فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلۡجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبۡتَلِيكُم بِنَهَرٖ فَمَن شَرِبَ مِنۡهُ فَلَيۡسَ مِنِّي وَمَن لَّمۡ يَطۡعَمۡهُ فَإِنَّهُۥ مِنِّيٓ إِلَّا مَنِ ٱغۡتَرَفَ غُرۡفَةَۢ بِيَدِهِۦۚ فَشَرِبُواْ مِنۡهُ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُۥ هُوَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ قَالُواْ لَا طَاقَةَ لَنَا ٱلۡيَوۡمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦۚ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (249)

و " فصل " معناه : خرج بهم ، فَصَلْتُ الشيء ، فانفصل أي : قطعته ، فانقطع ، وأصله مُتَعَدٍّ ، يقال فصل نفسه ، ثم استعمل استعمال اللازم كانفصل ، وقيل : إن فصل يستعمل لازماً ، ومتعدياً ، يقال : فصل عن البلد فصولاً ، وفصل نفسه فصلاً . والابتلاء : الاختبار .

والنهر : قيل : هو بين الأردن ، وفلسطين ، وقرأه الجمهور { بنهر } بفتح الهاء . وقرأ حميد ، ومجاهد ، والأعرج بسكون الهاء . والمراد بهذا الابتلاء : اختبار طاعتهم ، فمن أطاع في ذلك الماء أطاع فيما عداه ، ومن عصى في هذا ، وغلبته نفسه ، فهو بالعصيان في سائر الشدائد أحرى ، ورخص لهم في الغرفة ؛ ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع ، وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال ، وفيه أن الغرفة تكف سورة العطش عند الصابرين على شظف العيش الدافعين أنفسهم عن الرفاهية .

فالمراد بقوله : { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ } أي : كرع ، ولم يقتصر على الغرفة ، و«من » ابتدائية . ومعنى قوله : { فَلَيْسَ مِنّى } أي : ليس من أصحابي . من قولهم : فلان من فلان ، كأنه بعضه لاختلاطهما ، وطول صحبتهما ، وهذا مَهْيَع في كلام العرب معروف ، ومنه قول الشاعر :

إذا حَاولْتَ في أسَدٍ فجُوراً *** فَإني لستُ مِنْكَ وَلستَ منِّي

وقوله : { وَمَن لمْ يَطْعَمْهُ } يقال طعمت الشيء أي : ذقته ، وأطعمته الماء أي : أذقته ، وفيه دليل على أن الماء يقال له طعام . والاغتراف : الأخذ من الشيء باليد ، أو بآلة ، والغرف مثل الاغتراف ، والغَرفة المرة الواحدة . وقد قرئ بفتح الغين ، وضمها ، فالفتح للمرة ، والضم اسم للشيء المغترف ، وقيل : بالفتح الغَرفة بالكف الواحدة ، وبالضم : الغرفة بالكفين ، وقيل : هما لغتان بمعنى واحد ، ومنه قول الشاعر :

لا يَدْلفون إلى ماء بآنية *** إلا اغْتِرافاً من الغُدران بالرَّاح

قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } سيأتي بيان عددهم ، وقرئ «إلا قليل » ولا وجه له إلا ما قيل من أنه من هجر اللفظ إلى جانب المعنى أي : لم يعطه إلا قليل ، وهو تعسف . قوله : { فَلَمَّا جَاوَزَهُ } أي : جاوز النهر طالوت : { والذين ءامَنُوا مَعَهُ } وهم القليل الذين أطاعوه ، ولكنهم اختلفوا في قوّة اليقين ، فبعضهم قال : { لاَ طَاقَةَ لَنَا } و { قَالَ الذين يَظُنُّونَ } أي : يتيقنون { أَنَّهُم مُلاَقُوا الله } والفئة : الجماعة ، والقطعة منهم من فأوْتُ رأسه بالسيف أي : قطعته .

/خ252