اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالُوٓاْ ءَأَٰلِهَتُنَا خَيۡرٌ أَمۡ هُوَۚ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلَۢاۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمٌ خَصِمُونَ} (58)

قوله تعالى : { وقالوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ } قرأ أهل الكوفة بتحقيق الهمزة الثانية والباقون{[49995]} بتسهيلها بين بين . ولم يدخل أحدٌ من القراء الذين من قاعدتهم الفصل بين الهمزتين بألفٍ أَلِفاً كراهة لتوالي أربع مُتَشَابِهَاتٍ . وأبدل الجميع الهمزة الثانية ألفاً ، ولا بد من زيادة بيان ، وذلك أن آلهة جمع إله كعِمَادٍ ، وأَعْمِدَةٍ ، فالأصْل أَأْلهةٌ ، بهمزتين الأولى زائدة ، والثانية فاء الكلمة ، وقعت الثانية ساكنةً بعد مفتوحة فوجب قلبُها ألفاً «كَآمَنَ{[49996]} وبابِهِ{[49997]} » ، ثم دخلت همزة الاستفهام على الكل فالتقى همزتان في اللفظ ، الأول للاستفهام ، والثانية همزة «أَفْعِلَةٍ » فالكوفيون لم يعتدوا باجتماعهما ، فأبقوهما على ما لَهُما ، وغيرهم استثقل فخفف الثانية بالتسهيل بين بين ، والثالثة ألف محضة لم تغير البتَّةَ{[49998]} . وأكثر أهل العصر يقرأون هذا الحرف بهمزة واحدة بعدها ألف على لفظ الخبر ولم يقرأ به أحدٌ من السبعة فيما علمنا إلا أنه قد روي أن وَرْشاً قرأ كذلك في رواية أبي الأَزهَر{[49999]} وهي تحتمل الاستفهام كالعامة . وإنما حذف أداة الاستفهام لدلالة أم عليها ، وهو كثير{[50000]} . ويحتمل أنه قرأه خبراً محضاً وحينئذ تكون أم منقطعة تقدر ببل{[50001]} والهمزة وأما الجماعة فهي عندهم متصلة{[50002]} . فقوله : «أَمْ هُوَ » على قراءة العامة عطف على «آلهتنا خير » وهو من عطف المفردات ، والتقدير : أَاَلهتنا أَمْ هُوَ خَيْرٌ ؟ أي أيهما خير ؟ وعلى قراءة ورش يكون هو مبتدأ ، وخبره محذوف تقديره : بل أهُوَ خَيْرٌ . وليست «أمْ » حينئذ عاطفةً{[50003]} .

فصل

قال قتادة معنى قوله : «أمْ هُو » يعنون محمداً فنعبده ونترك آلهتنا . وقال السدي وابن زيد : أم هو يعني عيسى قالوا يزعم محمد أن كل ما عبد من دون الله في النار ، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير ، والملائكة في النار{[50004]} ، قال الله تعالى : { مَا ضَرَبُوهُ } يعني هذا المثل : «لَكَ إلاَّ جَدَلاً » أي خصومة بالباطل ، فقد علموا أن المراد من قوله : { وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] هؤلاء الأصنام { بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } مبالغون في الخُصُومَة . روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : «مَا ضَلَّ قوم بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْه إلاَّ أُوتُوا الجَدَل » ثم قرأ : { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ }{[50005]} .

قوله : «جَدَلاً » مفعول من أجله ، أي لأجل الجدل والمِرَاء ، لا لإظهار الحق ، وقيل : هو مصدر في موضع الحال أي إلا مُجَادِلين{[50006]} . وقرأ ابن مقسِم : جِدَالاً{[50007]} والوجهان جاريان فيه . والظاهر أن الضمير في «هو » لعيسى كغيره من الضمائر . وقيل : هو للنبيّ عليه الصلاة والسلام ، وبكُلِّ قال به المفسرون كما تقدم{[50008]} .

فصل

تمسك القائلون بذم الجدل بهذه الآية ، والآيات الكثيرة دالة على مدح الجدل فالتوفيق بينهما أن تًصْرَفَ الآيات الدالة على مدح الجدل إلى الجدل الذي يفيد تقرير الحق وتصرف هذه الآية إلى الجدل الذي يوجب تقرير الباطل .


[49995]:وهم نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ورويس. وانظر الإتحاف 386، والسبعة 587 وإبراز المعاني 680.
[49996]:فأصله أأمن.
[49997]:إيمان وأوثر ونحوهما.
[49998]:انظر هذا في الكشف 2/260 و261 وشرح الشافية للإمام الرضي 3/53 و54.
[49999]:هو عبد الصمد بن عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة أبو الأزهر العتقي المصري صاحب الإمام مالك راو مشهور بالقراءة متصدر ثقة، أخذ القراءة عرضا عن ورش مات في رجب 231 انظر غاية النهاية لابن الجزري 1/389 وقد ذكر هذه القراءة ابن مجاهد في السبعة عن أحمد بن صالح عن قالون عن نافع كما نقل: وقال أحمد بن صالح: بلغني عن ورش أنه كان يقرأها بغير استفهام. انظر السبعة 588.
[50000]:الكشاف 3/493.
[50001]:البحر المحيط 8/25 والدر المصون 4/796.
[50002]:قاله ابن الأنباري في البيان 2/354 والمرجع السابق.
[50003]:السابق.
[50004]:القرطبي 16/104.
[50005]:رواه الترمذي في صحيحه عن أبي أمامة. وانظر أيضا القرطبي 16/104.
[50006]:ذكر هذين الوجهين في الكشاف 3/493 و494.
[50007]:من القراءة الشاذة. البحر المحيط 8/25 والقرطبي السابق وأيضا شواذ القرآن 218.
[50008]:كما سبق منذ قليل والدر المصون 4/797.