{ واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير . . . }
أي امش مشيا وسطا بين ليس مثل دبيب المتماوتين ولا مثل سرعة المفرطين بل سيرا مقتصدا معتدلا والقصد : الاعتدال .
{ واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير . . . } أي : اخفض من صوتك واجعله قصدا ولا ترفعه إذا تكلمت فالصوت الهادئ أوقر للمتكلم وابسط لنفس السامع وفهمه وإن أقبح ما يستنكر من الأصوات ويستكره منها صوت الحمير .
وهذا تعبير بالصورة حيث لفت الأنظار إلى صورة الحمار عند نهيقه تحذيرا من رفع الصوت حتى لا يتنبه صاحبه بالحمار وهي صورة للتحذير والتنفير من رفع الصوت وقد استشهد الحافظ ابن كثير بحديث النبي صلى الله عليه وسلم " إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطانا " x ثم قال ابن كثير وقد أخرجه بقية الجماعة سوى ابن ماجة وفي بعض الألفاظ : " بالليل " فالله أعلم .
وساق ابن كثير في تفسيره طائفة من حكم لقمان مثل : إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك .
ثم ساق فصلا في الخمول والتواضع وفصلا آخر في ذم الشهرة أو الاشتهار بين الناس بالبدعة أو الفسوق ثم فصلا في حسن الخلق ثم فصلا في ذم الكبر وفصلا في ذم الاختيال .
وكلها تتلاقى على رسم صورة للمؤمن الموصول قلبه بالله فهو متواضع ملتزم بمكارم الأخلاق بعيد عن التكبر والتجبر يفر من البدعة والخروج عن الصراط المستقيم وهو ملتزم بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في رحمته وتواضعه ومراقبته لله وبعده عن التكبر والتجبر وهذا الوصايا النافعة في سورة لقمان ورد نظير لها في سورة الإسراء وأيضا ورد وصف عباد الرحمان في سورة الفرقان ومجموع هذه الوصايا التي وردت في الآيات 22-39 ، من سورة الإسراء وفي الآيات 63-77 ، من سورة الفرقان وفي الآيات 12-19 ، من سورة لقمان هذه المواطن الثلاثة في القرآن الكريم تكون نموذجا مثاليا لمكارم الأخلاق في القرآن الكريم كما ورد في السنة المطهرة طائفة من الأحاديث النبوية الصحيحة تحث المسلمين على التمسك بروح هذا الدين مثل التكافل والتراحم والتعاون والبعد عن الخصام والسخرية والاستهزاء وتطفيف الكيل والميزان والزنا والربا والغرور وأكل أموال الناس بالباطل .
أي أن القرآن والسنة يتلاقيان في الحث على مكارم الأخلاق ويحذران من الكبائر والرذائل .
قال صلى الله عليه وسلم : " إنما بعثت لأنعم مكارم الأخلاق " . xi
قال صلى الله عليه وسلم : " أن أحبكم إلي وأقربكم مني منازل يوم القيامة ، أحاسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني منازل يوم القيامة الثرثارون المتشدقون المتفيهقون قيل يا رسول الله هؤلاء الثرثارون المتشدقون فما المتفيهقون ؟ قال " المتكبرون " . xii
ولما كان النهي عن ذلك امراً بأضداده ، وكان الأمر بإطلاق الوجه يلزم منه{[53965]} الإنصاف في الكلام ، وكان الإنصاف {[53966]}في الكلام{[53967]} والمشي لا على طريق المرح {[53968]}والفخر ربما{[53969]} دعا إلى الاستماتة في المشي والحديث أو الإسراع في المشي {[53970]}والسر والجهر بالصوت{[53971]} فوق الحد ، قال محترساً في الأمر بالخلق الكريم عما يقارب{[53972]} الحال الذميم : { واقصد } أي اعدل وتوسط { في مشيك } لا إفراط ولا تفريط مجانباً لوثب الشطار{[53973]} ودبيب المتماوتين{[53974]} ، وعن ابن مسعود : كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى ، والقصد في الأفعال كالقسط في الأوزان - قال الرازي في اللوامع ، وهو المشي الهون الذب ليس فيه تصنع للخلق {[53975]}لا بتواضع ولا بتكبر{[53976]} { واغضض } أي انقص ، ولأجل ما ذكر{[53977]} قال : { من صوتك } بإثبات " من " أي لئلا يكون صوتك منكراً ، وتكون برفع الصوت فوق الحاجة حماراً ، وأما مع الحاجة كالأذان فهو مأمور به .
ولما كان رفع الصوت فوق العادة منكراً كما كان خفضه دونها{[53978]} تماوتاً {[53979]}أو دلالاً{[53980]} وتكبراً ، وكان قد أشار إلى النهي عن هذا ب " من " فأفهم{[53981]} أن الطرفين{[53982]} مذمومان ، علل النهي {[53983]}عن الأول{[53984]} دالاً{[53985]} بصيغة " أفعل " {[53986]}على اشتراك الرفع كله في النكارة ذاكراً أعلاها تصويراً له بأقبح صورة تنفيراً{[53987]} عنه فقال : { إن أنكر } أي أفظع وأبشع وأوحش { الأصوات } أي كلها{[53988]} المشتركة في النكارة برفعها فوق الحاجة ، وأخلى{[53989]} الكلام عن لفظ التشبيه فأخرجه{[53990]} مخرج الاستعارة تصويراً لصوت الرافع صوته فوق الحاجة بصورة النهاق{[53991]} وجعل المصوت كذلك حماراً ، مبالغة في التهجين ، وتنبيهاً على أنه من كراهة الله له بمكان فقال{[53992]} : { لصوت الحمير } {[53993]}أي هذا الجنس ، لما له{[53994]} من الغلو المفرط من غير حاجة ، وأوله زفير وآخره شهيق ، وهما فعل أهل النار ، وأفرده ليكون نصاً على إرادة الجنس لئلا يظن أن الاجتماع شرط في ذلك ، و{[53995]}لذكر الحمار{[53996]} مع ذلك من بلاغة الذم والشتم ما ليس لغيره ، ولذلك يستهجن{[53997]} التصريح باسمه ، وهذا يفهم أن الرفع مع الحاجة غير مذموم فإنه ليس بمستنكر ولا مستبشع ، ولقد دعت هذه الآيات إلى معالي الأخلاق ، وهي أمهات الفضائل الثلاث : الحكمة والعفة والشجاعة ، وأمرت بالعدل فيها ، وهي{[53998]} وظيفة التقسيط الذي هو الوسط الذي هو مجمع الفضائل ، ونهت عن مساؤى الأخلاق ، وهي الأطراف التي هي مبدأ الرذائل الحاصل بالإفراط والتفريط ، فإقامة{[53999]} الصلاة التي هي روح العبادة المبنية على العلم هي سر الحكمة والأمر والنهي ، أمر بالشجاعة ونهى عن الجبن ، وفي النهي عن التصعير{[54000]} وما معه نهي عن التهور ، والقصد في المشي والغض في{[54001]} الصوت أمر بالعفة ونهي عن الاستماتة والجمود والخلاعة والفجور ، وفي النهي عن الاستماتة نهي عما قد يلزمها من الجربزة ، وهي الفكر بالمكر المؤدي إلى اللعنة ، وعن الانحطاط إلى البله والبلادة والغفلة ، والكافل بشرح هذا ما قاله الشيخ سعد الدين التفتازاني في الكلام على الإجماع من تلويحه ، قال : إن الخالق تعالى وتقدس قد ركب في الإنسان ثلاث قوى : إحداها{[54002]} مبدأ إدراك الحقائق ، والشوق إلى النظر في العواقب ، والتمييز بين المصالح والمفاسد{[54003]} ، ويعبر عنها بالقوة النطقية والعقلية والنفس{[54004]} المطمئنة الملكية ، والثانية مبدأ جذب{[54005]} المنافع وطلب الملاذ من المآكل والمشارب وغير ذلك ، وتسمى القوة الشهوية والبهيمية والنفس الأمارة ، والثالثة مبدأ الإقدام على الأهوال والشوق إلى{[54006]} التسلط والترفع ، وهي القوة الغضبية والسبعية والنفس اللوامة ، ويحدث من اعتدال الحركة الأولى الحكمة ، والثانية العفة ، والثالثة الشجاعة ، فأمهات الفضائل هي هذه الثلاث{[54007]} ، وما سوى ذلك إنما هو{[54008]} من تفريعاتها وتركيباتها ، وكل منها وكل منها محتوش بطر في إفراط وتفريط هما رذيلتان ، أما
الحكمة فهي معرفة الحقائق على ما هي عليه{[54009]} بقدر الاستطاعة ، وهي العلم النافع المعبر {[54010]}عنه بمعرفة{[54011]} النفس ما لها وما عليها المشار إليه بقوله تعالى :
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً }[ البقرة : 269 ] وإفراطها الجربزة ، وهي استعمال الفكر فيما لا ينبغي كالمتشابهات ، وعلى وجه لا ينبغي ، كمخالفة الشرائع - نعوذ بالله من علم لا ينفع قلت : وهي بجيم ثم مهملة ثم موحدة ثم زاي مأخوذة من الجربز - بالضم ، وهو الخب ، أي الخداع الخبيث - والله أعلم ، وتفريطها الغباوة التي هي تعطيل القوة الفكرية بالإرداة والوقوف عن اكتساب العلوم النافعة ، وأما الشجاعة فهي انقياد السبعية للناطقة ليكون إقدامها على حسب الروية من غير اضطراب في الأمور الماثلة ، حتى يكون فعلها جميلاً ، وصبرها محموداً ، وإفراطها التهور ، أي الإقدام على ما لا ينبغي ، وتفريطها الجبن ، أي الحذر عما لا ينبغي ، وأما العفة فهي انقياد{[54012]} البهيمية للناطقة ، لتكون تصرفاتها بحسب اقتضاء الناطقة ، لتسلم عن استعباد{[54013]} الهوى إياها ، واستخدام اللذات ، وإفراطها الخلاعة والفجور ، أي الوقوع في ازدياد اللذات على ما يجب ، وتفريطها الجمود ، أي السكوت عن طلب اللذات بقدر ما رخص فيه العقل والشرع إيثاراً لا خلقة ، فالأوساط فضائل ، والأطراف رذائل ، وإذا امتزجت الفضائل الثلاث{[54014]} حصلت من اجتماعها حالة متشابهة هي العدالة ، فبهذا الاعتبار عبر عن العدالة بالوساطة ، أي في قوله تعالى :
{ وكذلك جعلناكم أمة وسطاً }[ البقرة : 143 ] وإليه أشير بقوله عليه الصلاة والسلام " خير الأمور أوساطها " والحكمة في النفس البهيمية بقاء البدن الذي هو مركب النفس الناطقة ليصل إلى كمالها اللائق بها ، ومقصدها المتوجه{[54015]} إليه ، وفي السبعية كسر البهيمية وقهرها{[54016]} ودفع الفساد المتوقع من استيلائها ، و{[54017]}اشترط التوسط{[54018]} في أفعالها لئلا تستعبد الناطقة {[54019]}هواهما وتصرفاها{[54020]} عن كمالها ومقصدها - انتهى .