فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{حَٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلۡوُسۡطَىٰ وَقُومُواْ لِلَّهِ قَٰنِتِينَ} (238)

المحافظة على الشيء : المداومة ، والمواظبة عليه ، والوسطى : تأنيث الأوسط ، وأوسط الشيء ووسطه : خياره . ومنه قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا } [ البقرة : 143 ] ، ومنه قول بعض العرب يمدح النبي صلى الله عليه وسلم :

يا أوسط النَّاسِ طُراً في مفاخرهم *** وأكرم النَّاسِ أُما بَرَّةً وأباً

وَوَسَط فلان القوم يسطهم ، أي : صار في وسطهم . وأفرد الصلاة الوسطى بالذكر بعد دخولها في عموم الصلوات تشريفاً لها . وقرأ أبو جعفر : { والصلاة الوسطى } بالنصب على الإغراء ، وكذلك قرأ الحلواني ؛ وقرأ قالون عن نافع «الوصطى » بالصاد لمجاورة الطاء ، وهما لغتان : كالسراط ، والصراط . وقد اختلف أهل العلم في تعيينها على ثمانية عشر قولاً أوردتها في شرحي للمنتقى ، وذكرت ما تمسكت به كل طائفة ، وأرجح الأقوال ، وأصحها ما ذهب إليه الجمهور من أنها العصر . لما ثبت عند البخاري ، ومسلم ، وأهل السنن ، وغيرهم من حديث علي قال : كنا نراها الفجر حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب : «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ، ملأ الله قبورهم وأجوافهم ناراً » وأخرج مسلم ، والترمذي ، وابن ماجه ، وغيرهم من حديث ابن مسعود مرفوعاً مثله . وأخرجه أيضاً ابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني من حديث ابن عباس مرفوعاً . وأخرجه البزار بإسناد صحيح من حديث جابر مرفوعاً ، وأخرجه أيضاً البزار بإسناد صحيح من حديث حذيفة مرفوعاً . وأخرجه الطبراني بإسناد ضعيف من حديث أم سلمة مرفوعاً .

وورد في تعيين أنها العصر من غير ذكر يوم الأحزاب أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم : منها عن ابن عمر ، عند ابن منده ، ومنها عن سَمُرة عند أحمد ، وابن جرير ، والطبراني ، ومنها عنه أيضاً عند ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي وصححه ابن جرير ، والطبراني ، والبيهقي ، وعن أبي هريرة ، عند ابن جرير ، والبيهقي ، والطحاوي . وأخرجه عنه أيضاً ابن سعيد ، والبزار ، وابن جرير ، والطبراني ، وعن ابن عباس ، عند البزار بأسانيد صحيحة ، وعن أبي مالك الأشعري ، عند ابن جرير ، والطبراني ، فهذه أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم مصرحة بأنها العصر . وقد روي ، عن الصحابة في تعيين أنها العصر آثار كبيرة ، وفي الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يحتاج معه إلى غيره .

وأما ما روي عن عليّ ، وابن عباس أنهما قالا : إنها صلاة الصبح كما أخرجه مالك في الموطأ عنهما ، وأخرجه ابن جرير ، عن ابن عباس ، وكذلك أخرجه ، عنه عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وكذلك أخرجه ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عمر ، وكذلك أخرجه ابن جرير ، عن جابر ، وكذلك أخرجه ابن أبي حاتم ، عن أبي أمامة ، وكل ذلك من أقوالهم ، وليس فيها شيء من المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا تقوم بمثل ذلك حجة لا سيما إذا عارض ما قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ثبوتاً يمكن أن يدعي فيه التواتر ، وإذا لم تقم الحجة بأقوال الصحابة لم تقم بأقوال من بعدهم من التابعين ، وتابعهم بالأولى ، وهكذا لا تقوم الحجة بما أخرجه ابن أبي حاتم بإسناد حسن ، عن ابن عباس أنه قال : صلاة الوسطى المغرب ، وهكذا لا اعتبار بما ورد من قول جماعة من الصحابة : أنها الظهر ، أو غيرها من الصلوات ، ولكن المحتاج إلى إمعان نظر ، وفكر ما ورد مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم مما فيه دلالة على أنها الظهر ، كما أخرجه ابن جرير ، عن زيد بن ثابت مرفوعاً :

«إن الصلاة الوسطى صلاة الظهر » ولا يصح رفعه بل المرويّ ، عن زيد بن ثابت ذلك من قوله ، واستدل على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالهاجرة ، وكانت أثقل الصلاة على أصحابه ، وأين يقع هذا الاستدلال من تلك الأحاديث الصحيحة الثابتة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهكذا الاعتبار بما روي ، عن ابن عمر من قوله : إنها الظهر . وكذلك ما روي ، عن عائشة ، وأبي سعيد الخدري ، وغيرهم ، فلا حجة في قول أحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأما ما رواه عبد الرزاق ، وابن جرير ، وغيرهما أن حفصة قالت لأبي رافع مولاها ، وقد أمرته أن يكتب لها مصحفاً : إذا أتيت على هذه الآية : { حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى } فتعال حتى أمليها عليك ، فلما بلغ ذلك أمرته أن يكتب : «حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر » . وأخرجه أيضاً ، عنها مالك ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، والبيهقي في سننه ، وزادوا : وقالت أشهد أني سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأخرج مالك ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وغيرهم ، عن أبي يونس مولى عائشة أنها أمرته أن يكتب لها مصحفاً ، وقالت : إذا بلغت هذه الآية فآذِني { حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى } قال : فلما بلغتها آذنتها ، فأملَتْ عليّ : «حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر » قالت عائشة : سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأخرج وكيع ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن أم سلمة أنها أمرت مَنْ يكتب لها مصحفاً ، وقالت له ، كما قالت حفصة ، وعائشة . فغاية ما في هذه الروايات ، عن أمهات المؤمنين الثلاث رضي الله عنهنّ أنَّهنّ يروين هذا الحرف هكذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس فيه ما يدل على تعيين الصلاة الوسطى أنها الظهر ، أو غيرها ، بل غاية ما يدل عليه عطف صلاة العصر على صلاة الوسطى أنها غيرها ؛ لأن المعطوف غير المعطوف عليه ، وهذا الاستدلال لا يعارض ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ثبوتاً لا يدفع أنها العصر كما قدمنا بيانه .

فالحاصل أن هذه القراءة التي نقلتها أمهات المؤمنين الثلاث بإثبات قوله : «وصلاة العصر » معارَضة بما أخرجه ابن جرير ، عن عروة قال : كان في مصحف عائشة : " حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى وَهِىَ صلاة العصر " . وأخرج وكيع ، عن حميدة قالت : قرأت في مصحف عائشة : " حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر " . وأخرج ابن أبي داود ، عن قبيصة بن ذؤيب مثله . وأخرج سعيد بن منصور ، وأبو عبيد ، عن زياد بن أبي مريم أن عائشة أمرت بمصحف لها أن يكتب ، وقالت : إذا بلغتم { حافظوا عَلَى الصلوات } فلا تكتبوها حتى تؤذنوني ، فلما أخبروها أنهم قد بلغوا قالت : اكتبوها صلاة الوسطى صلاة العصر . وأخرج ابن جرير ، والطحاوي ، والبيهقي ، عن عمرو بن رافع : قال كان مكتوباً في مصحف حفصة " حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى وَهِىَ صلاة العصر " . وأخرج أبو عبيد في فضائله ، وابن المنذر عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها : " حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر " . وأخرج أبو عبيد ، وعبد بن حميد ، والبخاري في تاريخه ، وابن جرير ، والطحاوي ، عن ابن عباس : أنه كان ليقرؤها : " حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر " . وأخرج المحاملي عن السائب بن يزيد أنه تلاها كذلك ، فهذه الروايات تعارض تلك الروايات باعتبار التلاوة ، ونقل القراءة ، ويبقى ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من التعيين صافياً ، عن شوب كدر المعارضة ، على أنه قد ورد ما يدل على نسخ تلك القراءة التي نقلتها حفصة ، وعائشة ، وأم سلمة . فأخرج عبد بن حميد ، ومسلم ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، والبيهقي ، عن البراء بن عازب ، قال : نزلت : " حافظوا عَلَى الصلوات وصلاة العصر " فقرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله ، ثم نسخها الله ، فأنزل : { حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى } فقيل له : هي إذن : صلاة العصر ؟ قال : قد حدثتك كيف نزلت ، وكيف نسخها الله ، والله أعلم . وأخرج البيهقي ، عنه من وجه آخر ، نحوه .

وإذا تقرر لك هذا ، وعرفت ما سقناه تبين لك أنه لم يرد ما يعارض أن الصلاة الوسطى صلاة العصر . وأما حجج بقية الأقوال ، فليس فيها شيء مما ينبغي الاشتغال به ؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء ، وبعض القائلين عوَّل على أمر لا يعوَّل عليه ، فقال : إنها صلاة كذا ؛ لأنها وسطى بالنسبة إلى أن قبلها كذا من الصلوات ، وبعدها كذا من الصلوات ، وهذا الرأي المحض ، والتخمين البحت لا ينبغي أن تسند إليه الأحكام الشرعية على فرض عدم وجود ما يعارضه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فكيف مع وجود ما هو في أعلى درجات الصحة ، والقوّة ، والثبوت ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ويالله العجب من قوم لم يكتفوا بتقصيرهم في علم السنة ، وإعراضهم عن خير العلوم ، وأنفعها ، حتى كلفوا أنفسهم التكلم على أحكام الله ، والتحري على تفسير كتاب الله بغير علم ولا هدى ، فجاءوا بما يضحك منه تارة ، ويبكي منه أخرى .

قوله : { وَقُومُوا لِلَّهِ قانتين } القنوت قيل : هو الطاعة ، أي : قوموا لله في صلاتكم طائعين ، قاله جابر بن زيد ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، والشافعي . وقيل : هو الخشوع ، قاله ابن عمر ، ومجاهد . ومنه قول الشاعر :

قانتاً لله يَدعُو ربه *** وَعَلى عَمْدٍ من النَّاسِ اعْتَزَلَ

وقيل : هو الدعاء ، وبه قال ابن عباس . وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على رعْلٍ ، وَذَكْوَان . وقال قوم : إن القنوت طول القيام ، وقيل معناه : ساكتين قاله السدي ، ويدل عليه حديث زيد بن أرقم في الصحيحين ، وغيرهما قال : كان الرجل يكلم صاحبه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الحاجة في الصلاة حتى نزلت هذه الآية : { وَقُومُوا لِلَّهِ قانتين } فأمرنا بالسكوت . وقيل : أصل القنوت في اللغة : الدوام على الشيء ، فكل معنى يناسب الدوام يصح إطلاق القنوت عليه . وقد ذكر أهل العلم أن القنوت ثلاثة عشر معنى ، وقد ذكرنا ذلك في شرح المنتقى ، والمتعين هاهنا حمل القنوت على السكوت للحديث المذكور .

/خ239