جاثية : باركة على الركب مستوفزة .
28- { وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون } .
تصف الآية مشهدا من مشاهد القيامة ؛ يشتد فيه الهول ؛ وتزفر جهنم زفرة لا يبقى أحد إلا جثا على ركبتيه مستوفزا ، لا يلمس الأرض منه إلا ركبتاه وأطراف أنامله .
قال الحسن : ترى كل أمة باركة على الركب ، كل مجموعة أو ملة واحدة تدعى إلى كتابها ، أي : صحيفة عملها . وقيل : كل ملة تدعى إلى الكتاب المنزل عليها .
ولسان الحال أو لسان المقال يقول : { اليوم تجزون ما كنتم تعملون } .
هذا يوم الجزاء على أعمالكم : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } . ( الزلزلة : 7 ، 8 ) .
ثم وصف تعالى شدة يوم القيامة وهوله ليحذره العباد ويستعد له العباد فقال : { وَتَرَى } أيها الرائي لذلك اليوم { كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } على ركبها خوفا وذعرا وانتظارا لحكم الملك الرحمن .
{ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا } أي : إلى شريعة نبيهم الذي جاءهم من عند الله ، وهل قاموا بها فيحصل لهم الثواب والنجاة ؟ أم ضيعوها فيحصل لهم الخسران ؟ فأمة موسى يدعون إلى شريعة موسى وأمة عيسى كذلك وأمة محمد كذلك ، وهكذا غيرهم كل أمة تدعى إلى شرعها الذي كلفت به ، هذا أحد الاحتمالات في الآية وهو معنى صحيح في نفسه غير مشكوك فيه ، ويحتمل أن المراد بقوله : { كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا } أي : إلى كتاب أعمالها وما سطر عليها من خير وشر وأن كل أحد يجازى بما عمله بنفسه كقوله تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا }
قوله تعالى : { وترى كل أمة جاثيةً } باركة على الركب ، وهي جلسة المخاصم بين يدي الحاكم ينتظر القضاء من الله . قال سلمان الفارسي : إن في القيامة ساعة هي عشر سنين ، يخر الناس فيها جثاة على ركبهم حتى إبراهيم عليه السلام ينادي ربه : لا أسألك إلا نفسي . { كل أمة تدعى إلى كتابها } الذي فيه أعمالها ، وقرأ يعقوب : { كل أمة } نصب ، ويقال لهم : { اليوم تجزون ما كنتم تعملون* }
قوله تعالى : " وترى كل أمة جاثية " أي من هول ذلك اليوم . والأمة هنا : أهل كل ملة . وفي الجاثية تأويلات خمس : الأول : قال مجاهد : مستوفزة . وقال سفيان : المستوفز الذي لا يصيب الأرض منه إلا ركبتاه وأطراف أنامله . الضحاك : ذلك عند الحساب . الثاني : مجتمعة قاله ابن عباس . الفراء : المعنى وترى أهل كل دين مجتمعين . الثالث : متميزة ، قاله عكرمة . الرابع : خاضعة بلغة قريش ، قاله مؤرج . الخامس : باركة على الركب قاله الحسن . والجثو : الجلوس على الركب . جثا على ركبتيه يجثو ويجثي جُثُوّا وجُثِيا ، على فعول فيهما ، وقد مضى في " مريم " {[13799]} : وأصل الجثوة{[13800]} : الجماعة من كل شيء . قال طرفة يصف قبرين :
ترى جُثْوَتَيْنِ من تراب عليهما *** صفائحُ صُمٍّ من صفيحٍ مُنَضَّدِ{[13801]}
ثم قيل : هو خاص بالكفار ، قاله يحي بن سلام . وقيل : إنه عام للمؤمن والكافر انتظارا للحساب . وقد روى سفيان بن عيينة عن عمرو عن عبد الله بن باباه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كأني أراكم بالكوم{[13802]} جاثين دون جهنم " ذكره الماوردي . وقال سلمان : إن في يوم القيامة لساعة هي عشر سنين يخر الناس فيها جثاة على ركبهم حتى إن إبراهيم عليه السلام لينادي " لا أسألك اليوم إلا نفسي " . " كل أمة تدعى إلى كتابها " قال يحي بن سلام : إلى حسابها . وقيل : إلى كتابها الذي كان يستنسخ لها فيه ما عملت من خير وشر ، قال مقاتل . وهو معنى قول مجاهد . وقيل : " كتابها " ما كتبت الملائكة عليها . وقيل كتابها المنزل عليها لينظر هل عملوا بما فيه . وقيل : الكتاب ها هنا اللوح المحفوظ . وقرأ يعقوب الحضرمي " كل أمة " بالنصب على البدل من " كل " الأولى لما في الثانية من الإيضاح الذي ليس في الأولى ، إذ ليس في جثوها شيء من حال شرح الجثو كما في الثانية من ذكر السبب الداعي إليه وهو استدعاؤها إلى كتابها . وقيل : انتصب بإعمال " ترى " مضمرا . والرفع على الابتداء . " اليوم تجزون ما كنتم تعملون " من خير أو شر .
ولما كان ذلك من شأن اليوم مهولاً ، عم في الهول بقوله مصوراً لحاله : { وترى } أي في{[58300]} ذلك اليوم { كل أمة } من الأمم الخاسرة فيها والفائزة { جاثية } أي مجتمعة لا يخلطها غيرها ، وهي مع ذلك باركة على الركب رعباً واستيفازاً لما لعلها{[58301]} تؤمر به ، جلسة المخاصم بين يدي الحاكم ، ينتظروا القضاء الحاتم ، والأمر الجازم اللازم ، لشدة ما يظهر لها من هول{[58302]} ذلك اليوم . ولما كان كأن قيل : هم{[58303]} مستوفزون ، قال : { كل أمة } أي من الجاثين { تدعى إلى كتابها } أي الذي أنزل إليها وتعبدها الله به والذي نسخته الحفظة من أعمالها ليطبق أحدهما بالآخر ، فمن وافق{[58304]} كتابه ما أمر به من كتاب ربه نجا ، ومن خالفه هلك ، ويقال لهم حال الدعاء : { اليوم تجزون } على وفق الحكمة بأيسر أمر { ما } أي عين{[58305]} الذي { كنتم } بما هو لكم كالجبلات { تعملون * } أي مصرين عليه غير راجعين عنه من-{[58306]} خير أو شر .