فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (256)

قد اختلف أهل العلم في قوله : { لا إِكْرَاهَ فِى الدين } على أقوال : الأوّل أنها منسوخة ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام ، وقاتلهم ، ولم يرض منهم إلا بالإسلام ، والناسخ لها قوله تعالى : { يا أيها النبى جاهد الكفار والمنافقين } [ التوبة : 73 ، التحريم : 9 ] وقال تعالى : { يا أيها الذين ءامَنُوا قَاتِلُوا الذين يَلُونَكُمْ منَ الكفار وَلِيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } [ التوبة : 123 ] وقال : { سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِى بَأسٍ شَدِيدٍ تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ } [ الفتح : 16 ] ، وقد ذهب إلى هذا كثير من المفسرين . القول الثاني : أنها ليست بمنسوخة ، وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة ، وأنهم لا يُكْرَهون على الإسلام إذا أدّوا الجزية ، بل الذين يُكْرَهون هم أهل الأوثان ، فلا يقبل منهم إلا الإسلام ، أو السيف ، وإلى هذا ذهب الشعبي ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك . القول الثالث أن هذه الآية في الأنصار خاصة ، وسيأتي بيان ما ورد في ذلك . القول الرابع : أن معناها : لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف إنه مكره ، فلا إكراه في الدين . القول الخامس : أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا على الإسلام . وقال ابن كثير في تفسيره : أي : لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام ، فإنه بيِّن واضح جليُّ دلائله ، وبراهينه لا تحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه ، بل من هداه الله للإسلام ، وشرح صدره ، ونوّر بصيرته دخل فيه على بينة ، ومن أعمى الله قلبه ، وختم على سمعه ، وبصره ، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً ، وهذا يصلح أن يكون قولاً سادساً . وقال في الكشاف في تفسيره هذه الآية : أي : لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار ، والقسر ، ولكن على التمكين ، والاختيار ، ونحوه قوله : { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [ يونس : 99 ] أي : لو شاء لقسرهم على الإيمان ، ولكن لم يفعل ، وبني الأمر على الاختيار ، وهذا يصلح أن يكون قولاً سابعاً .

والذي ينبغي اعتماده ، ويتعين الوقوف عنده : أنها في السبب الذي نزلت لأجله محكمة غير منسوخة ، وهو أن المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد ، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّده ، فلما أجليت يهود بني نضير كان فيهم من أبناء الأنصار ، فقالوا : لا ندع أبناءنا ، فنزلت ، أخرجه أبو داود ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وابن مردويه ، والبيهقي في السنن ، والضياء في المختارة عن ابن عباس . وقد وردت هذه القصة من وجوه ، حاصلها ما ذكره ابن عباس مع زيادات تتضمن أن الأنصار : قالوا إنما جعلناهم على دينهم أي : دين اليهود ، ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا ، وأن الله جاء بالإسلام ، فلنكرههم ؛ فلما نزلت خيرّ الأبناءَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يكرههم على الإسلام ، وهذا يقتضي أن أهل الكتاب لا يكرهون على الإسلام إذا اختاروا البقاء على دينهم ، وأدّوا الجزية .

وأما أهل الحرب ، فالآية وإن كانت تعمهم ؛ لأن النكرة في سياق النفي ، وتعريف الدين يفيدان ذلك ، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، لكن قد خص هذا العموم بما ورد من آيات في إكراه أهل الحرب من الكفار على الإسلام .

قوله : { قَد تبَيَّنَ الرشد مِنَ الغيّ } الرشد هنا : الإيمان ، والغيّ : الكفر أي : قد تميز أحدهما من الآخر . وهذا استئناف يتضمن التعليل لما قبله . والطاغوت : فعلوت من طغى يطغي ، ويطغو : إذا جاوز الحدّ . قال سيبويه : هو اسم مذكر مفرد أي : اسم جنس يشمل القليل ، والكثير ، وقال أبو علي الفارسي : إنه مصدر كرهبوت ، وجبروت يوصف به الواحد ، والجمع ، وقلبت لامه إلى موضع العين ، وعينه إلى موضع اللام كجبذ ، وجذب ، ثم تقلب الواو ألفاً لتحركها ، وتحرك ما قبلها ، فقيل : طاغوت ، واختار هذا القول النحاس ، وقيل : أصل الطاغوت في اللغة مأخوذ من الطغيان يؤدي معناه من غير اشتقاق ، كما قيل : لآلىء من اللؤلؤ . وقال المبرد : هو جمع . قال ابن عطية : وذلك مردود . قال الجوهري : والطاغوت : الكاهن ، والشيطان ، وكل رأس في الضلال ، وقد يكون واحداً . قال الله تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطاغوت وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ } [ النساء : 60 ] وقد يكون جمعاً .

قال الله تعالى : { أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت } والجمع الطواغيت أي : فمن يكفر بالشيطان ، أو الأصنام ، أو أهل الكهانة ، ورءوس الضلالة ، أو بالجميع { وَيُؤْمِن بالله } عزّ وجلّ بعد ما تميز له الرشد من الغيّ ، فقد فاز ، وتمسك بالحبل الوثيق أي : المحكم . والوثقى : فعلى من الوثاقة ، وجمعها وُثَق مثل الفضلى ، والفُضَل . وقد اختلف المفسرون في تفسير العروة الوثقى بعد اتفاقهم على أن ذلك من باب التشبيه ، والتمثيل لما هو معلوم بالدليل بما هو مدرك بالحاسة ، فقيل : المراد بالعروة الإيمان . وقيل : الإسلام . وقيل : لا إله إلا الله ، ولا مانع من الحمل على الجميع . والانفصام : الانكسار من غير بينونة . قال الجوهري : فصم الشيء : كسره من غير أن يبين . وأما القصم بالقاف ، فهو الكسر مع البينونة ، وفسر صاحب الكشاف الانفصام بالانقطاع .

/خ157