السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَتَٱللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصۡنَٰمَكُم بَعۡدَ أَن تُوَلُّواْ مُدۡبِرِينَ} (57)

ولما أقام البرهان على إثبات الإله الحق أتبعه البرهان على إبطال الباطل بقوله : { وتاللّه } وهو قسم والأصل في القسم الباء الموحدة والواو بدل منها والتاء بدل من الواو وفيها مع كونها بدلاً زيادة على التأكيد التعجب { لأكيدن أصنامهم } أي : لأجتهدنّ في كسرها والتأكيد وما في التاء من التعجب من تسهيل الكيد على يده وتأتيه لأنّ ذلك كان أمراً مقنوطاً منه لصعوبته وتعذره ولعمري إنّ مثله صعب متعذر في كل زمان خصوصاً في زمن نمروذ مع عتّوه واستكباره وقوّة سلطانه وتهالكه على نصرة دينه ، ولكن :

إذا الله سنى عقد شيء تيسراً ***

ولما كان عزمه على إيقاع الكيد في جميع الزمان الذي يقع فيه توليهم في أي جزء تيسر له منه أسقط الجار فقال : { بعد أن تولّوا مدبرين } أي : بعد أن تدبروا منطلقين إلى عيدكم قال مجاهد وقتادة : إنما قال إبراهيم هذا سراً من قومه ولم يسمع ذلك إلا رجل واحد فأفشاه عليه وقال : { إنا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم } ، وقال السدّي : كان لهم في كل سنة مجمع عيد فكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثم عادوا إلى منازلهم ، فلما كان ذلك العيد قال أبو إبراهيم له : يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا فخرج معهم إبراهيم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال : إني سقيم أشتكي برجلي فلما مضوا نادى في آخرهم وقد بقي ضعفاء الناس تالله لأكيدن أصنامكم فسمعوها منه ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة وهي في بهو عظيم مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه والأصنام بعضها إلى جنب بعض كل صنم يليه أصغر منه إلى باب البهو وإذا هم قد جعلوا طعاماً فوضعوه بين يدي الآلهة ، وقالوا : إذا رجعنا وقد بركت الأصنام الآلهة عليه أكلنا منه فلما نظر إبراهيم إليهم وإلى ما بين أيديهم من الطعام قال لهم على طريق الاستهزاء : ألا تأكلون ؟ فلما لم يجيبوه قال لهم مالكم لا تنطقون ، فراغ عليهم ضرباً باليمين وجعل يكسرهن بفأس في يده حتى لم يبق إلا الصنم الأكبر علق الفأس في عنقه ثم خرج ، فذلك قوله عز وجل : فجعلهم جذاذاً } .