تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (27)

26

المفردات :

قفينا : أتبعنا .

الإنجيل : الكتاب الذي أنزله الله على عيسى وفيه شريعته .

رأفة : دفع الشر باللطف واللّين .

ورحمة : جلب الخير والمودة والحسنى .

رهبانية : هي الانقطاع عن الناس للعبادة ، واتخاذ الصوامع في الجبال وغيرها ، والامتناع عن لذيذ الطعام والشراب ، واعتزال النساء ، والتعبد في الغيران والكهوف .

ابتدعوها : استحدثوها ولم تكن في دينهم .

إلا ابتغاء رضوان الله : استثناء منقطع ، أي : لكنّهم ابتدعوها بقصد مرضاة الله .

فما رعوها : لم يرعها الجميع ، ولم يحافظوا عليها .

فآتينا الذين آمنوا : آتينا الذين آمنوا بعيسى الإيمان الصحيح .

منهم : من أتباعه .

فاسقون : خارجون عن حال الاتباع .

التفسير :

27- { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } .

بعد نوح وإبراهيم أرسلنا رسلنا تترى ، رسولا بعد رسول ، كما ذكر القرآن الكريم جهاد الرسل وكفاحهم في دعوة أقوامهم إلى الإيمان ، وتحمّل الرسل الإيذاء ، وصبروا وصابروا حتى نصرهم الله .

وكان عيسى ابن مريم آخر أنبياء بني إسرائيل ، وقد بشر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأعطاه الله الإنجيل مشتملا على صيحات روحانية ، وسكب الله في قلوب أتباع عيسى ( الرأفة ) وهي الشفقة واللين ، و( الرحمة ) وهي التعاطف فيما بينهم ، كما قال سبحانه عن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم : رحماء بينهم . ( الفتح : 29 ) .

وتعرض أبتاع عيسى للقتل والتعذيب ، فاختاروا طائعين ( الرهبانية ) وهي ترك الشهوات والنساء ولذائذ الطعام ، وهاجروا إلى الصوامع والأديرة في الصحراء ، متعبدين لله تعالى ، وما طلب الله منهم ذلك ، وما فرضه عليهم ، لكنهم نذروه والتزموا به أمام الله ، رغبة في رضوانه ومرضاته .

ثم تحولت الرهبانية بعد فترة إلى طقوس خالية من الروح ، والله لا ينظر إلى الصورة والشكل ، وإنما ينظر إلى القلب ، وما يسكن في الروح والفؤاد .

{ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ . . . }

والاستثناء هنا منقطع ، والمعنى : ما كتبنا عليهم الرهبانية ، ولكنهم فعلوها من تلقاء أنفسهم ابتغاء رضوان الله ، ونلحظ إنصاف القرآن الكريم لأتباع عيسى ، حيث وصفهم بالرأفة والرحمة و والرهبانية ، والتقشّف رغبة في مرضاة الله .

ونجد مثل ذلك في القرآن الكريم ، والحديث الشريف ، كما حفظ التاريخ صورا يرويها بها الرواة عن النجاشي ، وعن وفد نجران ، وعن أفراد ممن وفدوا على دار الإسلام بعد ظهوره راغبين في الإسلام بحكم ما استقر في قلوبهم من الحق مُذ كانوا أتباع عيسى بن مريم بحق .

{ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا . . . }

فما حافظوا على هذه الرهبانية التي ألزموا أنفسهم بها ، ولم يستمروا في إخلاصهم وتجردهم ، ورغبتهم في مرضاتهم لربهم ، " بل أصبحت الرهبانية في الغالب طقوسا وشعائر خالية من الروح ، واتخذها الكثيرون مظهرا عاريا من الحقيقة ، ولم يصبر على تكاليفها إلا عدد قليل منهم " 25

{ فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } .

فأعطينا المؤمنين إيمانا صحيحا ثوابهم الذي يستحقونه بالإيمان ، وكثير من هؤلاء المترهبين ، فَاسِقُونَ . خارجون عن حدود الله وطاعته ، بأكلهم أموال الناس بالباطل ، وبسلوكهم المنحرف .

روى الحافظ أبو يعلى ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " لا تشدّدوا على أنفسكم ، فيشدّد عليكم ، فإن قوما شدّدوا على أنفسهم فشدِّد عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات " .

{ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ . . . }

وروى الإمام أحمد ، عن إياس بن مالك ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لكل نبي رهبانية ، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله عز وجل " 26

وقد أورد الحافظ ابن كثير طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة في تفسير هذه الآية ، وكذلك ابن جرير الطبري والقرطبي ، وهي تفيد أن بني إسرائيل افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة ، وأن ثلاث فرق من أتباع عيسى عليه السلام التزموا بالحق وأتباع الدين الحق .

الفرقة الأولى : قاتلت الجبابرة ، فقُتلت وصبرت ونجت .

الفرقة الثانية : لم تكن لها قوة بالقتال ، فقامت بين الملوك والجبابرة ، فدعوا إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم ، فقتلت وقطّعت بالمناشير ، وحرّقت بالنيران ، فصبرت ونجت .

الفرقة الثالثة : لم تكن لها قوة ، ولم تطق القيام بالقسط ، فلحقت بالجبال فتعبدت وترهبت ، وهم الذين ذكر الله تعالى : وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ . . .

أخرجه ابن أبي حاتم ، ورواه ابن جرير بطريق أخرى ولفظ آخر .

وأخرج الإمام أحمد أن أبا سعيد الخدري قال : يا رسول الله ، أوصني ، فقال صلى الله عليه وسلم : " أوصيك بتقوى الله فإنه رأس كل شيء ، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام ، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض " 27

 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (27)

{ وقفينا } ذكر في البقرة .

{ وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة } هذا ثناء عليهم بمحبة بعضهم في بعض كما وصف أصحاب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، بأنهم رحماء بينهم .

{ ورهبانية ابتدعوها } الرهبانية هي الانفراد في الجبال والانقطاع عن الناس في الصوامع ، ورفض النساء وترك الدنيا ومعنى { ابتدعوها } أي : أحدثوها من غير أن يشرعها الله لهم ، وإعراب رهبانية معطوف على { رأفة ورحمة } أي : جعل الله في قلوبهم الرأفة والرحمة والرهبانية و{ ابتدعوها } صفة للرهبانية والجعل هنا بمعنى الخلق والمعتزلة يعربون رهبانية مفعولا بفعل مضمر يفسره ابتدعوها لأن مذهبهم أن الإنسان يخلق أفعاله فأعربوها على مذهبهم وكذلك أعربها أبو علي الفارسي وذكر الزمخشري الوجهين .

{ ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله } كتبنا هنا بمعنى فرضنا وشرعنا وفي هذا قولان : أحدهما : أن الاستثناء منقطع والمعنى ما كتبنا عليهم الرهبانية ، ولكنهم فعلوها من تلقاء أنفسهم ابتغاء رضوان الله .

والآخر : أن الاستئناف متصل والمعنى : كتبناها عليهم ابتغاء رضوان الله ، والأول أرجح لقوله : { ابتدعوها } ولقراءة عبد الله بن مسعود ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها .

{ فما رعوها حق رعايتها } أي : لم يدوموا عليها ولم يحافظوا على الوفاء بها يعني أن جميعهم لم يرعوها وإن رعاها بعضهم والضمير في رعوها للذين ابتدعوا الرهبانية وكان يجب عليهم إتمامه وإن لم يكتبها الله سبحانه وتعالى عليهم ، لأن من دخل في شيء من النوافل يجب عليه إتمامه وقيل : الضمير لمن جاء بعد الذين ابتدعوا الرهبانية من أتباعهم .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (27)

قوله : { ثم قفينا على آثارهم برسلنا } يعني ، ثم أتبعنا على آثار نوح وإبراهيم برسلنا الذين أرسلناهم من بعدهما ، كموسى وإلياس وداود وسليمان ويونس وغيرهم من المرسلين { وقفينا بعيسى ابن مريم } أي أتبعنا على آثارهم بعيسى ابن مريم ، فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه مريم { وآتيناه الإنجيل } وهو الكتاب الذي أنزله الله هداية لبني إسرائيل .

قوله : { وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة } جعل الله في قلوب الذين آمنوا به واتبعوا ما جاءهم به وهم الحواريون ، رأفة وهي أشد الرحمة ، أو الرفق واللين . والرحمة ، الشفقة { ورهبانية ابتدعوها } رهبانية ، منصوب بفعل مقدر . وتقديره : ابتدعوا رهبانية ابتدعوها{[4468]} أي أحدثوها من قبل أنفسهم { ما كتبناها عليهم } أي ما افترضنا عليهم تلك الرهبانية { إلا ابتغاء رضوان الله } أي لكنهم أحدثوها من عند أنفسهم طلبا لمرضاة الله فالاستثناء منقطع . والرهبانية والترهب بمعنى التعبد . ومن مظاهرها الاختصاء واعتناق السلاسل ولبس المسوح وترك اللحم ونحو ذلك من وجوه التقشف وحرمان النفس{[4469]} .

قوله : { فما رعوها حق رعايتها } أي ما قاموا بها حق القيام . أو لم يرعوا الرهبانية التي ابتدعوها حق الرعاية . ولكنهم بدّلوا وخالفوا دين الله الذي بعث به عيسى فتنصروا وتهودوا ودخلوا في دين الملوك الذين غيروا وبدلوا وتركوا الترهب .

قوله : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } أي أعطينا الذين آمنوا بالله ورسوله من هؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية ورعوها ، ثوابهم لصدق إيمانهم وابتغائهم رضوان الله . قوله : { وكثير منهم فاسقون } كثير منهم خارجون عن دين الله الحق وعن طاعته سبحانه{[4470]} .


[4468]:البيان لابن الأنباري جـ 2 ص 425.
[4469]:القاموس المحيط جـ 1 ص 79 ومختار الصحاح ص 59.
[4470]:تفسير الطبري جـ 27 ص 140 وفتح القدير جـ 5 ص 178.