إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{إِذۡ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمۡ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۚ سَأُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ فَٱضۡرِبُواْ فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ وَٱضۡرِبُواْ مِنۡهُمۡ كُلَّ بَنَانٖ} (12)

وقوله تعالى : { إِذْ يُوحي رَبُّكَ إِلَى الملائكة } منصوبٌ بمضمر مستأنفٍ خوطب به النبيُّ عليه الصلاة والسلام بطريق التجريدِ حسبما تنطِق به الكافُ لِما أن المأمورَ به مما لا يستطيعه غيرُه عليه الصلاة والسلام فإن الوحيَ المذكورَ قبل ظهورِه بالوحي المتلوِّ على لسانه عليه الصلاة والسلام ليس من النعم التي يقف عليها عامةُ الأمةِ كسائر النعمِ السابقة التي أُمروا بذكر وقتِها بطريق الشكرِ ، وقيل : منصوب بقوله تعالى : { وَيُثَبّتَ بِهِ الأقدام } فلا بد حينئذٍ من عود الضميرِ المجرورِ في به إلى الربط على القلوب ليكون المعنى : ويثبتَ أقدامَكم بتقوية قلوبِكم وقتَ إيحائِه إلى الملائكة وأمرِه بتثبيتهم إياكم وهو وقتُ القتال ، ولا يخفى أن تقييدَ التثبيتِ المذكورِ بوقت مبْهمٍ عندهم ليس فيه مزيدُ فائدةٍ ، وأما انتصابُه على أنه بدلٌ ثالثٌ من إذ يعدكم كما قيل فيأباه تخصيصُ الخِطاب به عليه الصلاة والسلام مع ما عرفتَ من أن المأمورَ به ليس من الوظائف العامةِ للكل كسائر أخواتِه . وفي التعرض لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من التنويه والتشريفِ ما لا يخفى ، والمعنى اذكُر وقتَ إيحائِه تعالى إلى الملائكة { أني مَعَكُمْ } أي بالإمداد والتوفيقِ في أمر التثبيتِ فهو مفعولُ يوحي ، وقرىء بالكسر على إرادة القول أو إجراءِ الوحي مُجراه . وما يُشعِر به دخولُ كلمةِ مع من متبوعية الملائكةِ إنما هي من حيث إنهم المباشرون للتثبيت صورةً فلهم الأصالةُ من تلك الحيثيةِ كما في أمثال قولهِ تعالى : { إِنَّ الله مَعَ الصابرين } [ البقرة : 153 ] والفاءُ في قوله تعالى : { فَثَبّتُواْ الذين ءامَنُواْ } لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن إمدادَه تعالى إياهم من أقوى موجباتِ التثبيتِ ، واختلفوا في كيفية التثبيتِ فقالت جماعةٌ : إنما أُمروا بتثبيتهم بالبِشارة وتكثيرِ السوادِ ونحوِهما مما تقوى به قلوبُهم وتصِحّ عزائمهُم ونياتُهم ويتأكد جِدُّهم في القتال وهو الأنسبُ بمعنى التثبيتِ وحقيقتِه التي هي عبارةٌ عن الحمل على الثبات في موطن الحربِ والجِدّ في مقاساة شدائد القتال . وقد روي أنه كان الملَكُ يتشبّه بالرجل الذي يعرفونه بوجهه فيأتي ويقول : إني سمعتُ المشركين يقولون : والله لئن حَملوا علينا لننكَشِفنّ ويمشي بين الصفين فيقول : أبشِروا فإن الله تعالى ناصرُكم وقال آخرون : أُمروا بمحاربة أعدائِهم وجعلوا قولَه تعالى : { سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } تفسيراً لقوله تعالى : { أنّي مَعَكُمْ } وقولَه تعالى : { فاضربوا } الخ ، تفسيراً لقوله تعالى : { فَثَبّتُوا } مبيناً لكيفية التثبيت . وقد روي عن أبي داود المازني رضي الله عنه وكان ممن شهد بدراً أنه قال : اتبعتُ رجلاً من المشركين يوم بدر لأضرِبَه فوقعتْ رأسُه بين يديَّ قبل أن يصِلَ إليه سيفي . وعن سهل بن حُنيفٍ رضي الله عنه أنه قال : لقد رأيُتنا يوم بدر وإن أحدَنا يُشيرُ بسيفه إلى المشرك فتقعُ رأسُه عن جسده قبل أن يصِلَ إليه السيفُ . وأنت خبيرٌ بأن قتلَهم للكفرة مع عدم ملاءمته لمعنى تثبيتِ المؤمنين مما لا يتوقف على الإمدادِ بإلقاء الرعبِ فلا يتجه ترتيبُ الأمر به عليه بالفاء وقد اعتذر الأولون بأن قوله تعالى : { فَثَبّتُواْ الذين ءامَنُواْ } تلقيناً للملائكة ما يثبّتونهم به ، كأنه قيل : قولوا لهم قوْلي : سألقي في قلوب الذين كفروا الرعبَ فاضرِبوا الخ فالضاربون هم المؤمنون ، وأما ما قيل من أن ذلك خطابٌ منه تعالى للمؤمنين بالذات على طريق التلوينِ فمبناه توهُّمُ ورودِه قبل القتالِ وأنّى ذلك والسورةُ الكريمة إنما نزلت بعد تمامِ الوقعة ، وقوله تعالى : { فَوْقَ الأعناق } أي أعاليَها التي هي المذابح أو الهامات { واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } قيل : البنانُ أطرافُ الأصابع من اليدين والرجلين ، وقيل : هي الأصابعُ من اليدين والرجلين وقال أبو الهيثم البنان : المفاصلُ ، وكلُّ مَفصِلٍ بنانه وقال ابن جريج والضحاك : يعني الأطرافَ أي اضرِبوهم في جميع الأعضاء من أعاليها إلى أسافلها . وقيل : المرادُ بالبنان الأداني وبفوق الأعناق الأعالي والمعنى فاضرِبوا الصناديدَ والسَّفَلةَ وتكريرُ الأمر بالضرب لمزيد الاعتناءِ بأمره و( منهم ) متعلقٌ به أو بمحذوف وقع حالاً مما بعده .