{ لَيْسَ عَلَى الذين آمنوا وَعَمِلُوا الصالحات جُنَاحٌ } أي إثم وحرج { فِيمَا طَعِمُوا } أي تناولوا أكلاً أو شرباً فإن استعماله في الشرب أيضاً مستفيضٌ ، منه قولُه تعالى : { وَمَن لمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّي } [ البقرة ، الآية 249 ] قيل : ( لما أنزل الله تعالى تحريم الخمر بعد غزوة الأحزاب قال رجال من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام : أصيب فلان يوم بدر وفلان يوم أحد وهم يشربونها ، ونحن نشهد أنهم في الجنة ) ، وفي رواية أخرى : ( لما نزل تحريم الخمر والميسر قالت الصحابة رضي الله تعالى عنهم : يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر ؟ ) ، وفي رواية أخرى : ( قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار ؟ فنزلت ) ، وليست كلمة ( ما ) في ما طعموا عبارةً عن المباحات الخاصة ، والإلزام تقييدُ إباحتها باتقاء ما عداها من المحرمات لقوله تعالى : { إِذَا مَا اتقوا } واللازمُ منْتفٍ بالضرورة ، بل هي على عمومها موصولةً كانت أو موصوفة ، وإنما تخصصت بذلك القيد الطارئ عليها ، والمعنى ليس عليهم جُناحٌ فيما تناولوه من المأكول والمشروب كائناً ما كان إذا اتقَوْا أن يكون في ذلك شيء من المحرمات ، وإلا لم يكن نفْيُ الجُناح في كل ما طعموه بل في بعضه ولا محذورَ فيه ، إذِ اللازمُ منه تقييد إباحة الكل بأن لا يكون فيه محرم لا تقيد إباحة بعضه باتقاء بعضٍ آخرَ منه كما هو اللازم من الأول { وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات } أي واستمروا على الإيمان والأعمال الصالحة ، وقوله تعالى : { ثُمَّ اتَّقَوا } عطف على ( اتقوا ) داخلٌ معه في حيِّز الشرط ، أي اتقوا ما حُرّم عليهم بعد ذلك مع كونه مباحاً فيما سبق { وَآمنوا } أي بتحريمه ، وتقديم الاتقاء عليه إما للاعتناء به أو لأنه الذي يدل على التحريم الحادث الذي هو المؤمَنُ به ، أو واستمروا على الإيمان { ثُمَّ اتَّقَوا } أي ما حرم عليهم بعد ذلك مما كان مباحاً من قبل ، على أن المشروط بالاتقاء في كل مرة إباحةُ كل ما طعِموه في ذلك الوقت لا إباحةُ كل ما طعموه قبله ، لانتساخ إباحةِ بعضِه حينئذ { وَأَحْسَنُوا } أي عملوا الأعمال الحسنة الجميلة المنتظمة لجميع ما ذكر من الأعمال القلبية والقالبية ، وليس تخصيص المرات بالذكر لتخصيص الحكم بها ، بل لبيان التعدد والتكرر بالغاً ما بلغ ، والمعنى أنهم إذا اتقوا المحرمات واستمروا على ما هم عليه من الإيمان والأعمال الصالحة ، وكانوا في طاعة الله ومراعاةِ أوامرِه ونواهيه بحيث كلما حرِّم عليهم شيء من المباحات اتقَوْه ، ثم . . . وثم . . فلا جناح عليهم فيما طعموه في كل مرة من المطاعم والمشارب ، إذ ليس فيها شيء محرم عند طُعْمِه . وأنت خبير بأن ما عدا اتقاءِ المحرمات من الصفات الجميلة المذكورة لا دخْلَ لها في انتفاء الجُناح ، وإنما ذكرت في حيز ( إذا ) شهادةً باتصاف الذين سُئل عن حالهم بها ، ومدحاً لهم بذلك وحمداً لأحوالهم ، وقد أشير إلى ذلك حيث جُعلت تلك الصفاتُ تبعاً للاتقاء في كل مرةٍ تمييزاً بينها وبين ما له دخل في الحكم ، فإن مَساقَ النظم الكريم بطريق العبارة وإن كان لبيان حال المتصفين بما ذُكر من النعوت فيما سيأتي بقضية كلمة ( إذا ما ) ، لكنه قد أُخرج مُخْرَجَ الجواب عن حال الماضين لأثبات الحكم في حقهم في ضمن التشريع الكلي على الوجه البرهاني بطريق دلالة النص ، بناءً على كمال اشتهارهم بالاتصاف بها ، فكأنه قيل : ليس عليهم جُناح فيما طعِموه إذْ كانوا في طاعته تعالى مع ما لهم من الصفات الحميدة ، بحيث كلما أمِروا بشيء تلقَّوْه بالامتثال . وإنما كانوا يتعاطَوْن الخمر والميسر في حياتهم لعدم تحريمها إذ ذاك ، ولو حُرما في عصرهم لاتقوهما بالمرة . هذا وقد قيل : التكريرُ باعتبار الأوقات الثلاثة ، أو باعتبار الحالات الثلاث : استعمالِ الإنسان التقوى بينه وبين نفسه ، وبينه وبين الناس ، وبينه وبين الله عز وجل ، ولذلك جيءَ بالإحسان في الكرة الثالثة بدلَ الإيمان إشارةً إلى ما قاله عليه الصلاة والسلام في تفسيره ، أو باعتبار المراتب الثلاث : المبدأ والوسط والمنتهى ، أو باعتبار ما يُتَّقى ، فإنه ينبغي أن يترك المحرمات توقياً من العقاب ، والشبُهاتِ توقياً من الوقوع في الحرام ، وبعضَ المباحات حفظاً للنفس عن الخِسة وتهذيباً لها عن دنَس الطبيعة ، وقيل : التكريرُ لمجرد التأكيد كما في قوله تعالى : { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ التكتثر ، الآية 3 و4 ] ونظائرِه ، وقيل : المرادُ بالأول اتقاءُ الكفر ، وبالثاني اتقاءُ الكبائر ، وبالثالث اتقاءُ الصغائر . ولا ريب في أنه تعلَّقَ لهذه الاعتبارات بالمَقام فأَحسِنِ التأمل { والله يُحِبُّ المحسنين } تذييلٌ مقرِّر لمضمون ما قبله أبلغَ تقرير .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.