الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (42)

{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } فيه أربع لغات : السُحت بضم السين والحاء وهي قراءة أهل الحجاز والبصرة ، واختار الكسائي : سَحت مخففة وهي قراءة أهل الشام وعاصم وحمزة وخلف .

والسَحت بفتح السين وجزم الحاء وهي رواية العباس عن نافع ، والسحت بضم السين وجزم الحاء وهي قراءة عبيد بن عمير وهو الحرام . قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : " كل لحم نبت من السحت فالنار أولى به " وأصله ما أشدّ أشدّه ، وقال اللّه تعالى

{ فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } [ طه : 61 ] .

قال الفرزدق :

وعض زمان يا ابن مروان لم يدع *** من المال إلاّ مسحتاً أو مجلف

قال : من تخلّف إذا استأصل الشجر سحت .

وقال الفرّاء : أصله كلب الجوع ، فيقال : رجل سحوت المعدة إذا كان أكولاً لا يُلقى أبداً إلاّ جائعاً ، فكأن بالمسترشي وآكل الحرام من الشره إلى ما يعطى مثل الذي بالمسحوت المعدة من النهم . ونزلت هذه الآية في حكام اليهود ، كعب بن الأشرف وأمثاله كانوا يرتشون ويفضلون لمن رشاهم .

وروى أبو عقيل عن الحسن : في قوله : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } قال : تلك الحكام تسمع كذبه وتأكل رشوة .

وعنه في غير هذه الرواية . قال : كان الحاكم منهما إذا أتى أحد برشوته جعلها [ بين يديه فينظر إلى صاحبها ويتكلم معه ] ويسمع منه ولا ينظر إلى خصمه فيأكل الرشوة ويسمع الكذب ، وعنه أيضاً قال : إنما ذلك في الحكم إذا رشوته ليحق لك باطلاً أو يبطل عنك حقّاً فأما أن يعطي الرجل الوالي يخاف ظلمه شيئاً ليدرأ به عن نفسه فلا بأس .

والسحت هو الرشوة في الحكم على قول الحسن . ومقاتل وقتادة والضحّاك والسدّي .

وقال ابن مسعود : هو الرشوة في كل شيء .

قال مسلم بن صبيح : صنع مسروق لرجل في حاجة فأهدى له جارية فغضب غضباً شديداً ، وقال : لو علمت إنّك تفعل هذا ما كلّمت في حاجتك ، ولا أكلم لما بقي من حاجتك ، سمعت ابن مسعود يقول : من يشفع شفاعة ليرد بها حقّاً أو ليدفع بها ظلماً فأهدي له فقيل فهو سحت ، فقيل له : يا أبا عبد الرحمن ما كنّا نرى ذلك إلاّ الأخذ على الحكم ، قال : الأخذ على الحكم كفر . قال اللّه عز وجل

{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [ المائدة : 44 ] .

وقال أبو حنيفة : إذا ارتشى الحاكم إنعزل في الوقت وإن لم يُعزل .

وقال عمر وعلي وابن عباس رضي اللّه عنهم : السحت خمسة عشر : الرشوة في الحكم ومهر البغي وحلوان الكاهن ، وثمن الكلب والقرد والخمر والخنزير والميتة والدم وعسيب الفحل وأجر النائحة والمغنية والقايدة والساحر وأجر صور التماثيل وهدية الشفاعة .

وعن جعفر بن كيسان قال : سمعت الحسن يقول : إذا كان لك على رجل دين فما أكلت في بيته فهو سحت . وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : " لعنة اللّه على الراشي والمرتشي " .

قال الأخفش : السحت كل كسب لا يحل .

ثم قال { فَإِن جَآءُوكَ } يا محمد { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } . خير اللّه سحته بقوله في الحكم بينهم إن شاء حكم وإن شاء ترك .

واختلفوا في حكم هذه الآية هل هو ثابت وهل للحكّام اليوم من الخيار في الحكم من أهل الذّمة إذا اختلفوا إليهم ، مثل ما جعل اللّه لنبيه صلى الله عليه وسلم أم هو منسوخ ؟

فقال أكثر العلماء : هو حكم ثابت لم ينسخه شيء وحكام الإسلام بالخيار وذلك إن شاؤا بين أهل الكتاب وجميع أهل الذّمة ، فإن شاؤا أعرضوا ولم يحكموا بينهم وإن حكموا يحكموا بحكم أهل الإسلام . هو قوله :

{ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } [ التوبة : 33 ] هو جريان حكمنا عليهم . وهذا قول النخعي والشعبي وعطاء وقتادة . وقال آخرون هو منسوخ نسخه قوله تعالى { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ } وإليه ذهب الحسن ومجاهد وعكرمة والسدّي . وروى ذلك ابن عباس قال : لم ينسخ من المائدة إلاّ هاتان الآيتان وقوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ } [ المائدة : 2 ] نسختها

{ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] وقوله { فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } نسختها { أَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ } [ المائدة : 49 ] .

فأما إقامة الحدود عليهم فأهل العراق يرون إقامة الحدود عليهم إلاّ إنهم لا يرون الرجم وقالوا : لأنهم غير محصنين وتأولوا رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين أنه رجمهما بكتابهم التوراة لما اتفقوا على رضاهم بحكم التوراة ثم أنكروا الرجم ، فكان في التوراة فأخفوا وأظهر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من ذلك ما كتموه . وأهل الحجاز لا يرون إقامة الحدود عليهم ويظهرون إلى أنهم صولحوا على شركهم . وهو أعظم من الحدود التي يأتون وتأولوا رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين أن ذلك قبل أن يؤخذ عنهم الجزية إلاّ أن على الإمام أن يمنعهم من المظالم والفساد فأما إذا كان أحد الطرفين مسلماً مثل أن يزني رجل من أهل الذّمة بمسلمة أو سرق من مسلم أقيم عليه الحد وحكم عليه بحكم الإسلام { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } أي بالعدل { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } العاملين .