فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{۞مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (106)

النسخ في كلام العرب على وجهين : أحدهما : النقل ، كنقل كتاب من آخر ، وعلى هذا يكون القرآن كله منسوخاً ، أعنى من اللوح المحفوظ ، فلا مدخل لهذا المعنى في هذه الآية ، ومنه : { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الجاثية : 29 ] أي نأمر بنسخه . الوجه الثاني : الإبطال ، والإزالة . وهو المقصود هنا . وهذا الوجه الثاني ينقسم إلى قسمين عند أهل اللغة . أحدهما : إبطال الشيء ، وزواله ، وإقامة آخر مقامه ، ومنه نسخت الشمس الظل : إذا أذهبته ، وحلت محله ، وهو : معنى قوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ } وفي صحيح مسلم : «لم تكن نبوّة قط إلا تناسخت » أي : تحوّلت من حال إلى حال . والثاني إزالة الشيء دون أن يقوم مقامه آخر كقولهم : نسخت الريح الأثر ، ومن هذا المعنى { فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان } [ الحج : 52 ] أي : يزيله . وروي عن أبي عبيد أن هذا قد كان يقع في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت تنزل عليه السورة فترفع فلا تتلى ولا تكتب . ومنه ما روي عن أُبيّ وعائشة ، أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة في الطول . قال ابن فارس : النسخ نسخ الكتاب ، والنسخ أن تزيل أمراً كان من قبل يعمل به ، ثم تنسخه بحادث غيره ، كالآية تنزل بأمر ، ثم تنسخ بأخرى ، وكل شيء خلف شيئاً ، فقد انتسخه ، يقال نسخت الشمس الظل ، والشيب الشباب ، وتناسخ الورثة أن يموت ورثة بعد ورثة ، وأصل الميراث قائم ، وكذا تناسخ الأزمنة والقرون . وقال ابن جرير : { مَا نَنسَخْ } ما ننقل من حكم آية إلى غيره ، فنبدله ، ونغيره ، وذلك أن نحوّل الحلال حراماً ، والحرام حلالاً ، والمباح محظوراً ، والمحظور مباحاً ، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي ، والحظر والإطلاق والمنع ، والإباحة ، فأما الأخبار ، فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ ، وأصل النسخ من نسخ الكتاب ، وهو نقله من نسخة أخرى ، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله إلى غيره وسواء نسخ حكمها ، أو خطها ، إذ هي في كلتي حالتيها منسوخة انتهى .

وقد جعل علماء الأصول مباحث النسخ من جملة مقاصد ذلك الفن ، فلا نطول بذكره ، بل نحيل من أراد الاستشفاء عليه . وقد اتفق أهل الإسلام على ثبوته سلفاً ، وخلفاً ، ولم يخالف في ذلك أحد إلا من لا يعتدَّ بخلافه ولا يؤبه لقوله . وقد اشتهر عن اليهود ، أقمأهم الله إنكاره ، وهم محجوجون بما في التوراة أن الله قال لنوح عليه السلام عند خروجه من السفينة : إني قد جعلت كل دابة مأكلاً لك ، ولذريتك ، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم ، فلا تأكلوه ، ثم قد حرّم الله ذلك على موسى عليه السلام وعلى بني اسرائيل كثيراً من الحيوان ، وثبت في التوراة أن آدم كان يزوّج الأخ من الأخت ، وقد حرّم الله ذلك على موسى عليه السلام ، وعلى غيره . وثبت فيها أن إبراهيم عليه السلام أمر بذبح ابنه ، ثم قال الله له لا تذبحه ، وبأن موسى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل ، ثم أمرهم برفع السيف عنهم ، ونحو هذا كثير في التوراة الموجودة بأيديهم .

وقوله : { أَوْ نُنسِهَا } قرأ أبو عمرو ، وابن كثير بفتح النون ، والسين ، والهمز ، وبه قرأ عمر ، وابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد وأبيّ بن كعب ، وعبيد بن عمير والنخعي ، وابن محيصن ، ومعنى هذه القراءة نؤخرها عن النسخ ، من قولهم : نسأت هذا الأمر : إذا أخرته . قال ابن فارس : ويقولون : نسأ الله في أجلك ، وأنسأ الله أجلك . وقد انتسأ القوم : إذا تأخروا ، وتباعدوا ، ونسأتهم أنا : أخرتهم . وقيل : معناه نؤخر نسخ لفظها ؛ أي نتركه في أم الكتاب ، فلا يكون . وقيل : نذهبها عنكم حتى لا تقرأ ، ولا تذكر ، وقرأ الباقون { نُنسِهَا } بضم النون من النسيان الذي بمعنى الترك ، أي : نتركها ، فلا نبدلها ، ولا ننسخها ، ومنه قوله تعالى : { نَسُوا الله فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] أي تركوا عبادته ، فتركهم في العذاب . واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وأبو حاتم ، وحكى الأزهري أن معناه : نأمر بتركها يقال : أنسيته الشيء ، أي أمرته بتركه ، ونسيته تركته ، ومنه قول الشاعر :

إن عليّ عُقْبة أقْضِيها *** لستُ بناسِيها ولا مُنْسِيها

أي : ولا آمر بتركها . وقال الزجاج : إن القراءة بضم النون لا يتوجه فيها معنى الترك ، لا يقال : أنسى بمعنى ترك ؛ قال : وما روى عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { أَوْ نُنسِهَا } قال : نتركها لا نبدلها ، فلا يصح ، والذي عليه أكثر أهل اللغة ، والنظر أن معنى : { أَوْ نُنسِهَا } نبح لكم تركها ، من نسي إذا ترك ، ثم تعديه . ومعنى : { نَاتِ بِخَيْرٍ منْهَا أَوْ مِثْلِهَا } نأت بما هو : أنفع للناس منها في العاجل والآجل ، أو في أحدهما ، أو بما هو مماثل لها من غير زيادة ، ومرجع ذلك إلى إعمال النظر في المنسوخ والناسخ ، فقد يكون الناسخ أخفّ ، فيكون أنفع لهم في العاجل ، وقد يكون أثقل وثوابه أكثر ، فيكون أنفع لهم في الآجل ، وقد يستويان ، فتحصل المماثلة .

/خ107