إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَقَالُوٓاْ ءَأَٰلِهَتُنَا خَيۡرٌ أَمۡ هُوَۚ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلَۢاۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمٌ خَصِمُونَ} (58)

{ وَقَالُواْ أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } حكايةٌ لطرفٍ من المثلِ المضروبِ ، قالُوه تمهيداً لما بَنَوا عليهِ من الباطلِ المُموَّهِ بَما يغترُّ به السُّفهاءُ ، أي ظاهرٌ أنَّ عيسَى خيرٌ من آلهتِنا فحيثُ كانَ هُو في النَّارِ فلا بأسَ بكونِنا مع آلهتِنا فيَها . واعلمُ أنَّ ما نُقلَ عنهم من الفرحِ ورفعِ الأصواتِ لم يكُن لما قيلَ : من أنَّه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ سكتَ عندَ ذلكَ إلى أنْ نزلَ قولُه تعالى : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى } [ سورة الأنبياء ، الآية 121 ] الآيةَ . فإنَّ ذلكَ معَ إيهامِه لما يجبُ تنزيه ساحتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عنْهُ من شائبةِ الإفحامِ من أولِ الأمرِ خلافُ الواقعِ كيفَ لاَ وقد رُويَ أن قولَ ابنِ الزَّبعرَى : خصمتُكَ وربُّ الكعبةِ صدرَ عنْهُ من أولِ الأمرِ عند سماعِ الآيةِ الكريمةِ بلغةِ قومِك أما فهمتَ أنَّ مَا لَما لا يعقلُ . وإنَّما لم يخصَّ عليهِ السَّلامُ هذا الحكمَ بآلهتِهم حينَ سألَ الفاجرُ عن الخصوصِ والعمومِ عملاً بما ذُكرَ من اختصاصِ كلمةِ مَا بغيرِ العُقلاءِ لأنَّ إخراجَ بعضِ المعبودينَ عنْهُ عند المحاجَّةِ موهمٌ للرخصةِ في عبادتِه في الجملةِ فعمَّمَهُ عليه السَّلامُ للكلِّ لكنْ لا بطريقِ عبارةِ النصِّ بل بطريقِ الدلالة بجامعِ الاشتراكِ في المعبوديةِ من دونِ الله تعالى ، ثمَّ بينَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بقولِه بل هُم عبدُوا الشياطينَ التي أمرتْهُم بذلكَ أن الملائكةَ والمسيحَ بمعزلٍ من أنْ يكونُوا معبوديهم كما نطقَ به قولُه تعالى : { سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجن } [ سورة سبأ ، الآية 41 ] الآيةَ وقد مرَّ تحقيقُ المقامِ عند قولِه تعالى : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ منَّا الحسنى } [ سورة الأنبياء ، الآية 101 ] الآيةَ . بلْ إنَّما كانَ ما أظهرُوه من الأحوالِ المنكرةِ لمحضِ وقاحتِهم وتهالُكِهم على المكابرةِ والعنادِ كما ينطقُ به قولُه تعالى : { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ } أي ما ضَربُوا لكَ ذلكَ المثلَ إلا لأجلِ الجدالِ والخصامِ لا لطلبِ الحقِّ حتَّى يذعنُوا له عندَ ظهورِه ببيانكَ .

{ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } أي لُدٌّ شدادُ الخصومةِ مجبولونَ على المحْكِ واللَّجاجِ . وقيلَ : لمَّا سمعُوا قولَه تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ سورة آل عمران ، الآية 59 ] قالُوا نحنُ أهدَى من النَّصارى لأنَّهم عبدُوا آدمياً ونحنُ نعبدُ الملائكةَ فنزلتْ ، فقولُهم : { أَآلِهْتنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } [ سورة الزخرف ، الآية 58 ] حينئذٍ تفصيلٌ لآلهتِهم عَلَى عيسَى عليهِ السَّلامُ ؛ لأنَّ المرادَ بهم الملائكةُ ، ومَعْنى ما ضربُوه الخ ما قالُوا هذا القولَ إلا للجدلِ ، وقيلَ : لمَّا نزلتْ { إِنَّ مَثَلَ عيسى } [ سورة آل عمران ، الآية 59 ] الآيةَ قالُوا ما يريدُ محمدٌ بهذَا إلا أنْ نعبدَهُ وأنه يستأهلُ أنْ يعبدَ وإنْ كانَ بشراً كما عبدتِ النَّصارى المسيحَ وهو بشرٌ . ومَعْنى يَصِدُّونَ يَضجُّونَ ويضجرونَ . والضميرُ في أمْ هُو لمحمدٍ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ، وغرضُهم بالموازنةِ بينَهُ عليهِ السَّلامُ وبين آلهتِهم الاستهزاءُ به ، وقد جُوِّزَ أنْ يكونَ مرادُهم التنصلَ عمَّا أُنكرَ عليهم من قولِهم : الملائكةُ بناتُ الله تعالَى . ومن عبادتِهم لهم كأنَّهم قالُوا ما قُلنا بدعاً من القولِ ولا فعلنَا مُنكراً من الفعلِ فإنَّ النَّصارَى جعلُوا المسيحَ ابنَ الله وعبدُوه فنحنُ أشفُّ منُهم قولاً وفعلاً حيثُ نسبنَا إليهِ الملائكةَ وهُم نسبُوا إليهِ الأنَاسِيّ .