الآية 58 وهو ما ذكروا على إثره : { وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا } يعنون بقولهم : { هو } عيسى عليه السلام فذلك منهم يخرّج على وجهين :
أحدهما : لئن جاز أن يعذَّب عيسى عليه السلام ومن عُبد من هؤلاء دون الله في النار رضينا أن تعذَّب آلهتنا في النار ؛ إذ هم ليسوا بخير من عيسى عليه السلام وهؤلاء الذين عُبدوا دون الله من الملائكة وغيرهم .
والثاني : يقولون : إن كان عيسى يعذَّب في النار لما عُبد دونه فآلهتنا التي نعبدها دونه خير منه{[18987]} ، فلا تعذَّب لأنها خير .
فأحد التأويلين يرجع إلى أنهم يقولون : لو جاز ، وصلح أن يعذَّب كل معبود دونه جاز أن تعذَّب الأصنام التي نعبدها نحن .
والثاني : يقولون : إن كان يعذَّب عيسى وغيره الذين عُبدوا دونه ، فالأصنام التي نعبدها نحن لا تعذَّب لأنها خير من أولئك ، والله أعلم .
فنقول : إنما يكون لهم هذا الاحتجاج بالآية أن لو كانت الأصنام إنما تُحرق في النار تعذيبا لها ؛ أعني الأصنام . فأما إذا كانت الأصنام إنما تُحرق بالنار تعذيبا لمن عبدوها وعقوبة لمن اتّخذها أربابا دون الله فلا .
وإنما تُحرق الأصنام التي اتخذوها من الحجارة والحديد والصُّفر لزيادة تعذيب العَبَدة كقوله تعالى : { وقودها النار والحجارة } [ البقرة : 24 ] مع أنه لا جناية من الأصنام ، ولا ضرر لها بالإحراق ، فكيف يُحرق عيسى ومن عُبد دونه من الملائكة ، وفي إحراقهم تعذيبهم ؛ إذ هم يتضرّرون بها ، ولا جناية منهم ؟
فإذا كان إدخال الأصنام التي عبدوها وإحراقها في النار لتعذيب أولئك الذين عبدوها فلا معنى لتلك الخصومة والمجادلة التي كانت منهم ، والله أعلم .
وبعد فإن في الآية بيانا على أن الذي ذُكر من جعل المعبود حصبا للنار راجع إلى عُبّاد الأصنام والأوثان دون غيرها ، لأنه خاطب أهل مكة : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنّم } الآية [ الأنبياء : 98 ] وأهل مكة كانوا لا يعبدون إلا الأصنام والأوثان لا عيسى ولا غيره من البشر والملائكة ، فذلك لهم ولكل عابد الأصنام دون غيرهم من المعبودين استدلال{[18988]} بهم ، والله أعلم .
على أنّ في الآية بيانا أيضا إن لم يرجع إلى ما ذكروا من عيسى وغيره فإنه قال : { وما تعبدون من دون الله } [ الأنبياء : 98 ] وكلمة { ما } تُستعمل في غير العقلاء من الجماد وغيره{[18989]} لا في ذوي{[18990]} العقول .
وعلى أن في الآية بيانا من وجه آخر أيضا على أنهم غير مرادين بها فإنه استثنى ، وخصّ بقوله تعالى : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مُبعدون } [ الأنبياء : 101 ] . أخبر أن من سبقت منه الحسنى يكون مُبعَدا عنها ، ولا شك أن عيسى والملائكة عليهم السلام قد سبقت لهم منه الحسنى ، فلا يحتمل صرف تلك الآية إليهم ، والله أعلم .
ويحتمل أن يكون قوله : { إنكم وما تعبدون من دون الله } الآية [ الأنبياء : 98 ] إلى كل من منه الأمر بالعبادة لهم والدعاء إلى ذلك ، وهم الشياطين لأن من عبد دون الله أحدا فإنما يعبُده بأمر الشياطين ودعائه إليهم .
فأما من كان يتبرّأ من الأمر لهم بذلك وعبادتهم له فلا يحتمل . وذلك نحو قوله تعالى : { ويوم يحشرهم{[18991]} وما يعبدون من دون الله } [ الفرقان : 17 ] وقول{[18992]} إبراهيم لأبيه : { يا أبت لا تعبُد الشيطان } [ مريم : 44 ] ولا أحد يقصد قصد عبادة الشيطان ، لكن من عبد شيئا دون الله فإنما [ يعبده بأمر ]{[18993]} الشيطان ، فإذا عبده بأمره فكأنه [ عبد الشيطان ]{[18994]} وما ذكرنا يُبطل مجادلة الكفار في ما خاصموا ، والله أعلم .
وقال بعضهم : ضرب المثل لعيسى عليه السلام هو أن الله تعالى لما ذكر عيسى عليه السلام في القرآن قال مشركو العرب من قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم : ما أردت بذكر عيسى ؟ قال : . . . وقالوا : إنما يريد محمد أن نحبّه كما أحب النصارى عيسى ، وعبدته { وقالوا أآلهتنا خير أم هو } فلا يصنع محمد ذلك بآلهتنا . فالله{[18995]} لهم خير من عيسى وما قالوا . فقال : الله تعالى : { وما ضربوه لك إلا جدلا } أي إلا ليجادلوك بالباطل وهو قول قتادة .
ويحتمل /499-ب/ أن يكون ما ذكر من ضرب المثل بابن مريم عليه السلام من قومه ؛ أعني عيسى لأمر قوم محمد صلى الله عليه وسلم وذلك أن قومه قد اختلفوا فيه :
فمنهم من قال : إنه إله وإنه ربٌّ ، ومنهم من قال : إنه ابن الإله ، ومنهم من قال : إنه وأمّه إلهان ، ونحو ذلك من الاختلاف الذي كان بينهم فيه . فيكون قوله : { ولما ضُرب ابن مريم } قال قومه على ما ذكروا فيه .
ثم قوله{[18996]} : { إذا قومك منه يصدّون } أي يُعرضون عن عيسى ، ويضِجّون{[18997]} على ما ذكروا ، والله أعلم .
[ ويحتمل ]{[18998]} أن يكُفّ ، ويُمسك عن بيان ذكر المثل الذي ذكر في الآية لما لا حاجة إلى ذلك ، وهو شيء ذكره أولئك الكفرة ، والله أعلم .
ثم قوله تعالى : { إذا قومك منه يصدّون } قُرئ برفع{[18999]} الصاد وكسرها . قال القتبيّ وأبو عوسجة : { يصدّون } بالكسر يضجّون بالكسر ، والتصدية منه ، وهو التصفيق . ومن قرأ بالرفع يقول : يعدلون ، ويُعرضون .
وقوله تعالى : { وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصِمون } هو يُخرّج على الوجهين اللذين ذكرناهما ، والله أعلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.