جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{هُنَالِكَ ٱلۡوَلَٰيَةُ لِلَّهِ ٱلۡحَقِّۚ هُوَ خَيۡرٞ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ عُقۡبٗا} (44)

وقوله : هُنالكَ الوَلايَةُ لِلّهِ الحَقّ يقول عزّ ذكره : ثم وذلك حين حلّ عذاب الله بصاحب الجنتين في القيامة .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : الولاية ، فقرأ بعض أهل المدينة والبصرة والكوفة هُنالكَ الوَلايَةُ بفتح الواو من الولاية ، يعنون بذلك هنالك المُوالاة لله ، كقول الله : اللّهُ وَلِيّ الّذِينَ آمَنُوا وكقوله : ذلكَ بأنّ اللّهَ مَوْلَى الّذِينَ آمَنُوا يذهبون بها إلى الوَلاية في الدين . وقرأ ذلك عامّة قرّاء الكوفة : «هُنالِكَ الوِلايَةُ » بكسر الواو : من المُلك والسلطان ، من قول القائل : وَلِيتُ عمل كذا ، أو بلدة كذا أليه ولاية .

وأولى القراءتين في ذلك بالصواب ، قراءة من قرأ بكسر الواو ، وذلك أن الله عقب ذلك خبره عن مُلكه وسلطانه ، وأن من أحلّ به نقمته يوم القيامة فلا ناصر له يومئذٍ ، فإتباع ذلك الخبر عن انفراده بالمملكة والسلطان أولى من الخبر عن الموالاة التي لم يجر لها ذكر ولا معنى ، لقول من قال : لا يسمّى سلطان الله ولاية ، وإنما يسمى ذلك سلطان البشر ، لأن الولاية معناها أنه يلي أمر خلقه منفردا به دون جميع خلقه ، لا أنه يكون أميرا عليهم .

واختلفوا أيضا في قراءة قوله الحَقّ فقرأ ذلك عامّة قرّاء المدينة والعراق خفضا ، على توجيهه إلى أنه من نعت الله ، وإلى أن معنى الكلام : هنالك الولاية لله الحقّ ألوهيته ، لا الباطل بطول ألوهيته التي يدعونها المشركون بالله آلهة . وقرأ ذلك بعض أهل البصرة وبعض متأخري الكوفيين : «لِلّهِ الحَقّ » برفع الحقّ توجيها منهما إلى أنه من نعت الولاية ، ومعناه : هنالك الولاية الحقّ ، لا الباطل لله وحده لا شريك له .

وأولى القراءتين عندي في ذلك بالصواب ، قراءة من قرأه خفضا على أنه من نعت الله ، وأن معناه ما وصفت على قراءة من قرأه كذلك .

وقوله : هُوَ خَيْرٌ ثَوَابا يقول عزّ ذكره : خير للمنيبين في العاجل والاَجل ثوابا وخَيْرٌ عُقْبا يقول : وخيرهم عاقبة في الاَجل إذا صار إليه المطيع له ، العامل بما أمره الله ، والمنتهى عما نهاه الله عنه . والعقب هو العاقبة ، يقال : عاقبة أمر كذا وعُقْباه وعُقُبه ، وذلك آخره وما يصير إليه منتهاه .

وقد اختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الكوفة عُقْبا بضم العين وتسكين القاف .

و القول في ذلك عندنا . أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{هُنَالِكَ ٱلۡوَلَٰيَةُ لِلَّهِ ٱلۡحَقِّۚ هُوَ خَيۡرٞ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ عُقۡبٗا} (44)

تذييل للجمل قبلها لما في هذه الجملة من العموم الحاصل من قصر الولاية على الله تعالى المقتضي تحقيق جملة { ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً } [ الكهف : 42 ] ، وجملة { ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله } [ الكهف : 43 ] ، وجملة { وما كان منتصراً } [ الكهف : 43 ] ، لأن الولاية من شأنها أن تبعث على نصر المولى وأن تطمِع المولى في أن وليه ينصره . ولذلك لما رأى الكافر ما دهاه من جراء كفره التجأ إلى أن يقول : { يا ليتني لم أشرك بربي أحداً } [ الكهف : 42 ] ، إذ علم أن الآلهة الأخرى لم تغن وَلايتُهم عنه شيئاً ، كما قال أبو سفيان يوم أسلم لقد علمت أن لو كان معه إله آخر لقد أغنَى عني شيئاً . فاسم الإشارة مبتدأ والولاية لله } جملة خبر عن اسم الإشارة .

واسم إشارة المكان البعيد مستعار للإشارة إلى الحال العجيبة بتشبيه الحالة بالمكان لإحاطتها بصاحبها ، وتشبيه غرابتها بالبعد لندرة حصولها . والمعنى : أن في مثل تلك الحالة تقصر الولاية على الله . فالولاية : جنس معرف بلام الجنس يفيد أن هذا الجنس مختص باللام على نحو ما قرر في قوله تعالى : { الحمد لله } [ الفاتحة : 2 ] .

والوَلاية بفتح الواو مصدر وَلِي ، إذا ثبت له الوَلاء . وتقدمت عند قوله تعالى : { ما لكم من ولايتهم من شيء { حتى يهاجروا } في سورة الأنفال ( 72 ) . وقرأه حمزة والكسائي وخلف { الوِلاية } بكسر الواو وهي اسم للمصدر أو اسم بمعنى السلطان والمُلك .

و { الحق } قرأه الجمهور بالجر ، على أنه وصف لله تعالى ، كما وصف بذلك في قوله تعالى : { وردوا إلى الله مولاهم الحق } في سورة يونس ( 30 ) . وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف { الحقُّ } بالرفع صفة للولاية ، ف { الحق } بمعنى الصِدق لأن ولاية غيره كذب وباطل .

قال حجة الإسلام : « والواجب بذاته هو الحق مطلقاً ، إذ هو الذي يستبين بالعقل أنه موجود حقاً ، فهو من حيث ذاته يسمى موجوداً ومن حيث إضافته إلى العقل الذي أدركه على ما هو عليه يسمى حقاً » ا هـ .

وبهذا يظهر وجه وصفه هنا بالحق دون وصف آخر ، لأنه قد ظهر في مثل تلك الحال أن غير الله لا حقيقة له أو لا دوام له .

{ وخَير } يجوز أن يكون بمعنى أخْيَر ، فيكون التفضيل في الخيرية على ثواب غيره وعُقُب غيره ، فإن ما يأتي من ثواب من غيره ومن عقبى إما زائف مفضضٍ إلى ضر وإما زائل ، وثواب الله خالصٌ دائم وكذلك عقباه .

ويجوز أن يكون { خير } اسماً ضَد الشر ، أي هو الذي ثوابه وعُقُبه خير وما سواه فهو شر .

والتمييز تمييز نسبة الخير إلى الله . و « العقب » بضمتين وبسكون القاف بمعنى العاقبة ، أي آخرة الأمر . وهي ما يرجوه المرء من سعيه وعمله .

وقرأ الجمهور { عُقُباً } بضمتين وبالتنوين . وقرأه عاصم وحمزة وخلف بإسكان القاف وبالتنوين .

فكان ما ناله ذلك المشرك الجبار من عطاء إنما ناله بمساع وأسباب ظاهرية ولم ينله بعناية من الله تعالى وكرامة فلم يكن خيراً وكانت عاقبته شراً عليه .