، وذكر ما جرى له من المعجزات والمراجعات لليهود ونحوهم ، فاختلفت ألفاظهم ، واتفقت معانيها ، وقد يزيد بعضهم على بعض بحسب ما يقتضيه الحفظ والضبط ، وذكر ما قاله عيسى وقيل له ، وليس فيها من كلام الله سبحانه شيء ولا أنزل على عيسى من عنده كتابا ، بل كان عيسى عليه السلام يحتج عليهم بما في التوراة ويذكر أنه لم يأت بما يخالفها .

وهكذا الزبور فإنه من أوله إلى آخره من كلام داود عليه السلام .

وكلام الله أصدق وكتابه أحق ، وقد أخبرنا أن الإنجيل كتابه أنزله على عبده ورسوله عيسى ابن مريم وأن الزبور كتابه آتاه وأنزله عليه .

{ انتهوا خيرا لكم } أي انتهوا عن التثليث ولا تقولوا الآلهة ثلاثة وانتصاب خيرا هنا فيه الوجوه الثلاثة التي قدمت في قوله فآمنوا خيرا لكم .

{ إنما الله إله واحد } لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد { سبحانه } أي أسبحه تسبيحا عن { أن يكون ولد } لأن الولد جزء من الأب ، وهو متعال عن التجزئة وصفات الحدوث ولكن جعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور .

{ له ما في السماوات وما في الأرض } ملكا وخلقا وعبيدا ، وما جعلتموه له شريكا أو ولدا هو من جملة ذلك والمملوك المخلوق لا يكون شريكا ولا ولدا { وكفى بالله وكيلا } مستقلا بتدبير خلقه يكل الخلق أمورهم إليه ، لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا فلا حاجة إلى ولد يعينه ، وقيل شهيدا على ذلك .


[575]:صحيح الجامع7240.
[576]:صحيح الجامع 6196.