إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{لَمۡ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡمُشۡرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأۡتِيَهُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة البينة مختلف فيها ، وآيها ثمان .

{ لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكتاب } أي اليهودُ والنَّصارَى ، وإيرادُهم بذلكَ العنوانِ للإشعارِ بعلةِ ما نُسبَ إليهمْ من الوعدِ باتباعِ الحقِّ ، فإنَّ مناطَ ذلكَ وجدانُهم لَهُ في كتابِهم ، وَإِيرادُ الصلةِ فعلاً لما أنَّ كُفرهم حادثٌ بعدَ أنبيائِهم { والمشركين } أيْ عبدةِ الأصنامِ ، وقُرِئَ ( وَالمشركونَ ) عطفاً على الموصولِ { مُنفَكّينَ } أي عمَّا كانُوا عليهِ من الوعدِ باتباعِ الحقِّ والإيمانِ بالرسولِ المبعوثِ في آخرِ الزمانِ والعزمِ على إنجازِه ، وهَذَا الوعدُ من أهلِ الكتابِ مما لا ريبَ فيه ، حَتَّى إنَّهم كانُوا يستفتحونَ ويقولونَ : اللهمَّ افتحْ علينَا وانصرنا بالنبيِّ المبعوثِ في آخرِ الزمانِ ، ويقولونَ لأعدائِهم منَ المشركينَ : قد أظلَّ زمانُ نبيَ يخرجُ بتصديقِ ما قلنَا فنقتلُكُم مَعَهُ قتلَ عادٍ وإرمَ ، وأما منَ المشركينَ فلعلَّهُ قدْ وقعَ من متأخريهمْ بعدَ مَا شَاعَ ذلكَ من أهلِ الكتابِ ، واعتقدوا صحتَهُ بَمَا شاهدُوا من نصرتهم على أسلافهم كما يشهدُ به أنهم كانوا يسألونهم عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم هلْ هُوَ المذكورُ في كتابِهم ، وكانوا يغرونَهُم بتغييرِ نعوتِه عليهِ السَّلامُ . وانفكاكُ الشيءِ أنْ يزايَلَهُ بعدَ التحامِه كالعظمِ إذا انفكَّ من مفصلِه ، وفيهِ إشارةٌ إلى كمالِ وكادةِ وعدِهم ، أيْ لم يكُونوا مفارقينَ للوعدِ المذكورِ ؛ بلْ كانُوا مجمعينَ عليهِ ، عازمينَ على إنجازِه { حتى تَأْتِيَهُمُ البينة } التي كانُوا قد جعلوا إتيانها ميقاتاً لاجتماعِ الكلمةِ والاتفاقِ عَلى الحقِّ ، فجعلوه ميقاتاً للانفكاكِ والافتراقِ وإخلافِ الوعدِ ، والتعبيرُ عن إتيانِها بصيغةِ المضارعِ باعتبارِ حالِ المحكيِّ لا باعتبارِ حالِ الحكايةِ ، كما في قولِه تعالَى : { واتبعوا مَا تَتْلُوا الشياطين } [ سورة البقرة ، الآية 102 ] أي تلتْ .