إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ مَغۡرِبَ ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَغۡرُبُ فِي عَيۡنٍ حَمِئَةٖ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوۡمٗاۖ قُلۡنَا يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمۡ حُسۡنٗا} (86)

{ حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس } أي منتهى الأرضِ من جهة المغرب بحيث لا يتمكن أحدٌ من مجاوزته ، ووقف على حافة البحر المحيطِ الغربي الذي يقال له أوقيانوس الذي فيه الجزائرُ المسماة بالخالدات التي هي مبدأُ الأطوال على أحد القولين { وَجَدَهَا } أي الشمس { تَغْرُبُ في عَيْنٍ حَمِئَةٍ } أي ذاتِ حَمأة وهي الطينُ الأسود من حمِئت البئرُ إذا كثرت حَمأتُها ، وقرئ حامية أي حارّة . روي أن معاوية رضي الله عنه قرأ ( حامية ) وعنده ابن عباس رضي الله عنهما فقال : ( حَمِئة ) ، فقال معاوية لعبد اللَّه بن عمرو بن العاص : كيف تقرأ ؟ قال : كما يقرأ أمير المؤمنين ، ثم وجه إلى كعب الأحبار : كيف تجد الشمسَ تغرب ؟ قال : في ماء وطين . وروي في ثَأْط فوافق قول ابن عباس رضي الله عنهما ، وليس بينهما منافاةٌ قطعية لجواز كون العينِ جامعةً بين الوصفين وكونِ الياء في الثانية منقلبةً عن الهمزة لانكسار ما قبلها . وأما رجوعُ معاوية إلى قول ابن عباس رضي الله عنهم بما سمعه من كعب مع أن قراءته أيضاً مسموعةٌ قطعاً ، فلكون قراءةِ ابن عباس رضي الله عنهما قطعيةً في مدلولها وقراءتهِ محتمَلةً . ولعله لما بلغ ساحلَ المحيط رآها كذلك إذ ليس في مطمح بصره غيرُ الماء كما يلوح به قوله تعالى : { وَجَدَهَا تَغْرُبُ } { وَوَجَدَ عِندَهَا } عند تلك العين { قَوْماً } قيل : كان لباسُهم جلودَ الوحوش وطعامُهم ما لفَظه البحر ، وكانوا كفاراً فخيّره الله جل ذكره بين أن يعذبهم بالقتل وأن يدعوَهم إلى الإيمان وذلك قوله تعالى : { قُلْنَا يا ذا القرنين إِمَّا أَن تُعَذّبَ } بالقتل من أول الأمر { وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } أي أمراً ذا حُسْن على حذف المضافِ أو على طريقةِ إطلاقِ المصدر على موصوفة مبالغةً ، وذلك بالدعوة إلى الإسلام والإرشاد إلى الشرائع ، ومحلُّ أن مع صلته إما الرفعُ على الابتداء أو الخبرية وإما النصبُ على المفعولية ، أي إما تعذيبُك واقعٌ أو إما تفعلُ تعذيبَك وهكذا الحال في الاتخاذ ، ومن لم يقل بنبوته قال : كان ذلك الخطابُ بواسطة نبيَ في ذلك العصر أو كان ذلك إلهاماً لا وحياً بعد أن كان ذلك التخييرُ موافقاً لشريعة ذلك النبي .