قد اختلف أهل العلم في قوله : { لا إِكْرَاهَ فِى الدين } على أقوال : الأوّل أنها منسوخة ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام ، وقاتلهم ، ولم يرض منهم إلا بالإسلام ، والناسخ لها قوله تعالى : { يا أيها النبى جاهد الكفار والمنافقين } [ التوبة : 73 ، التحريم : 9 ] وقال تعالى : { يا أيها الذين ءامَنُوا قَاتِلُوا الذين يَلُونَكُمْ منَ الكفار وَلِيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } [ التوبة : 123 ] وقال : { سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِى بَأسٍ شَدِيدٍ تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ } [ الفتح : 16 ] ، وقد ذهب إلى هذا كثير من المفسرين . القول الثاني : أنها ليست بمنسوخة ، وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة ، وأنهم لا يُكْرَهون على الإسلام إذا أدّوا الجزية ، بل الذين يُكْرَهون هم أهل الأوثان ، فلا يقبل منهم إلا الإسلام ، أو السيف ، وإلى هذا ذهب الشعبي ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك . القول الثالث أن هذه الآية في الأنصار خاصة ، وسيأتي بيان ما ورد في ذلك . القول الرابع : أن معناها : لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف إنه مكره ، فلا إكراه في الدين . القول الخامس : أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا على الإسلام . وقال ابن كثير في تفسيره : أي : لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام ، فإنه بيِّن واضح جليُّ دلائله ، وبراهينه لا تحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه ، بل من هداه الله للإسلام ، وشرح صدره ، ونوّر بصيرته دخل فيه على بينة ، ومن أعمى الله قلبه ، وختم على سمعه ، وبصره ، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً ، وهذا يصلح أن يكون قولاً سادساً . وقال في الكشاف في تفسيره هذه الآية : أي : لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار ، والقسر ، ولكن على التمكين ، والاختيار ، ونحوه قوله : { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [ يونس : 99 ] أي : لو شاء لقسرهم على الإيمان ، ولكن لم يفعل ، وبني الأمر على الاختيار ، وهذا يصلح أن يكون قولاً سابعاً .
والذي ينبغي اعتماده ، ويتعين الوقوف عنده : أنها في السبب الذي نزلت لأجله محكمة غير منسوخة ، وهو أن المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد ، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّده ، فلما أجليت يهود بني نضير كان فيهم من أبناء الأنصار ، فقالوا : لا ندع أبناءنا ، فنزلت ، أخرجه أبو داود ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وابن مردويه ، والبيهقي في السنن ، والضياء في المختارة عن ابن عباس . وقد وردت هذه القصة من وجوه ، حاصلها ما ذكره ابن عباس مع زيادات تتضمن أن الأنصار : قالوا إنما جعلناهم على دينهم أي : دين اليهود ، ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا ، وأن الله جاء بالإسلام ، فلنكرههم ؛ فلما نزلت خيرّ الأبناءَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يكرههم على الإسلام ، وهذا يقتضي أن أهل الكتاب لا يكرهون على الإسلام إذا اختاروا البقاء على دينهم ، وأدّوا الجزية .
وأما أهل الحرب ، فالآية وإن كانت تعمهم ؛ لأن النكرة في سياق النفي ، وتعريف الدين يفيدان ذلك ، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، لكن قد خص هذا العموم بما ورد من آيات في إكراه أهل الحرب من الكفار على الإسلام .
قوله : { قَد تبَيَّنَ الرشد مِنَ الغيّ } الرشد هنا : الإيمان ، والغيّ : الكفر أي : قد تميز أحدهما من الآخر . وهذا استئناف يتضمن التعليل لما قبله . والطاغوت : فعلوت من طغى يطغي ، ويطغو : إذا جاوز الحدّ . قال سيبويه : هو اسم مذكر مفرد أي : اسم جنس يشمل القليل ، والكثير ، وقال أبو علي الفارسي : إنه مصدر كرهبوت ، وجبروت يوصف به الواحد ، والجمع ، وقلبت لامه إلى موضع العين ، وعينه إلى موضع اللام كجبذ ، وجذب ، ثم تقلب الواو ألفاً لتحركها ، وتحرك ما قبلها ، فقيل : طاغوت ، واختار هذا القول النحاس ، وقيل : أصل الطاغوت في اللغة مأخوذ من الطغيان يؤدي معناه من غير اشتقاق ، كما قيل : لآلىء من اللؤلؤ . وقال المبرد : هو جمع . قال ابن عطية : وذلك مردود . قال الجوهري : والطاغوت : الكاهن ، والشيطان ، وكل رأس في الضلال ، وقد يكون واحداً . قال الله تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطاغوت وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ } [ النساء : 60 ] وقد يكون جمعاً .
قال الله تعالى : { أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت } والجمع الطواغيت أي : فمن يكفر بالشيطان ، أو الأصنام ، أو أهل الكهانة ، ورءوس الضلالة ، أو بالجميع { وَيُؤْمِن بالله } عزّ وجلّ بعد ما تميز له الرشد من الغيّ ، فقد فاز ، وتمسك بالحبل الوثيق أي : المحكم . والوثقى : فعلى من الوثاقة ، وجمعها وُثَق مثل الفضلى ، والفُضَل . وقد اختلف المفسرون في تفسير العروة الوثقى بعد اتفاقهم على أن ذلك من باب التشبيه ، والتمثيل لما هو معلوم بالدليل بما هو مدرك بالحاسة ، فقيل : المراد بالعروة الإيمان . وقيل : الإسلام . وقيل : لا إله إلا الله ، ولا مانع من الحمل على الجميع . والانفصام : الانكسار من غير بينونة . قال الجوهري : فصم الشيء : كسره من غير أن يبين . وأما القصم بالقاف ، فهو الكسر مع البينونة ، وفسر صاحب الكشاف الانفصام بالانقطاع .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.