الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{لَيۡسَ لَكَ مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٌ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡ أَوۡ يُعَذِّبَهُمۡ فَإِنَّهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (128)

{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } اختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية ، فقال عبد الله بن مسعود :

أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعوا على المدبرين عنه من أصحابه يوم أُحد ، وكان عثمان منهم ، فنهاه الله عزّ وجلّ عن ذلك وتاب عليهم ، فأنزل هذه الآية ، وقال عكرمة وقتادة : أَدْمى رجل من هذيل يقال له عبد الله بن قمية وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد ، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان حتفه أن سلّط الله عليه تيساً فنطحه حتى قتله .

وشجّ عتبة بن أبي وقاص رأسه ، وكسر رباعيته فدعا عليه ، وقال : ( الّلهم لا تحل عليه الحول حتى يموت كافراً ) قال : وما حال عليه الحول حتى مات كافراً ، فأنزل الله هذه الآية .

وقال الكلبي والربيع : نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد ، وقد شجّ في وجهه وأُصيبت رباعيته ، فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلعن المشركين ويدعو عليهم ، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه

الآية ، لعلمه فيهم أن كثيراً منهم سيؤمنون ، يدلّ عليه ما روى أبو بكر بن عياش ، عن حميد ، عن أنس قال : لمّا كان يوم أُحد شجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في فوق حاجبه وكسرت رباعيته وجرح في وجهه ، فجعل يمسح الدم في وجهه ؛ وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( كيف يفلح قوم خضّبوا وجه نبيّهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربّهم ) ، فأنزل الله تعالى : ) لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ( ، وقال سعيد بن المسيّب . والشعبي . ومحمد بن إسحاق بن يسار : لمّا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اشتدّ غضب الله على من دمى وجه نبيّه ) . علت عالية من قريش على الجبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ( اللهم إنه ) لا ينبغي لهم أن يعلونا ) ، فأقبل عمر ورهط من المهاجرين حتى أهبطوهم ، ونهض رسول الله إلى صخرة ليعلوها وقد كان ظاهر بين درعين فلم يستطع ، فجلس تحته طلحة فنهض حتى استوى عليها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أوجب طلحة الجنة ) ، فوقفت هند والنسوة معها يمثّلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدعنّ الآذان والأُنوف ، حتى أخذت هند من ذلك قلائد وأعطتها وحشيّاً ، وبقرت من كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع فلفظتها ، ثم علت صخرة مشرفة فصرخت :

نحن جزيناكم بيوم بدر

والحرب بعد الحرب ذات سعر

ما كان من عتبة لي من صبر

أبي وعمي وأخي وبكري

شفيت صدري وقضيت نذري

شفيت وحشي من غليل صدري

قالوا : وقال عبد الله بن الحسن : قال حمزة : الّلهم إن لقينا هؤلاء غداً فإنّي أسألك أن يقتلوني ويبقروا بطني ويجدعوا أنفي وأُذني ، فتقول لي يوم القيامة : فيم فعل بك هذا ؟ فأقول : فيك . فلمّا كان يوم أُحد قتل فبقر بطنه وجدعت أُذنه وأنفه ، فقال رجل سمعه : أمّا هذا فقد أُعطي في نفسه ما سأل في الدنيا ، والله يعطيه ما سأل في الآخرة .

قالوا : فلمّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ما بأصحابهم من جدع الآذان والأُنوف وقطع المذاكير ، قالوا : لئن أدالنا الله عليهم لنفعلنّ بهم مثل ما فعلوا ، ولنمثلنّ بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قطّ ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .

قال عطاء : " قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أُحد أربعين يوماً يدعو على أربعة من ملوك كندة : مسرح ، وأحمد ، ولحي ، وأخيهم العمردة ، وعلى معن من هذيل ، يقال لهم : لحيان ، وعلى بطون من سليم وعلى ذكوان وعصبة والقارة ، وكان يقول : " الّلهم أشدد وطاءك على مُضر واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف " ، فأجاب الله دعاه وقحطوا حتى أكلوا أولادهم وأكلوا الكلاب والميتة والعظام المحرقة ، فلمّا انقضت الأربعون نزلت هذه الآية " .

وعن سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " الّلهم ألعن أبا سفيان ، الّلهم العن الحرث بن هشام ، الّلهم العن صفوان بن أُميّة " ، فأنزل الله تعالى : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } [ آل عمران : 128 ] وأسلموا فحسن إسلامهم

. " " الزهري عن سالم عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في صلاة الفجر حين رفع رأسه من الركوع : " ربّنا لك الحمد الّلهم العن فلاناً وفلاناً " ، دعا على ناس من المنافقين فأنزل الله تعالى : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } [ آل عمران : 128 ] الآية . وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في بئر معونة وهم سبعون رجلا من قرّاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أميرهم المنذر بن عمرو ، وبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر معونة في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد ، ليعلّموا الناس القرآن والعلم ، فقتلهم جميعاً " .

عامر بن الطفيل : وكان فيهم عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق فلما قتل رفع بين السماء والأرض ، فوَجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وَجداً شديداً وحزن عليهم شهراً فنزلت { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } وهذه الآية وإن كانت لفظاً للعموم ، فالمراد منها الخصوص تقديرها : ليس لك من الأمر بهواك شيء . واللام في قوله : ( لك ) بمعنى ( إليّ ) كقوله : { رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ } [ آل عمران : 193 ] وقوله :

{ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا } [ الأعراف : 43 ] ونحوهما .

{ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } ليس لك من الأمر شيء وهو وجه حسن .

وقال بعضهم : ( أو ) بمعنى ( حتى ) يعني : ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب عليهم أو يعذبهم .