فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡمَحِيضِۖ قُلۡ هُوَ أَذٗى فَٱعۡتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِي ٱلۡمَحِيضِ وَلَا تَقۡرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطۡهُرۡنَۖ فَإِذَا تَطَهَّرۡنَ فَأۡتُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّـٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِينَ} (222)

قوله : { المحيض } هو : الحيض ، وهو مصدر ، يقال : حاضت المرأة حيضاً ، ومحيضاً ، فهي حائض ، وحائضة ، كذا قال الفراء وأنشد :

كحائضة تُزْنَي بها غير طاهرة *** . . .

ونساء حُيَّض ، وحوائض ، والحِيضة بالكسر : المرة الواحدة وقيل : الاسم ، وقيل : المحيض عبارة عن الزمان ، والمكان ، وهو مجاز فيهما ، وقال ابن جرير الطبري : المحيض اسم الحيض ، ومثله قول رؤبة :

إليك أشكو شدة المعيش *** . . .

أي العيش ، وأصل هذه الكلمة من السيلان ، والانفجار يقال : حاض السيل وفاض ، وحاضت الشجرة : أي : سالت رطوبتها ، ومنه الحيض أي : الحوض ؛ لأن الماء يحوض إليه ، أي : يسيل . وقوله : { قُلْ هُوَ أَذًى } أي : قل هو شيء يتأذى به أي : برائحته . والأذى كناية عن القذر ، ويطلق على القول المكروه ، ومنه قوله تعالى : { لاَ تُبْطِلُوا صدقاتكم بالمن والأذى } [ البقرة : 264 ] ، ومنه قوله تعالى : { وَدَعْ أَذَاهُمْ } [ الأحزاب : 48 ] وقوله : { فاعتزلوا النساء فِي المحيض } أي : فاجتنبوهنّ في زمان المحيض إن حمل المحيض على المصدر ، أو في محل الحيض إن حمل على الاسم . والمراد من هذا الاعتزال : ترك المجامعة لا ترك المجالسة ، أو الملامسة ، فإن ذلك جائز ، بل يجوز الاستمتاع منها بما عدا الفرج ، أو بما دون الإزار على خلاف في ذلك ، وأما ما يروى عن ابن عباس ، وعبيدة السلماني أنه يجب على الرجل أن يعتزل فراش زوجته إذا حاضت ، فليس ذلك بشيء ، ولا خلاف بين أهل العلم في تحريم وطء الحائض ، وهو معلوم من ضرورة الدين .

قوله : { ولاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ } قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن كثير ، وابن عامر ، وعاصم في رواية حفص عنه بسكون الطاء ، وضم الهاء . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم في رواية أبي بكر : «يطَّهّرن » بتشديد الطاء ، وفتحها ، وفتح الهاء ، وتشديدها . وفي مصحف أبيّ ، وابن مسعود : «ويتطهرن » والطهر انقطاع الحيض ، والتطهر : الاغتسال . وبسبب اختلاف القراء اختلف أهل العلم ، فذهب الجمهور إلى أن الحائض لا يحل وطؤها لزوجها ، حتى تتطهر بالماء . وقال محمد بن كعب القرظي ، ويحيى بن بكير : إذا طهرت الحائض ، وتيمّمت حيث لا ماء حلت لزوجها ، وإن لم تغتسل . وقال مجاهد وعكرمة : إن انقطاع الدم يحلها لزوجها ، ولكن تتوضأ . وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد : إن انقطع دمها بعد مضي عشرة أيام جاز له أن يطأها قبل الغسل ، وإن كان انقطاعه قبل العشر لم يجز حتى تغتسل ، أو يدخل عليها ، وقت الصلاة . وقد رجح ابن جرير الطبري قراءة التشديد ، والأولى أن يقال : إن الله سبحانه جعل للحلّ غايتين كما تقتضيه القراءتان : إحداهما : انقطاع الدم ، والأخرى : التطهر منه ، والغاية الأخرى مشتملة على زيادة على الغاية الأولى ، فيجب المصير إليها . وقد دلّ أن الغاية الأخرى هي المعتبرة . قوله تعالى بعد ذلك : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } فإن ذلك يفيد أن المعتبر التطهر ، لا مجرد انقطاع الدم .

وقد تقرر أن القراءتين بمنزلة الآيتين ، فكما أنه يجب الجمع بين الآيتين المشتملة إحداهما على زيادة بالعمل بتلك الزيادة ، كذلك يجب الجمع بين القراءتين .

قوله : { فَأتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } أي : فجامعوهنّ ، وكنى عنه بالإتيان ، والمراد : أنهم يجامعونهنّ في المأتي الذي أباحه الله ، وهو : القُبُل قيل : و { منْ حَيْثُ } بمعنى : في حيث ، كما في قوله تعالى : { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة } [ الجمعة : 9 ] أي : في يوم الجمعة ، وقوله : { مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرض } [ فاطر : 4 ] أي : في الأرض ، وقيل : إن المعنى من الوجه الذي أذن الله لكم فيه : أي : من غير صوم ، وإحرام ، واعتكاف ، وقيل إن المعنى من قبل الطهر ، لا من قبل الحيض ، وقيل : من قبل الحلال ، لا من قبل الزنا . قوله : { إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين } قيل : المراد : التوابون من الذنوب ، والمتطهرون من الجنابة ، والأحداث . وقيل التوابون من إتيان النساء في أدبارهنّ . وقيل : من إتيانهن في الحيض ، والأول أظهر .

/خ223