فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{۞وَإِذَا رَأَيۡتَهُمۡ تُعۡجِبُكَ أَجۡسَامُهُمۡۖ وَإِن يَقُولُواْ تَسۡمَعۡ لِقَوۡلِهِمۡۖ كَأَنَّهُمۡ خُشُبٞ مُّسَنَّدَةٞۖ يَحۡسَبُونَ كُلَّ صَيۡحَةٍ عَلَيۡهِمۡۚ هُمُ ٱلۡعَدُوُّ فَٱحۡذَرۡهُمۡۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (4)

{ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجسامهم } أي هيئاتهم ومناظرهم ، يعني : أن لهم أجساماً تعجب من يراها لما فيها من النضارة والرونق { وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } فتحسب أن قولهم حقّ وصدق لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم ، وقد كان عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين فصيحاً جسيماً جميلاً ، وكان يحضر مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإذا قال سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم مقالته . قال الكلبي : المراد عبد الله بن أبيّ وجدّ بن قيس ، ومعتب بن قيس كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة ، والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، وقيل : لكلّ من يصلح له ، ويدلّ عليه قراءة من قرأ ( يُسْمَعْ ) على البناء للمفعول ، وجملة : { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } مستأنفة لتقرير ما تقدّم من أن أجسامهم تعجب الرائي وتروق الناظر ، ويجوز أن تكون في محل رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف ، شبّهوا في جلوسهم في مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستندين بها بالخشب المنصوبة المسندة إلى الحائط التي لا تفهم ولا تعلم ، وهم كذلك لخلوّهم عن الفهم النافع والعلم الذي ينتفع به صاحبه ، قال الزجاج : وصفهم بتمام الصور ، ثم أعلم أنهم في ترك الفهم والاستبصار بمنزلة الخشب . قرأ الجمهور { خُشُبٌ } بضمتين ، وقرأ أبو عمرو والكسائي وقنبل بإسكان الشين ، وبها قرأ البراء بن عازب ، واختارها أبو عبيد لأن واحدتها خشبة كبدنة وبدن ، واختار القراءة الأولى أبو حاتم . وقرأ سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب بفتحتين ، ومعنى { مُّسَنَّدَةٌ } أنها أسندت إلى غيرها ، من قولهم : أسندت كذا إلى كذا ، والتشديد للتكثير . ثم عابهم الله سبحانه بالجبن فقال : { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } أي يحسبون كل صيحة يسمعونها واقعة عليهم نازلة بهم لفرط جبنهم ورعب قلوبهم ، وفي المفعول الثاني للحسبان وجهان : أحدهما أنه عليهم ، ويكون قوله : { هُمُ العدو } جملة مستأنفة لبيان أنهم الكاملون في العداوة لكونهم يظهرون غير ما يبطنون ، والوجه الثاني : أن المفعول الثاني للحسبان هو قوله : { هُمُ العدوّ } ، ويكون قوله : { عَلَيْهِمْ } متعلقاً ب { صيحة } ، وإنما جاء بضمير الجماعة باعتبار الخبر ، وكان حقه أن يقال : هو العدوّ ، والوجه الأوّل أولى . قال مقاتل والسديّ : أي إذا نادى منادٍ في العسكر أو انفلتت دابة أو أنشدت ضالة ظنوا أنهم المرادون لما في قلوبهم من الرعب ، ومن هذا قول الشاعر :

مازلت تحسب كلّ شيء بعدهم *** خيلا تكرّ علهم ورجالا

وقيل : كان المنافقون على وجل من أن ينزل فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وأموالهم . ثم أمر الله سبحانه رسوله بأن يأخذ حذره منهم فقال : { فاحذرهم } أن يتمكنوا من فرصة منك أو يطلعوا على شيء من أسرارك لأنهم عيون لأعدائك من الكفار . ثم دعا عليهم بقوله : { قاتلهم الله أنى يُؤْفَكُونَ } أي لعنهم الله ، وقد تقول العرب هذه الكلمة على طريقة التعجب ، كقولهم : قاتله الله من شاعر ، أو ما أشعره ، وليس بمراد هنا ، بل المراد ذمهم وتوبيخهم ، وهو طلب من الله سبحانه طلبه من ذاته عزّ وجلّ أن يلعنهم ويخزيهم ، أو هو تعليم للمؤمنين أن يقولوا ذلك ؛ ومعنى { أنى يُؤْفَكُونَ } كيف يصرفون عن الحق ويميلون عنه إلى الكفر . قال قتادة : معناه يعدلون عن الحق . وقال الحسن معناه يصرفون عن الرشد .