{ ولقد ءاتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد( 12 ) وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم( 13 ) }
لقمان : كان نجارا أسود من سودان مصر ذا مشافر آتاه الله الحكمة .
الشكر : الثناء على الله تعالى وإصابة الحق وحب الخير للناس وتوجيه الأعضاء وجميع النعم لما خلقت له .
{ ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد . }
ولقد أعطينا لقمان الفهم والعقل وحسن التبصر والإصابة في القول وأمرناه أن يشكر الله عز وجل على ما آتاه وخصه به من بين أبناء جنسه وأهل زمانه ومن يشكر الله فإن فائدة الشكر إنما تعود عليه حيث يمنحه الله زيادة في النعمة والحكمة ومن يكفر بنعمة الله فإنما يعود ضرر الكفر على نفسه لن الله غني عن عباده محمود بالفعل في السماء والأرض .
قال تعالى : { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد } . ( فاطر : 15 ) .
وقد أفاض الطبري في وصف لقمان وحكمته وبلده ، وكذلك ابن كثير وجمهور المفسرين على أن لقمان كان عبدا صالحا أعطاه الله الحكمة ، ورجح ابن كثير انه كان عبدا صالحا حكيما ولم يكن نبيا واستند إلى أن بعض الروايات أفادت أنه كان عبدا مملوكا لبعض الناس ثم من الله عليه بالحكمة والعلم والقبول فرآه زميل له في مجلس وقد خضع له الناس وأنصتوا واستمعوا فقال له : ألست أنت الذي كنت ترعى معي الغنم في مكان كذا وكذا ؟ قال : نعم ، ما بلغ بك ما أرى ؟ قال : صدق الحديث والصمت عما لا يعنيني .
وروى جابر عن عكرمة قال : كان لقمان نبيا .
وذهب ابن كثير إلى انه لم يكن نبيا لأن الرسل تبعث في أحساب قومها قال : وجمهور السلف على أنه لم يكن نبيا وإنما نقل كونه نبيا عن عكرمة وإسناده ضعيف والله أعلم .
وروى ابن كثير في تفسيره عن قتادة عن عبد الله بن الزبير قال قلت : لجابر بن عبد الله ما انتهى إليكم من شأن لقمان ؟ قال : كان قصيرا أفطس من النوبة .
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب قال : كان لقمان من سودان مصر ذا مشافر أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة . vi
لقمان : عرف العرب بهذا الاسم شخصين أحدهما لقمان بن عاد وكانوا يعظّمون قدره في النباهة والرياسة والدهاء . وأما الآخر فهو لقمان الحكيم الذي اشتهر بحكَمه وأمثاله . وهو المقصود هنا ، وسُميت السورة باسمه ، وقد كانت حِكمه شائعة بين العرب . ويقول بعض المفسرين إنه نبي ، وآخرون يقولون إنه حكيم آتاه الله الحكمة والعقل والفطنة . وأورد الإمام مالك كثير من حِكمه في كتابه « الموطأ » ، ويقال إنه كان أسود من سوداء مصر أو من الحبشة أو النوبة .
الحكمة : العلم مع العمل ، وكل كلام وافق الحقَّ فهو حكمة . وقيل الحكمة : هي الكلام المعقول المصون عن الحشو ، وقال ابن عباس الحكمة : تعلُّم الحلالِ والحرام . وقال الراغب : الحكمة : معرفة الموجودات وفعل الخيرات . وقال الرسول الكريم : « إن من الشعر لحكمة » يعني كلاما صادقا . وقال تعالى { واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله والحكمة } الخ . . . .
لقد منحْنا لقمانَ الحكم والعلم والإصابة في القول ، وقلنا له اشكرِ الله ، ومن يشكر فإن فائدةَ ذلك الشكر عائدةٌ إليه ، ومن جَحَدَ نعمةَ الله فإنه غنيّ عن شكره غير محتاج إليه ، محمود في ذاته .
ولما ثبتت حكمته سبحانه وأنه أبعدهم عنها{[53737]} بما قضى عليهم من الجهل وغباوة العقل وآتاها{[53738]} من تاب ، واعتصم بآيات الكتاب ، توقع السامع الإخبار عن بعض من آتاه الحكمة من المتقدمين الذين كانوا من{[53739]} المحسنين ، فوضعوا الأشياء في مواضعها بأن آمنوا وعملوا الصالحات فقال صارفا وجه الكلام إلى مظهر العظمة تعظيما للحكمة عاطفا على قوله : " وهو العزيز الحكيم " أو على مقدر تقديره : لأنا أضللناهم بحكمتنا وآتينا الحكمة الذين قبلوا آياتنا وأحسنوا التعبد لنا فما عبدوا صنماً ولا مالوا إلى لهو{[53740]} ، لأن ذلك عين الحكمة لكونه وضعاً{[53741]} للشيء في محله ، فهو تقرير لتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم .
بالرسالة : { ولقد آتينا } بما لنا من العظمة والحكمة { لقمان } وهو عبد من عبيدنا { الحكمة } وهو العلم المؤيد بالعمل والعمل المحكم بالعلم ، وقال الحرالي : هي العلم بالأمر الذي لأجله{[53742]} وجب الحكم ، والحكم الحمل على جميع أنواع الصبر والمصابرة ظاهراً بالإيالة{[53743]} العالية ، ولا يتم الحكم {[53744]}وتستوي{[53745]} الحكمة إلا بحسب سعة العلم ، وقال ابن ميلق : إن مدارها على إصابة الحق والصواب في القول والعمل{[53746]} ، ولهذا قال ابن قتيبة : لا يقال لشخص حكيماً{[53747]} حتى تجتمع له{[53748]} الحكمة في القول والفعل ، قال : ولا يسمى المتكلم بالحكمة حكيماً حتى يكون عاملاً بها - انتهى .
ومن بليغ حكمته ما أسنده صاحب الفردوس عن ابن عمر رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال : " حقاً أقول ! لم يكن لقمان نبياً ، ولكن كان عبداً ضمضامة كثير التفكر{[53749]} حسن اليقين ، أحب الله فأحبه ، فمنّ عليه بالحكمة ، {[53750]}كان نائماً نصف النهار إذ جاءه نداء ، قيل : يا لقمان ، هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحق ، فأجاب : إن خيرني ربي قبلت العافية ولم أقبل البلاء ، وإن عزم عليّ فسمعاً وطاعة ، فإني أعلم أنه{[53751]} إن فعل ذلك ربي عصمني وأعانني ، فقالت الملائكة بصوت لا يراهم : لم يا لقمان ؟ قال : لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها ، يغشاه الظلم من كل مكان ، إذ يعدل{[53752]} فبالحري أن ينجو ، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة ، ومن يكن في الدنيا ذليلاً خير{[53753]} من أن يكون شريفاً ، ومن تخير{[53754]} الدنيا على الآخرة تفتنه الدنيا ولا يصيب الآخرة ، فعجبت{[53755]} الملائكة من حسن منطقه ، فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه يتكلم بها " وفي الفردوس عن{[53756]} مكارم الأخلاق لأبي بكر بن لال عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال{[53757]} : " الحكمة عشرة أجزاء تسعة منها في العزلة وواحد{[53758]} في الصمت " ، وقال لقمان{[53759]} : لا مال كصحة ولا نعيم كطيب نفس ، وقال : ضرب الوالد لولده كالسماء للزرع ، وقيل له : أيّ الناس شر ؟ قال : الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً{[53760]} ، وقيل له : ما أقبح وجهك ! فقال : تعيب النقش أو النقاش ، وقال البغوي{[53761]} : إنه قيل له : لم بلغت ما بلغت ؟ قال : بصدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني - انتهى . فهو سبحانه من حكمته وحكمه{[53762]} أن يرفع ما يشاء بما يعلمه منه{[53763]} سلامة الطبع وإن كان عبداً فلا يدع أن يختص محمداً صلى الله عليه وسلم ذا النسب العالي والمنصب المنيف في كل خلق شريف بالرسالة من بين قريش وإن لم يكن من أهل الدنيا المتعظمين بها ، قال ابن ميلق : من حكمته سبحانه أن يجمع بين أثرى عدله وفضله ، وأن يعاقب بينهما في الظهور فيذل ويعز ويفقر{[53764]} ويغني ويسقم ويشفي ويفني ويبقي إلى غير{[53765]} ذلك ، فما من سابق عدل إلا له لاحق فضل ، ولا سابق فضل إلا له لاحق عدل ، غير أن أثر العدل والفضل قد يتعلق بالبواطن {[53766]}خاصة ، وقد يتعلق أحدهما بالظاهر والآخر بالباطن{[53767]} ، وقد يكون اختلاف تعلقهما في حالة واحدة ، وقد يكون على البدل ، وعلى قدر تعلق الأثر السابق يكون تعلق الأثر{[53768]} اللاحق .
ولما كانت الحكمة قاضية بذلك ، أجرى الله سبحانه آثار عدله على ظواهر أصفيائه دون بواطنهم ، ثم عقبت ذلك بإيراد آثار{[53769]} فضله على بواطنهم وظواهرهم حتى صار من قاعدة الحكمة الإلهية تفويض ممالك الأرض للمستضعفين فيها كالنجاشي حيث بيع في صغره ، وذلك كثير موجود بالاستقراء ، فمن كمال تربية{[53770]} الحكيم لمن يريد إعلاء شأنه أن يجري على ظاهره من أثر العدل ما فيه تكميل لهم وتنوير لمداركهم وتطهير لوجودهم وتهذيب وتأديب - إلى غير ذلك من فؤائد التربية ، ومن تتبع أحوال الأكابر من آدم عليه السلام وهلم جراً رأى من حسن بلاء الله سبحانه وتعالى لهم ما يشهد{[53771]} لما قررته بالصحة{[53772]} إن شاء الله تعالى - انتهى{[53773]} .
ولما كانت الحكمة هي الإقبال على الله قال : { أن اشكر } وهو وإن كان تقديره : قلنا له كذا ، يؤول إلى " آتيناه الشكر " وصرف{[53774]} الكلام إلى الاسم الأعظم الذي لم يتسم به غيره سبحانه دفعاً للتعنت ، ونقلاً عن مظهر العظمة إلى{[53775]} أعظم منها فقال : { لله } بأن وفقناه{[53776]} له بما سببناه له من الأمر به لأن الحكمة في الحقيقة هي القيام بالشكر لا الإيصاء به ، ويمكن أن تكون " أن{[53777]} " مصدرية ، ويكون التقدير : آتيناه إياها بسبب الشكر ، وعبر بفعل الأمر إعلاماً بأن شكره كان لامتثال الأمر ليكون أعلى .
ولما كان التقدير : فبادر وشكر ، فما نفع إلا نفسه ، كما أنه لو كفر ما ضر إلا نفسه ، عطف عليه معرفاً{[53778]} أنه غني عن شكر الشاكرين قوله معبراً بالمضارع الدال على أن{[53779]} من أقبل عليه - في أيّ زمان كان - يلقاه{[53780]} ويكون معروفه له{[53781]} دائماً بدوام العمل : { ومن يشكر } أي يجدد الشكر ويتعاهد به نفسه كائناً من كان { فإنما يشكر } أي يفعل ذلك { لنفسه } أي فإنما ينفع نفسه ، فإن الله يزيده من فضله فإن الله شكور مجيد { ومن كفر } فإنما يضر نفسه ، وعبر بالماضي إشارة إلى أن من وقع منه كفر ولو مرة جوزي بالإعراض عنه { فإن الله } عبر بالاسم الأعظم لأنه في سياق الحكمة ، والحكيم من أدام{[53782]} استحضار صفات الجلال والجمال فغلب خوفه رجاءه ما دام في دار الأكدار { غني } عن الشكر وغيره { حميد * } أي له جميع المحامد وإن كفره جميع الخلائق{[53783]} ، فإن تقدير الكفر عليهم بحيث لا يقدرون على الانفكاك عنه من جملة محامده بالقدرة والعزة والفهم والعظمة . ويجوز - وهو أقرب - أن يعود " غني " إلى الكافر و " حميد " إلى الشاكر ، فيكون اسم فاعل ، فيكون التقدير : {[53784]}ومن{[53785]} كفر فإنما يكفر على نفسه ، ثم سبب عن الجملتين وهما{[53786]} كون عمل كل من الشاكر والكافر لا يتعداه قوله " فإن الله غني " أي{[53787]} عن شكر الكافر " حميد " للشاكر ، والآية على الأول من الاحتباك : تخصيص الشكر بالنفس أولاً يدل على حذف مثله من الكفر ثانيا ، وإثبات الصفتين ثانيا يدل على حذف مثلهما أولاً .