إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَنفَالِۖ قُلِ ٱلۡأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصۡلِحُواْ ذَاتَ بَيۡنِكُمۡۖ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (1)

مقدمة السورة:

مدنية . وهي خمس وسبعون آية

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } النفل الغنيمةُ سُمّيت به لأنها عطيةٌ من الله تعالى زائدة على ما هو أصلُ الأجرِ في الجهاد من الثواب الأخروي ، ويطلق على ما يعطى بطريق التنفيل زيادةً على السهم من المغنم وقرئ عَلنفال بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدغام نون عن في اللام . روي أن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر وفي قسمتها فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تُقسم ولمن الحُكم فيها أللمهاجرين أم للأنصار أم لهم جميعاً ؟ وقيل : إن الشبانَ قد أبلَوا يومئذ بلاء حسناً فقتلوا سبعين وأسروا سبعين فقالوا : نحن المقاتلون ولنا الغنائم ، وقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات : كنا رِدءاً{[314]} لكم وفئةً تنحازون إليها حتى قال سعد بن معاذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم : والله ما منعنا أن نطلبَ ما طلب هؤلاء زهادةٌ في الأجر ولا جبنٌ من العدو ولكن كرِهنا أن نعرِّيَ مصافّك فيعطِفَ عليك خيلٌ من المشركين فنزلت .

وقيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم قد شرط لمن كان له بلاءٌ أن يُنَفِّله ، ولذلك فعل الشبانُ ما فعلوا من القتل والأسر فسألوه عليه الصلاة والسلام ما شرطه لهم فقال الشيوخُ : المغنمُ قليلٌ والناسُ كثيرٌ وإن تُعطِ هؤلاءِ ما شرطتَ لهم حرمتَ أصحابَك فنزلت . والأولُ هو الظاهُر لما أن السؤالَ استعلامٌ لحكم الأنفالِ بقضية كلمةِ ( عن ) لا استعطاءٌ لنفسها كما نطقَ به الوجهُ الأخير وادعاءُ زيادةٍ عن تعسف ظاهر ، والاستدلالُ عليه بقراءة ابن مسعودٍ ، وسعد بن أبي وقاص ، وعليِّ بنِ الحسين وزيدٍ ، ومحمد الباقر ، وجعفرِ الصادق ، وعكرمةَ ، وعطاءٍ ، يسألونك الأنفالَ ، غيرُ منتهضٍ فإن مبناها كما قالوا على الحذف والإيصالِ كما يعرب عنه الجوابُ بقوله عز وجل : { قُلِ الأنفال لِلَّهِ والرسول } أي حكمُها مختصٌّ به تعالى يقسمها الرسولُ عليه الصلاة والسلام كيفما أُمر به من غير أن يدخُل فيه رأيُ أحدٍ ولو كان السؤالُ استعطاءً لما كان هذا جواباً له فإن اختصاصَ حكمِ ما شُرط لهم من الأنفال بالله والرسول لا ينافي إعطاءَها إياهم بل يحقّقه لأنهم إنما يسألونها بموجب شرطِ الرسولِ عليه الصلاة والسلام الصادرِ عنه بإذن الله تعالى لا بحكم سبَق أيديَهم إليها ونحوِ ذلك مما يُخِلّ بالاختصاص المذكورِ ، وحملُ الجوابِ على معنى أن الأنفالَ بالمعنى المذكور مختصةٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم لا حق فيها للمُنفَّل كائناً من كان مما لا سبيل إليه قطعاً ضرورةَ ثبوتِ الاستحقاقِ بالتنفيل ، وادعاءُ أن ثبوتَه بدليل متأخرٍ التزامٌ لتكرر النسخِ من غير علمٍ بالناسخ الأخير ، ولا مساغَ للمصير إلى ما ذهب إليه مجاهدٌ وعكرمةُ والسديّ من أن الأنفالَ كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصةً ليس لأحد فيها شيءٌ بهذه الآية فنسخت بقوله تعالى : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } لما أن المرادَ بالأنفال فيما قالوا هو المعنى الأولُ حتماً كما نطَق قوله تعالى : { واعلموا أَنَّمَا * غنمتم مِن شَىْء } الآية{[315]} ، على أن الحقَّ أنه لا نسخَ حينئذ أيضاً حسبما قاله عبدُ الرحمن بنُ زيدِ بنِ أسلم بل بيّن في صدر السورة الكريمة إجمالاً أن أمرَها مفوضٌ إلى الله تعالى ورسولهِ ثم بيّن مصاريفَها وكيفيةَ قسمتِها على التفصيل ، وادعاءُ اقتصارِ هذا الحُكمِ أعني الاختصاصَ برسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنفال المشروطةِ يوم بدر بجعل اللامِ للعهد مع بقاء استحقاقِ المُنفَّل في سائر الأنفالِ المشروطةِ يأباه مقامُ بيانِ الأحكامِ كما ينبيء عنه إظهارُ الأنفالِ في موقع الإضمارِ على أن الجوابَ عن سؤال الموعودِ ببيان كونهِ له عليه الصلاة والسلام خاصةً مما لا يليق بشأنه الكريمِ أصلاً ، وقد روي عن سعد بنِ أبي وقاصٍ بن أبي وقاصٍ أنه قال : قُتل أخي عميرٌ يوم بدرٍ فقتلتُ به سعيدَ بنَ العاص وأخذتُ سيفَه فأعجبني فجئتُ به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إن الله تعالى قد شفى صدري من المشركين فهَبْ لي هذا السيفَ ، فقال عليه الصلاة والسلام : " ليس هذا لي ولا لك اطرَحْه في القبض " فطرحتُه وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذِ سلبي فما جاوزتُ إلا قليلاً حتى نزلت سورةُ الأنفال فقال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " يا سعُد إنك سألتني السيفَ وليس لي وقد صار لي فاذهبْ فخُذْه " وهذا كما ترى يقتضي عدمَ وقوعِ التنفيلِ يومئذ ، وإلا لكان سؤالُ السيفِ من سعد بموجب شرطِه ووعدِه عليه السلام لا بطريق الهِبَة المبتدَأةِ ، وحُمل ذلك من سعدٍ على مراعاة الأدبِ مع كون سؤالِه بموجب الشرط يرده عليه الصلاة والسلام قبل النزولِ ، وتعليلُه بقوله : «ليس هذا لي » لاستحالة أن يعِدَ عليه الصلاة والسلام بما لا يقدِرُ على إنجازه ، وإعطاؤُه صلى الله عليه وسلم بعد النزولِ وترتيبُه على قوله : «وقد صار لي » ضرورةَ أن مناطَ صيرورتِه له عليه الصلاة السلام قولُه تعالى : { الأنفال لِلَّهِ والرسول } والفرضُ أنه المانعُ من إعطاء المسؤولِ ومما هو نصٌّ في الباب قوله عز وجل : { فاتقوا الله } أي إذا كان أمرُ الغنائم لله تعالى ورسوله فاتقوه تعالى واجتنبوا ما كنتم من المشاجرة فيها والاختلاف الموجِبِ لسَخَط الله تعالى أو فاتقوه في كل ما تأتون وما تذرون فيدخُل فيه دخولاً أولياً ولو كان السؤالُ طلباً للمشروط لمّا كان فيه محذورٌ يجب اتقاؤُه ، وإظهارُ الاسم الجليلِ لتربية المهابة وتعليلِ الحُكم { وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } جُعل ما بينهم من الحال لملابستها التامةِ لبَيْنهم صاحبةً له كما جُعلت الأمورُ المضمرةُ في الصدور ذاتَ الصدور أي أصلِحوا ما بينكم من الأحوال بالمواساة والمساعدةِ فيما رزقكم الله تعالى وتفضل به عليكم .

وعن عبادة بن الصامت نزلت فينا معشرَ أصحابِ بدرٍ حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقُنا فنزعه الله تعالى من أيدينا فجعله لرسوله فقسمه بين المسلمين على السواء وكان في ذلك تقوى الله وطاعةُ رسوله وإصلاحُ ذات البين وعن عطاء كان الإصلاحُ بينهم أن دعاهم وقال اقسموا : غنائمَكم بالعدل فقالوا : قد أكلْنا وأنفقْنا فقال : ليرُدَّ بعضُكم على بعض { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } بتسليم أمرِه ونهيه ، وتوسيطُ الأمر بإصلاح ذاتِ البين بين الأمرِ بالتقوى والأمرِ بالطاعة لإظهار كمالِ العناية بالإصلاح بحسب المقام وليندرجَ الأمرُ به بعينه تحت الأمرِ بالطاعة { إِن كُنتُم مؤْمِنِينَ } متعلقٌ بالأوامرَ الثلاثةِ والجوابُ محذوفٌ ثقةً بدلالة المذكورِ عليه أو هو الجوابُ على الخلاف المشهور ، وأياً ما كان فالمقصودُ تحقيقُ المعلقِ بناءً على تحقيق المعلقِ به ، وفيه تنشيطٌ للمخاطَبين وحثٌّ لهم على المسارعة إلى الامتثال ، والمرادُ بالإيمان كمالُه أي إن كنتم كاملي الإيمانِ فإن كمالَ الإيمان يدور على هذه الخِصالِ الثلاثِ : طاعةُ الأوامرِ واتقاءُ المعاصي وإصلاحُ ذاتِ البينِ بالعدل والإحسان .


[314]:الردء: المعين والناصر.
[315]:هي الآية 41 من سورة الأنفال.