فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَرۡفَعُوٓاْ أَصۡوَٰتَكُمۡ فَوۡقَ صَوۡتِ ٱلنَّبِيِّ وَلَا تَجۡهَرُواْ لَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ كَجَهۡرِ بَعۡضِكُمۡ لِبَعۡضٍ أَن تَحۡبَطَ أَعۡمَٰلُكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تَشۡعُرُونَ} (2)

{ يا أيها الذين آمنوا } في إعادة النداء فوائد ، منها أن في ذلك بيان زيادة الشفقة على المسترشد كقول لقمان لابنه : { يا بني لا تشرك بالله } ، لأن النداء تنبيه للمنادى ، ليقبل على استماع الكلام ، ويجعل باله منه ، فإعادته تفيد تجدد ذلك ، ومنها أن لا يتوهم أن المخاطب ثانيا غير المخاطب أولا ، ومنها أن يعلم أن كل واحد من الكلامين مقصود ، وليس الثاني تأكيدا للأول .

{ لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } يحتمل أن المراد حقيقة رفع الصوت ، لأن ذلك يدل على قلة الاحتشام ، وترك الاحترام ، لأن خفض الصوت وعدم رفعه من لوازم التعظيم والتوقير ، ويحتمل أن يكون المراد المنع من كثرة الكلام ، ومزيد اللغط ، والأول أولى ، والمعنى : لا ترفعوا أصواتكم إلى حد يكون فوق ما يبلغه صوت النبي صلى الله عليه وسلم ، قال المفسرون : المراد من الآية تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره ، وأن لا ينادوه كما ينادي بعضهم بعضا وهذا نهي عن قول ، كما أن قوله : { لا تقدموا } نهي عن فعل .

عن أبي بكر الصديق قال : " لما أنزلت هذه الآية قلت : يا رسول الله ، والله لا أكلمك إلا كأخي السرار " وفي سنده حصين بن عمر وهو ضعيف ، ولكنه يؤيده .

ما روي عن أبي هريرة قال : " لما أنزلت : { إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله } قال أبو بكر : والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخي السرار حتى ألقى الله " .

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما . عن أنس قال : " لما نزلت هذه الآية إلى قوله : { وأنتم لا تشعرون } وكان ثابت بن قيس بن شماس رفيع الصوت فقال : أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم حبط عملي أنا من أهل النار وجلس في بيته حزينا ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلق بعض القوم إليه فقالوا : فقدك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك ؟ فقال : أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي ، وأجهر له بالقول ، حبط عملي أنا من أهل النار ، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك ، فقال : لا بل هو من أهل الجنة ، فلما كان يوم اليمامة قتل " ، وفي الباب أحاديث بمعناه وعن ابن مسعود قال : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس{[1519]} .

{ ولا تجهروا له بالقول } إذا كلمتموه { كجهر بعضكم لبعض } أي كما تعتادونه من الجهر بالقول إذا كلم بعضكم بعضا ، قال الزجاج : أمرهم الله سبحانه بتجليل نبيه صلى الله عليه وسلم . وأن يغضوا أصواتهم ويخاطبوه بالسكينة والوقار . وقيل : المراد بقوله : ولا تجهروا له بالقول لا تقولوا : يا محمد ، يا أحمد ، ولكن يا نبي الله ، ويا رسول الله ، توقيرا له ، وليس المراد برفع الصوت وبالجهر بالقول هو ما يقع على طريقة الاستخفاف ، فإن ذلك كفر ، وإنما المراد أن يكون الصوت في نفسه غير مناسب لما يقع في مواقف من يجب تعظيمه وتوقيره ، والحاصل أن النهي هنا وقع عن أمور :

الأول : عن التقديم بين يديه ، بما لم يأذن به من الكلام .

والثاني : عن رفع الصوت البالغ إلى حد يكون فوق صوته سواء كان في خطابه أو خطاب غيره .

والثالث : ترك الجفا في مخاطبته ، ولزوم الأدب في محاورته ، لأن المقاولة المجهورة إنما تكون بين الأكفاء ، الذين ليس لبعضهم على بعض مزية توجب إحترامه وتوقيره .

ثم علل سبحانه ما ذكره بقوله : { أن تحبط أعمالكم } قال الزجاج : أي لأن تحبط يعني فتحبط ، فاللام المقدرة لام الصيرورة ، وهذه العلة تصح أن تكون علة للنهي ، أي : نهاكم الله عن الجهر خشية أو كراهة أن تحبط ، أو علة للمنهي أي : لا تفعلوا الجهر ، فإنه يؤدي إلى الحبوط ، فكلام الزجاج ينظر إلى الوجه الثاني لا إلى الأول ، وجملة :

{ وأنتم لا تشعرون } في محل نصب على الحال ، وفيه تحذير شديد . ووعيد عظيم ، قال الزجاج : وليس المراد قوله : وأنتم لا تشعرون يوجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم ، فكما لا يكون الكافر مؤمنا إلا باختياره الإيمان على الكفر ، كذلك لا يكون الكافر كافرا من حيث لا يعلمه .


[1519]:البخاري 8/452.