ولا تستوي الحسنة : في الجزاء مع السيئة .
ادفع بالتي هي أحسن : قابل السيئة بالتي هي أحسن في دفعها .
34-{ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } .
الحسنة والسيئة متفاوتتان ، فحاول أن تردّ على الإساءة بالإحسان ، وعلى الغلظة بالملاينة ، وعلى الفحش بالعلم والصبر ، أو تقول له : إن كنت صادقا غفر الله لي ، وإن كنت كاذبا غفر الله لك ، إلى غير ذلك من الحكمة في مقابلة الناس ومعاملتهم ، فإذا فعلت ذلك تحوّل العدوّ المشاقّ إلى صديق مشفق .
إن العداوة تستحيل مودة بتدارك الهفوات بالحسنات .
وقيل : إن الآية نزلت في أبي سفيان بن حرب ، كان عدوّا مبينا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسقط في الأسر قبيل الفتح ، فأحسن النبي صلى الله عليه وسلم معاملته ، وقال : " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن " فتحول إلى صديق معين .
وينبغي أن نبحث عن الحكمة في تصرّفاتنا وأعمالنا ، فمن الناس من لا تصلح معهم الملاينة ، ولا يصلح معهم إلا المخاشنة ، وفي مثل هؤلاء قال القرآن الكريم : { وجزاء سيئةٍ سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله . . . } . ( الشورى : 40 ) .
وقال تعالى : { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل * إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق . . . } . ( الشورى : 41 ، 42 ) .
ادفع بالتي هي أحسن : رُدَّ الإساءة باللين والحسنى .
وبعد ذلك أعقب بالدعوة إلى حسن المعاملة بين الناس فقال :
{ وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة }
ولا تستوي الخَصلة الحسنة مع الخَصلة القبيحة ، ادفعْ أيها المؤمن الإساءة إن جاءتك بالقول الحسن والّلِين ، فإذا فعلتَ ذلك انقلب العدوُّ صديقاً حميما ، وناصرا مخلصا .
قوله عز وجل{ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة } قال الفراء : " لا " هاهنا صلة معناه : ولا تستوي الحسنة والسيئة ، يعني الصبر والغضب ، والحلم والجهل ، والعفو والإساءة . { ادفع بالتي هي أحسن } قال ابن عباس : أمر بالصبر عند الغضب ، وبالحلم عند الجهل ، وبالعفو عند الإساءة . { فإذا الذي بينك وبينه عداوة } ، يعني : إذا فعلت ذلك خضع لك عدوك ، وصار الذي بينك وبينه عداوة ، { كأنه ولي حميم } كالصديق والقريب . قال مقاتل بن حيان : نزلت في أبي سفيان ابن حرب وذلك أنه لان للمسلمين بعد شدة عداوته بالمصاهرة التي حصلت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أسلم فصار ولياً بالإسلام ، حميماً بالقرابة .
قوله تعالى : " ولا تستوي الحسنة ولا السيئة " قال الفراء : " لا " صلة أي " ولا تستوي الحسنة والسيئة " وأنشد :
ما كان يَرْضَى رسولُ الله فعلَهم *** والطَّيِّبَانِ أبو بكر ولا عمرُ
أراد أبو بكر وعمر ، أي لا يستوي ما أنت عليه من التوحيد ، وما المشركون عليه من الشرك . قال ابن عباس : الحسنة لا إله إلا الله ، والسيئة الشرك . وقيل : الحسنة الطاعة ، والسيئة الشرك . وهو الأول بعينه . وقيل : الحسنة المداراة ، والسيئة الغلظة . وقيل : الحسنة العفو ، والسيئة الانتصار . وقال الضحاك : الحسنة العلم ، والسيئة الفحش . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الحسنة حب آل الرسول ، والسيئة بغضهم . " ادفع بالتي هي أحسن " نسخت بآية السيف ، وبقي المستحب من ذلك : حسن العشرة والاحتمال والإغضاء . قال ابن عباس : أي ادفع بحلمك جهل من يجهل عليك . وعنه أيضا : هو الرجل يسب الرجل فيقول الآخر إن كنت صادقا فغفر الله لي ، وإن كنت كاذبا فغفر الله لك . وكذلك يروى في الأثر : أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال ذلك لرجل نال منه . وقال مجاهد : " بالتي هي أحسن " يعني السلام إذا لقي من يعاديه ؛ وقال عطاء . وقول ثالث ذكره القاضي أبو بكر بن العربي في الأحكام وهو المصافحة . وفي الأثر : ( تصافحوا يذهب الغل ) . ولم ير مالك المصافحة ، وقد اجتمع مع سفيان فتكلما فيها فقال سفيان : قد صافح رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفرا حين قدم من أرض الحبشة ، فقال له مالك : ذلك خاص . فقال له سفيان : ما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصنا ، وما عمه يعمنا ، والمصافحة ثابتة فلا وجه لإنكارها . وقد روى قتادة قال : قلت لأنس : هل كانت المصافحة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . وهو حديث صحيح . وفي الأثر : ( من تمام المحبة الأخذ باليد ) . ومن حديث محمد بن إسحاق وهو إمام مقدم ، عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي ، فقرع الباب فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عريانا يجر ثوبه - والله ما رأيته عريانا قبله ولا بعده - فاعتنقه وقبله .
قلت : قد روي عن مالك جواز المصافحة وعليها جماعة من العلماء . وقد مضى ذلك في " يوسف " {[13439]} وذكرنا هناك حديث البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من مسلمين يلتقيان فيأخذ أحدهما بيد صاحبه مودة بينهما ونصيحة إلا ألقيت ذنوبهما بينهما ) .
قوله تعالى : " فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم " أي قريب صديق . قال مقاتل : نزلت في أبي سفيان بن حرب ، كان مؤذيا للنبي صلى الله عليه وسلم ، فصار له وليا بعد أن كان عدوا بالمصاهرة التي وقعت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أسلم فصار وليا في الإسلام حميما بالقرابة . وقيل : هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام ، كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمره الله تعالى بالصبر عليه والصفح عنه . ذكره الماوردي . والأول ذكره الثعلبي والقشيري وهو أظهر ؛ لقوله تعالى : " فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم " . وقيل : كان هذا قبل الأمر بالقتال . قال ابن عباس : أمره الله تعالى في هذه الآية بالصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإساءة ، فإذا فعل الناس ذلك عصمهم الله من الشيطان ، وخضع لهم عدوهم . وروي أن رجلا شتم قنبرا مولى علي بن أبي طالب فناداه علي : يا قنبر دع شاتمك ، واله عنه ترضي الرحمن وتسخط الشيطان ، وتعاقب شاتمك ، فما عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه . وأنشدوا :
وللكَفُّ عن شَتْمِ اللئيمِ تَكَرُّمًا *** أضَرُّ له من شَتْمِهِ حين يُشْتَمُ
وما شيءٌ أحبُّ إلى سَفِيهٍ *** إذا سَبَّ الكريمَ من الجَوابِ
مُتَارَكةُ السفيه بلا جَوَابٍ *** أشدُّ على السفيه من السِّبَابِ
وقال محمود الوراق{[13440]} :
سأُلزِم نفسي الصَّفْحَ عن كل مُذْنِبٍ *** وإن كَثُرَتْ منهُ لدَيَّ الجَرَائِمُ
فما الناس إلا واحدٌ من ثلاثة *** شريفٌ ومَشْرُوفٌ ومِثْلٌ مُقَاوِمُ
فأما الذي فوقي فأعرِفُ قَدْرَهُ *** وأَتْبَعُ فيه الحَقَّ والحقُّ لازمُ
وأما الذي دوني فإن قال صُنْتُ عن *** إجابته عِرْضِي وإن لاَمَ لائمُ
وأما الذي مثلي فإن زلَّ أو هَفَا *** تَفَضَّلْتُ إن الفضلَ بالحِلْمِ حَاكِمُ
ولما كان التقدير : لا أحد أحسن قولا منه ، بل هو المحسن وحده ، فلا يستوي هذا المحسن وغيره أصلاً ، رداً عليهم أن حالهم أحسن من حال الدعاة إلى الله ، وكان القيام بتكميل الخلق يحتاج إلى جهاد للنفس عظيم من تحمل المشاق والصبر على الأذى ، وغير ذلك من جميع الأخلاق ، عطف عليه التفرقة بين عمليهما ترغيباً في الحسنات فقال : { ولا تستوي } أي وإن اجتهدت في التحرير والاعتبار { الحسنة } أي لا بالنسبة إلى أفراد جنسها ولا بالنسبة إلى عامليها عند وحدتها ، لتفاوت الحسنات في أنفسها ، والحسنة الواحدة باعتبار نيات العاملين لها واجتهادهم فيها ولا بالنسبة إلى غيرها ، وإلى ذلك أشار بالتأكيد في قوله : { ولا السيئة } أي في نفسها ولا بالنسبة إلى جنس آخر .
ولما أنتج هذا الحث على الإقبال على الحسن والإعراض عن السيء ، وأفهم أن كلاً من القسمين متفاوت الجزئيات متعالي الدرجات ، وكان الإنسان لا ينفك عن عوارض تحصل له من الناس ومن نفسه يحتاج إلى دفع بعضها ، أنتج عند قصد الأعلى فقال : { ادفع } أي كل ما يمكن أن يضرك من نفسك ومن الناس { بالتي } أي الخصال والأحوال التي { هي أحسن } على قدر الإمكان من الأعمال الصالحات فالعفو عن المسيء حسن ، والإحسان أحسن منه { فإذا الذي بينك وبينه عداوة } عظيمة قد ملأت ما بين البينين فاجأته حال كونه { كأنه ولي } أي قريب ما يفعل القريب { حميم * } أي في غاية القرب لا يدع مهماً إلا قضاه وسهله ويسره ، وشفا علله ، وقرب بعيده ، وأزال درنه ، كما يزيل الماء الحار الوسخ .