تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِيلٗا} (85)

{ ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ( 85 ) }

تمهيد :

في المراد من الروح في هذه الآية ثلاثة آراء :

الأول : القرآن ، وقد سمي القرآن روحا ؛ لأنه أحيى الأمة الإسلامية وبعث فيها العزة والكرامة ، وجمعها على المودة والألفة ، وأمدها بمقومات البقاء والنصر ، قال تعالى :

{ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا . . . } ( الشورى : 52 } .

وقال سبحانه : { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده . . . } ( النحل : 2 ) .

الثاني : جبريل عليه السلم ، وهو قول الحسن وقتادة ، وقد سمي جبريل بالروح في مواضع عدة من القرآن كقوله تعالى : { نزل به الروح الأمين . على قلبك . . . ( الشعراء : 194 ، 193 ) .

وقال سبحانه : { فأرسلنا إليها روحا . . . } ( مريم : 17 ) . وهو روح القدس .

قال تعالى : { قل نزله روح القدس . . . } ( النحل : 102 ) .

الثالث : الروح التي يحيا بها بدن الإنسان- وهذا هو قول الجمهور- ويكون ذكر الآية بين ما قبلها وما بعدها اعتراضا للدلالة على خسارة الظالمين وضلالهم ، وأنهم مشتغلون عن تدبر الكتاب والانتفاع به ، إلى التعنت بسؤالهم عما اقتضت الحكمة سد الطريق على معرفته ، ويؤيد هذا ما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفر من اليهود فقال بعضهم : سلوه عن الروح ، وقال بعضهم : لا تسألوه يسمعكم ما تكرهون ، فقاموا إليه وقالوا : يا أبا القاسم ، حدثنا عن روح فقام ساعة ينظر ، فعرفت أنه يوحى إليه ثم قال : { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } .

التفسير :

85- { ويسألونك عن الروح . . . } .

{ ويسألونك عن الروح } الذي به البدن ، أقديم هو أم حادث ؟

{ قل الروح من أمر ربي } . الأمر واحد الأمور أي : الروح شأن من شؤونه تعالى ، حدث بتكوينه وإبداعه من غير مادة ، وقد استأثر بعلمه ، لا يعلمه إلا هو ؛ لأنكم لا تعلمون إلا ما تراه حواسكم وتتصرف فيه عقولكم ، ولا تعلمون من المادة إلا بعض أوصافها كالألوان والحركات للبصر ، والأصوات للسمع ، والطعوم للذوق ، والمشمومات للشم ، والحرارة والبرودة للمس ، فلا يتسنى لكم إدراك ما هو غير مادي كالروح .

وللعلماء في حقيقة الروح أقوال كثيرة ، أولاها الاعتبار قولان :

1- إن الروح جسد نوراني ، حي متحرك من العالم العلوي ، مخالف بطبعه لهذا الجسم المحسوس ، سار فيه سريان الماء في الورد ، والذهن في الزيتون ، والنار في الفحم ، ل يقبل التبدل والتفرق والتمزق ، يفيد الجسم المحسوس الحياة وتوابعها ، ما دام صالحا لقبول الفيض وعدم حدوث ما يمنع السريان ، والأحدث الموت ، واختيار هذا الرأي الرازي ، وابن القيم في كتاب الروح .

2- إنه ليس بجسم ولا جسماني ، متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف ، وإلى هنا ذهب حجة الإسلام الغزالي ، والراهب الأصفهاني .

{ وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } . هو علم المحسوسات ، فعلومنا ومعارفنا النظرية طريق حصولها الحواس ، وذلك شيء نزر قليل بالنسبة إلى علم الله تعالى والراسخين في العلم ، وقد روى الطبري : أن هذه الآية نزلت بمكة ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار يهود فقالوا : يا محمد : ألم يبلغنا أنك تقول : وما أوتينا من العلم إلا قليلا أفعنيتنا أم قومك قال : ( كلا قد عنيت ) ، قالوا : فإنك تتلو أنا أوتينا التوراة ، وفيها تبيان كل شيء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هي في علم الله قليل ، وقد أتاكم ما إن عملتم به انتفعتم ) فأنزل الله : { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم } . ( لقمان : 27 ) .

وأورد الطبري رواية أخرى ، تفيد : أن هذه الآية نزلت بالمدينة ، حين سأله اليهود عن الروح ، وعن أصحاب الكهف ، وعن ذي القرنين ، فأنزل الله تعالى : { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا }- يعني : اليهود ، والراجح أن هذه الآية مدنية لا مكية ، وأن السؤال فيها جاء من اليهود .

وقد ذهب فريق إلى أن المخاطب بهذه الآية هم اليهود دون غيرهم .

وهناك من يرى أن الخطاب موجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى الناس أجمعين قال الطبري : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : خرج الكلام خطابا لمن خوطب به ، والمراد : جميع الخلق ؛ لأن علم كل واحد سوى الله وأن كثر في علم الله قليل ، وإنما معنى الكلام : وما أوتيتم أيها الناس من العلم لا قليلا من كثير مما يعلم الله{[484]} .

ملاحظات :

1- مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وسائر سلف الأمة وأئمة السنة ، أن الروح عين قائمة بنفسها تفارق البدن ، وتنعم وتعذب ، ليست هي البدن ، ولا جزءا من أجزائه .

2- قال أبو المعالي : إن الروح أجسام لطيفة ، مشابكة للأجسام المحسوسة ، أجرى الله العادة بحياة الأجساد ما استمرت مشابكتها لها ، فإذا فارقتها تعقب الموت الحياة في استمرار العادة{[485]} .

3- كتب بعض المنقبين عن مباحث العصرين في الروح فقال :

إن نظرية الروحين التي يستدلون عليها في أوربا بالحس في هذه الأيام ، هي أن للإنسان روحا هبطت عليه من الملإ الأعلى . لا يصل العقل إلى إدراك كنهها ، وأنها متصلة بهذا الجسد الطيني ، بواسطة هيكل لطيف شفاف على شكل الجسد تماما . ولكنه ليس من طبيعته ولا محكوما بقوانينه ، وأنه كغلاف للسر الإلهي المسمى : روحا ولعل في هذا ما يشبه قول الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه عن الروح : ( هي صورة كالجسد ) ويقولون : إن الروح وغلافها هذا يخرجان من الجسد عند حصول الموت للشخص ، إلى عالم غير هذا العالم ، ولكنهما لا ينفصلان عنه كل الانفصال ، بل أرواح الموتى منتشرة حولنا في كل جهة ، ولكنا لا نراها بأعيننا ؛ لعدم استعداد عيننا لذلك ، كما أنها ليست مستعدة لرؤية أشعة ( رونتج ) مع أنها موجودة كما تدل عليه الآلة التي صنعها لها . وقد دخلت تطبيقاتها في علم الطب وأفادت العلم الطبيعي فائدة كبرى . ولكن يوجد أشخاص فيهم استعداد خاص . به يرون الأرواح رائحة غادية وعن أيمانهم وعن شمائلهم رؤية حقيقية{[486]} .


[484]:- تفسير الطبري 15/106 ط بولاق.
[485]:- تفسير القاسمي 10/3988.
[486]:- تفسير القاسمي 10/3990 وما بعدها.