أن يشهد عليكم سمعكم : عندما كنتم تتخفون حال المعصية لم يكن ذلك خوفا من أن تشهد عليكم جوارحكم .
ولكن ظننتم أن الله لا يعلم : ولكنكم تخفيتم لظنكم أن الله لا يعلم كثيرا من خطاياكم ، مع أنه بكل شيء محيط .
22-{ وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون } .
هذه الآية من كلام الجوارح للكافرين والظالمين ، أو هي من كلام الله تعالى لهم .
عندما كنتم تختفون عن الناس ما كان يخطر ببالكم أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ، وما كنتم بمستطيعين أن تستتروا منها لو أردتم .
{ ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون } .
أي : اعتقدتم أنكم إذا اختفيتم واستترتم لا يطلّع الله على ذنوبكم ، أو لا يعلم الكثير منها مادامت مختفية .
{ وما كنتم تستترون . . . } أي تقول لهم جوارحهم يوم القيامة حين يلومونها على الشهادة عليهم : ما كنتم في الدنيا تخفون شيئا عنا ، مخافة أن نشهد عليكم بما ترتكبون من الكفر والمعاصي ؛ لأنكم كنتم
غير عالمين بشهادتنا عليكم . بل كنتم تستترون بالحيطان والحجب ؛ لاعتقادكم أنه تعالى لا يعلم خفيات أعمالكم ، وهذا هو الذي أهلككم فأصبحتم في الآخرة من الخاسرين .
{ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ } أي : وما كنتم تختفون عن شهادة أعضائكم عليكم ، ولا تحاذرون من ذلك . { وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ } بإقدامكم على المعاصي { أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ } فلذلك صدر منكم ما صدر .
قوله تعالى : " وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم " يجوز أن يكون هذا من قول الجوارح لهم : ويجوز أن يكون من قول الله عز وجل أو الملائكة . وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال : اجتمع عند البيت ثلاثة نفر : قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي ، قليل فقه قلوبهم ، كثير شحم بطونهم ، فقال أحدهم : أترون الله يسمع ما نقول ؟ فقال الآخر : يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا ، وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا ، فأنزل الله عز وجل : " وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم " الآية ، خرجه الترمذي فقال : اختصم عند البيت ثلاثة نفر . ثم ذكره بلفظه حرفا حرفا وقال : حديث حسن صحيح ، حدثنا هناد قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد قال : قال عبد الله : كنت مستترا بأستار الكعبة ، فجاء ثلاثة نفر كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم ، قرشي وختناه ثقفيان ، أو ثقفي وختناه قرشيان ، فتكلموا بكلام لم أفهمه ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع كلامنا هذا ، فقال الآخر : إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه ، وإذا لم نرفع أصواتنا لم يسمعه ، فقال الآخر : إن سمع منه شيئا سمعه كله فقال عبد الله : فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : " وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم " إلى قوله : " فأصبحتم من الخاسرين " قال : هذا حديث حسن صحيح . قال الثعلبي : والثقفي عبد ياليل ، وختناه ربيعة وصفوان بن أمية . ومعنى " تستترون " تستخفون في قول أكثر العلماء ، أي ما كنتم تستخفون من أنفسكم حذرا من شهادة الجوارح عليكم ؛ لأن الإنسان لا يمكنه أن يخفي من نفسه عمله ، فيكون الاستخفاء بمعنى ترك المعصية . وقيل : الاستتار بمعنى الاتقاء ، أي ما كنتم تتقون في الدنيا أن تشهد عليكم جوارحكم في الآخرة فتتركوا المعاصي خوفا من هذه الشهادة . وقال معناه مجاهد . وقال قتادة : " وما كنتم تستترون " أي تظنون " أن يشهد عليكم سمعكم " بأن يقول سمعت الحق وما وعيت وسمعت ما لا يجوز من المعاصي " ولا أبصاركم " فتقول رأيت آيات الله وما اعتبرت ونظرت فيما لا يجوز " ولا جلودكم " تقدم . " ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون " من أعمالكم فجادلتم على ذلك حتى شهدت عليكم جوارحكم بأعمالكم . روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم " قال : ( إنكم تدعون يوم القيامة مفدمة أفواهكم بفدام ، فأول ما يبين عن الإنسان فخذه وكفه ) قال عبد الله بن عبد الأعلى{[13433]} الشامي فأحسن .
العمر ينقُصُ والذنوبُ تَزِيدُ *** وتُقَالُ عَثَرَاتُ الفَتَى فيَعُودُ
هل يستطيع جُحُودَ ذنبٍ واحدٍ *** رجلٌ جوارحُه عليهِ شُهُودُ
والمرء يسأل عن سِنيهِ فيشتهي *** تقليلَها وعن المماتِ يحيدُ
وعن معقل بن يسارعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ليس من يوم يأتي على ابن آدم إلا ينادي فيه يا ابن آدم أنا خلق جديد وأنا فيما تعمل غدا عليك شهيد ، فاعمل في خيرا أشهد لك به غدا فإني لو قد مضيت لم ترني أبدا ويقول الليل مثل ذلك ) ذكره أبو نعيم الحافظ وقد ذكرناه في كتاب التذكرة في باب شهادة الأرض والليالي والأيام والمال . وقال محمد بن بشير فأحسن :
مضَى أمسُكَ الأدْنَى شهيدا معدَّلاً *** ويومُك هذا بالفِعال شهيدُ
فإن تك بالأمس اقترفت إساءةً *** فثَنِّ بإحسانٍ وأنتَ حميدُ
ولا ترجُ فعلَ الخير منكَ إلى غَدٍ *** لعلَّ غَدًا يأتِي وأنتَ فَقِيدُ
ولما اعتذروا بما إخبارهم به في هذه الدنيا وعظ وتنبيه ، وفي الآخرة توبيخ وتنديم ، قالوا مكررين للوعظ محذرين من جميع الكون : { وما كنتم } أي بما هو لكم كالجبلة { تستترون } أي تتكفلون الستر عند المعاصي وأنتم تتوهمون ، وهو مراد قتادة بقوله ؛ تظنون . { أن يشهد عليكم } بتلك المعاصي . ولما كان المقصود الإبلاغ في الزجر ، أعاد التفصيل فقال : { سمعكم } وأكد بتكرير النافي فقال : { ولا أبصاركم } جمع وأفرد لما مضى { ولا جلودكم ولكن } إنما كان استتاركم لأنكم { ظننتم } بسبب إنكاركم البعث جهلاً منكم { أن الله } الذي له جميع الكمال { لا يعلم } أي في وقت من الأوقات { كثيراً مما تعملون * } أي تجددون عمله مستمرين عليه ، وهو ما كنتم تعدونه خفياً فهذا هو الذي جرأكم على ما فعلتم ، فإن كان هذا ظنكم فهو كفر ، وإلا كان عملكم عمل من يظنه فهو قريب من الكفر والمؤمن حقاً من علم أن الله مطلع على سره وجهره ، فلم يزل مراقباً خائفاً هائباً ، روى الشيخان في صحيحيهما واللفظ للبخاري في كتاب التوحيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي كثيرة شحم بطونهم قليلة فقه قلوبهم ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع ما نقول ؟ قال الآخر : يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا ، وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا ، فأنزل الله { وما كنتم } - الآية ، قال البغوي ؛ قيل : الثقفي عبد ياليل وختناه ، والقرشيان : ربيعة وصفوان بن أمية .