قوله : { واتبعوا مَا تَتْلُو الشياطين } معطوف على قوله : { نبذوا } أي : نبذوا كتاب الله ، واتبعوا ما تتلوا الشياطين من السحر ونحوه . قال الطبري : اتبعوا بمعنى فعلوا . ومعنى : { تتلو } تتقوّله ، وتقرؤه و { على مُلْكِ سليمان } على عهد ملك سليمان ، قاله الزجاج ، وقيل المعنى في ملك سليمان : يعني في قصصه ، وصفاته ، وأخباره .
قال الفراء : تصلح «على » ، وفي «في » هذا الموضع ، والأوّل أظهر ، وقد كانوا يظنون أن هذا هو : علم سليمان ، وأنه يستجيزه ، ويقول به ، فردّ الله ذلك عليهم ، وقال : { وَمَا كَفَرَ سليمان ولكن الشياطين كَفَرُوا } ولم يتقدم أنّ أحداً نسب سليمان إلى الكفر ، ولكن لما نسبته اليهود إلى السحر صاروا بمنزلة من نسبه إلى الكفر ؛ لأن السحر يوجب ذلك ، ولهذا أثبت الله سبحانه كفر الشياطين فقال : { ولكن الشياطين كَفَرُوا } أي : بتعليمهم . وقوله : { يُعَلّمُونَ الناس السحر } في محل نصب على الحال ، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر بعد خبر . وقرأ ابن عامر ، والكوفيون سوى عاصم : «ولكن الشياطين » بتخفيف لكن ، ورفع الشياطين ، والباقون بالتشديد والنصب .
والسحر هو : ما يفعله الساحر من الحيل والتخييلات التي تحصل بسببها للمسحور ما يحصل من الخواطر الفاسدة الشبيهة بما يقع لمن يرى السراب فيظنه ماء ، وما يظنه راكب السفينة ، أو الدابة من أن الجبال تسير ، وهو مشتق من سحرت الصبيّ : إذا خدعته . وقيل : أصله الخفاء ، فإن الساحر يفعله خفية . وقيل أصله الصرف ؛ لأن السحر مصروف عن جهته . وقيل أصله الاستمالة ؛ لأن من سحرك ، فقد استمالك . وقال الجوهري : السحر الأخذة ، وكل ما لطف مأخذه ودقَّ ، فهو سحر . وقد سحره يسحره ، سحراً . والساحر : العالم ، وسحره أيضاً بمعنى خدعه . وقد اختلف : هل له حقيقة أم لا ؟ فذهبت المعتزلة ، وأبو حنيفة إلى أنه خدع لا أصل له ، ولا حقيقة . وذهب من عداهم إلى أن له حقيقة مؤثرة . وقد صح أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سحر ، سحره لُبيد بن الأعصم اليهودي ، حتى كان يخيل إليه أنه يأتي الشيء ولم يكن قد أتاه ، ثم شفاه الله سبحانه ، والكلام في ذلك يطول . وقوله : { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين } أي : ويعلمون الناس ما أنزل على الملكين ، فهو معطوف على السحر ، وقيل : هو معطوف على قوله : «ما تتلو الشياطين » أي : واتبعوا ما أنزل على الملكين . وقيل إن «ما » في قوله : { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين } نافية ، والواو عاطفة على قوله : { وَمَا كَفَرَ سليمان } وفي الكلام تقديم ، وتأخير ، والتقدير : وما كفر سليمان ، وما أنزل على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت ، وماروت ، فهاروت ، وماروت بدل من الشياطين في قوله : { ولكن الشياطين كَفَرُوا } ذكر هذا ابن جرير ، وقال : فإن قال لنا قائل : وكيف وجه تقديم ذلك ؟ قيل : وجه تقديمه أن يقال : واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ، وما كفر سليمان وما أنزل الله على الملكين ، ولكنّ الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت ، فيكون معنياً بالملكين جبريل وميكائيل ؛ لأن سحرة اليهود ، فيما ذكر ، كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل ، إلى سليمان بن داود ، فأكذبهم الله بذلك ، وأخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر ، وبرأ سليمان مما نحلوه من السحر ، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين ، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل ، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان أحدهما هاروت ، والآخر ماروت ، فيكون هاروت وماروت ، على هذا التأويل ترجمة عن الناس وردّاً عليهم . انتهى .
وقال القرطبي في تفسيره ، بعد أن حكى معنى هذا الكلام ، ورجح أن هاروت وماروت بدل من الشياطين ، ما لفظه : هذا أولى ما حملت عليه الآية ، وأصح ما قيل فيها ، ولا يلتفت إلى سواه ، فالسحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم ، ودقة أفهامهم ، وأكثر ما يتعاطاه من الإنس النساء ، وخاصة في حال طمثهن ، قال الله : { وَمِن شَرّ النفاثات فِى العقد } [ الفلق : 4 ] ثم قال : إن قيل كيف يكون اثنان بدلاً من جمع ، والبدل إنما يكون على حدّ المبدل ؟ ثم أجاب عن ذلك بأن الاثنين قد يطلق عليهما الجمع ، أو أنهما خُصا بالذكر دون غيرهما لتمردهما ، ويؤيد هذا أنه قرأ ابن عباس والضحاك والحسن : «الملكين » بكسر اللام ، ولعل وجه الجزم بهذا التأويل مع بعده ، وظهور تكلفه ، تنزيه الله سبحانه أن ينزل السحر إلى ارضه ، فتنة لعباده على ألسن ملائكته . وعندي أنه لا موجب لهذا التعسف المخالف لما هو الظاهر ، فإن لله سبحانه أن يمتحن عباده بما شاء كما امتحن بنهر طالوت ، ولهذا يقول الملكان : { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } قال ابن جرير : وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء ، وأنهما أنزلا إلى الأرض ، فكان من أمرهما ما كان ، وبابل قيل : هي العراق ، وقيل نهاوند ، وقيل نصيبين . وقيل المغرب : وهاروت وماروت اسمان أعجميان لا ينصرفان . وقوله : { وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ } قال الزجاج : تعليم إنذار من السحر لا تعليم دعاء إليه ، قال : وهو الذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر ، ومعناه : أنهما يعلمان على النهي ، فيقولان لهم : لا تفعلوا كذا . و«من » في قوله : { من أحد } زائدة للتوكيد ، وقد قيل : إن قوله : { يعلمان } من الإعلام لا من التعليم ، وقد جاء في كلام العرب تعلم بمعنى أعلم ، كما حكاه ابن الأنباري ، وابن الأعرابي ، وهو كثير من أشعارهم كقول كعب بن مالك :
تعلَّم رسول اللهِ أنَّك مُدْرِكي *** وَأنَّ وَعِيداً مْنِك كالأخْذِ باليَدِ
تعلَّم أن بعد الغَيّ رُشداً *** وأن لذلك الغيّ انْقِشاعاً
وقوله : { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } هو : على ظاهره ، أي : إنما نحن ابتلاء ، واختبار من الله لعباده . وقيل : إنه استهزاء منهما ؛ لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله . وفي قولهما : { فَلاَ تَكْفُرْ } أبلغ إنذار ، وأعظم تحذير ، أي : أن هذا ذنب يكون مَنْ فعله كافراً ، فلا تكفر ، وفيه دليل على أن تعلم السحر كفر ، وظاهره عدم الفرق بين المعتقد ، وغير المعتقد ، وبين من تعلمه ليكون ساحراً ، ومن تعلمه ليقدر على دفعه .
وقوله : { فَيَتَعَلَّمُونَ } فيه ضمير يرجع إلى قوله : «مِنْ أحَدٍ » قال سيبويه : التقدير ، فهم يتعلمون ، قال : ومثله { كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] وقيل هو : معطوف على موضع ما يعلمان ؛ لأنه وإن كان منفياً ، فهو يتضمن الإيجاب . وقال الفراء : هي مردودة على قوله : «يعلمون الناس السحر » أي : يعلمون الناس ، فيتعلمون ، وقوله : { مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ } في إسناد التفريق إلى السحرة ، وجعل السحر سبباً لذلك دليل على أن للسحر تأثيراً في القلوب بالحبّ والبغض ، والجمع ، والفرقة ، والقرب ، والبعد . وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الساحر لا يقدر على أكثر مما أخبر الله به من التفرقة ؛ لأن الله ذكر ذلك في معرض الذمّ للسحر ، وبين ما هو الغاية في تعليمه ، فلو كان يقدر على أكثر من ذلك لذكره . وقالت طائفة أخرى : إن ذلك خرج مخرج الأغلب ، وأن الساحر يقدر على غير ذلك المنصوص عليه ، وقيل ليس للسحر تأثير في نفسه أصلاً لقوله تعالى : { وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } والحق أنه لا تنافي بين قوله : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ } وبين قوله : { وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } فإن المستفاد من جميع ذلك أن للسحر تأثيراً في نفسه ، ولكنه لا يؤثر ضرراً إلا فيمن أذن الله بتأثيره فيه ، وقد أجمع أهل العلم على أن له تأثيراً في نفسه ، وحقيقة ثابتة ، ولم يخالف في ذلك إلا المعتزلة ، وأبو حنيفة كما تقدم ، وقوله : { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } فيه تصريح بأن السحر لا يعود على صاحبه بفائدة ، ولا يجلب إليه منفعة بل هو : ضرر محض ، وخسران بحت ، واللام في قوله : { وَلَقَدْ } جواب قسم محذوف ، وفي قوله : { لَمَنِ اشتراه } للتأكيد و«مَنْ » موصولة ، وهي في محل رفع على الابتداء ، والخبر قوله : { مَالَهُ فِى الآخرة مِن خلاق } وقال الفراء : إنها شرطية للمجازاة . وقال الزجاج : ليس هذا بموضع شَرط ، ورجح أنها موصولة كما ذكرنا . والمراد بالشراء هنا : لاستبدال أي من استبدل ما تتلوا الشياطين على كتاب الله . والخَلاق : النصيب عند أهل اللغة ، كذا قال الزجاج . والمراد بقوله : { مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ } أي : باعوها . وقد أثبت لهم العلم في قوله : { وَلَقَدْ عَلِمُوا } ونفاه عنهم في قوله : { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } واختلفوا في توجيه ذلك ، فقال قطرب ، والأخفش : إن المراد بقوله : { وَلَقَدْ عَلِمُوا } الشياطين ، والمراد بقوله : { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } الإنس . وقال الزجاج : إن الأول للملكين ، وإن كان بصيغة الجمع ، فهو مثل قولهم : الزيدان قاموا ، والثاني : المراد به علماء اليهود . وإنما قال : { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } لأنهم تركوا العمل بعلمهم .