فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{لِّلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَإِن تُبۡدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ يُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُۖ فَيَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (284)

قوله : { للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض } قد تقدّم تفسيره . قوله : { وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ } إلى آخر الآية ، ظاهره أن الله يحاسب العباد على ما أضمرته أنفسهم ، أو أظهرته من الأمور التي يحاسب عليها ، فيغفر لمن يشاء منهم ما يغفره منها ، ويعذب من يشاء منهم بما أسرَّ ، أو أظهر منها ، هذا معنى الآية على مقتضى اللغة العربية .

وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية على أقوال : الأول : أنها ، وإن كانت عامة ، فهي : مخصوصة بكتمان الشهادة ، وأن الكاتم للشهادة يحاسب على كتمه ، سواء أظهر للناس أنه كاتم للشهادة ، أو لم يظهر . وقد روى هذا عن ابن عباس ، وعكرمة ، والشعبي ومجاهد ، وهو : مردود بما في الآية من عموم اللفظ ، ولا يصلح ما تقدم قبل هذه الآية من النهي عن كتم الشهادة أن تكون مختصة به . والقول الثاني أن ما في الآية مختص بما يطرأ على النفوس من الأمور التي هي بين الشك ، واليقين ، قاله مجاهد ، وهو أيضاً : تخصيص بلا مخصِّص . والقول الثالث : أنها محكمة عامة ، ولكن العذاب على ما في النفس يختص بالكفار ، والمنافقين . حكاه الطبري عن قوم ، وهو أيضاً : تخصيص بلا مخصِّص ، فإن قوله : { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } لا يختص ببعض معين إلا بدليل . والقول الرابع : أن هذه الآية منسوخة ، قاله ابن مسعود ، وعائشة ، وأبو هريرة ، والشعبي ، وعطاء ، ومحمد بن سيرين ، ومحمد بن كعب ، وموسى بن عبيدة ، وهو مرويّ ، عن ابن عباس ، وجماعة من الصحابة ، والتابعين ، وهذا هو الحق لما سيأتي من التصريح بنسخها ، ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الله غفر لهذه الأمة ما حدثت به أنفسها » قوله : { يُحَاسِبْكُم بِهِ الله } قدم الجار ، والمجرور على الفاعل لإظهار العناية به ، وقدم الإبداء على الإخفاء ؛ لأن الأصل في الأمور التي يحاسب عليها هو الأعمال البادية ، وأما تقديم الإخفاء في قوله سبحانه : { قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله } [ آل عمران : 29 ] فلكون العلم يتعلق بالأعمال الخافية ، والبادية على السوية . وقدم المغفرة على التعذيب ؛ لكون رحمته سبقت غضبه ، وجملة قوله : { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } مستأنفة ، أي : فهو يغفر ، وهي متضمنة لتفصيل ما أجمل في قوله : { يُحَاسِبْكُم بِهِ الله } وهذا على قراءة ابن عامر ، وعاصم . وأما على قراءة ابن كثير ، ونافع ، وأبي عمرو ، وحمزة ، والكسائي بجزم الراء ، والباء ، فالفاء عاطفة لما بعدها على المجزوم قبلها ، وهو : جواب الشرط ، أعني قوله : { يُحَاسِبْكُم بِهِ الله } . وقرأ ابن عباس ، والأعرج ، وأبو العالية ، وعاصم الجحدري بنصب الراء ، والباء في قوله : { فَيَغْفِرُ } { وَيُعَذّبَ } على إضمار أن عطفاً على المعنى . وقرأ طلحة بن مصرف يغفر بغير فاء على البدل ، وبه قرأ الجعفي ، وخلاد .

وقد أخرج أحمد ، ومسلم ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن أبي هريرة قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ } الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جثوا على الركب ، فقالوا : يا رسول الله كُلِّفْنا من الأعمال ما نطيق الصلاة ، والصيام ، والجهاد ، والصدقة ، وقد أنزل الله عليك هذه الآية ولا نطيقها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أتريدون أن تقولوا ، كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا ، وعصينا ، بل قولوا : { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير } » فلما اقترأها القوم ، وذلك بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها : { آمنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن ربّهِ } الآية ، فلما فعلوا ذلك نسخها الله ، فأنزل : { لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } إلى آخرها . وأخرج أحمد ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم ، والبيهقي ، عن ابن عباس مرفوعاً نحوه ، وزاد ، فأنزل { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَانَا } قال : قد فعلت : { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا } قال : قد فعلت : { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قال : قد فعلت : { واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنا } الآية ، قال : قد فعلت . وقد رويت هذه القصة ، عن ابن عباس من طرق . وأخرج البخاري ، والبيهقي عن مروان الأصفر ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحسبه ابن عمر : { إِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } قال : نسختها الآية التي بعدها . وأخرج عبد بن حميد ، والترمذي ، عن علي نحوه . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، والطبراني ، عن ابن مسعود ، نحوه . وأخرج ابن جرير ، عن عائشة نحوه أيضاً .

وبمجموع ما تقدم يظهر لك ضعف ما أخرجه سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال : نزلت في كتمان الشهادة ، فإنها لو كانت كذلك لم يشتد الأمر على الصحابة . وعلى كل حال ، فبعد هذه الأحاديث المصرّحة بالنسخ ، والناسخ لم يبق مجال لمخالفتها ، ومما يؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين ، والسنن الأربع من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم ، أو تعمل به » وأخرج ابن جرير ، عن عائشة قالت : كل عبدٍ همَّ بسوءٍ ، ومعصيةٍ ، وحدَّث نفسه به حاسبه الله في الدنيا يخاف ، ويحزن ويشتدُّ همُّه لا يناله من ذلك شيئاً ، كما هم بالسوء ، ولم يعمل منه بشيء . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، عنها نحوه ، والأحاديث المتقدمة المصرِّحة بالنسخ تدفعه . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس قال : إن الله يقول يوم القيامة : إن كتابي لم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظهر منها ، فأمَّا ما أسررتم في أنفسكم ، فأنا أحاسبكم به اليوم ، فأغفر لمن شئت ، وأعذب من شئت ، وهو مدفوع بما تقدم .