{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الامُورُ }
يعني بذلك جل ثناؤه : هل ينظر المكذّبون بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة .
ثم اختلفت القراء في قراءة قوله : وَالمَلائِكَةُ . فقرأ بعضهم : هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ وَالمَلائِكَةُ بالرفع عطفا بالملائكة على اسم الله تبارك وتعالى ، على معنى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام . ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن يوسف ، عن أبي عبيد القاسم بن سلاّم ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر الرازي ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية قال : في قراءة أبيّ بن كعب : «هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ يَأتِيهُمُ اللّهُ وَالمَلائِكَةُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ » قال : تأتي الملائكة في ظلل من الغمام ، ويأتي الله عز وجل فيما شاء .
وقد حدثت هذا الحديث عن عمار بن الحسن ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ يَأتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ وَالملائِكَةُ الآية . وقال أبو جعفر الرازي : وهي في بعض القراءة : «هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام » ، كقوله : وَيَوْمَ تَشَقّقُ السّماءُ بالغَمامِ وَنُزّلَ المَلائِكَةُ تَنْزِيلاً .
وقرأ ذلك آخرون : «هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ يَأتِيهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ والملائِكَةِ » بالخفض عطفا بالملائكة على الظلل بمعنى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وفي الملائكة .
وكذلك اختلفت القراء في قراءة «ظلل » ، فقرأها بعضهم : «في ظلل » ، وبعضهم : «في ظلال » . فمن قرأها «في ظلل » ، فإنه وجهها إلى أنها جمع ظلة ، والظلة تجمع ظلل وظلال ، كما تجمع الخلة خلل وخلال ، والجلة جلل وجلال . وأما الذي قرأها في ظلال فإنه جعلها جمع ظلة ، كما ذكرنا من جمعهم الخلة خلال .
وقد يحتمل أن يكون قارئه كذلك وجهه إلى أن ذلك جمع ظل ، لأن الظلة والظل قد يجمعان جميعا ظلالاً .
والصواب من القراءة في ذلك عندي هَلْ يَنْظُرُون إلاّ أنْ يَأتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ لخبر روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إنّ مِنَ الغَمامَ طاقاتٍ يَأتي اللّه فِيها مَحْفوفا » فدل بقوله طاقات على أنها ظلل لا ظلال ، لأن واحد الظلل ظلة ، وهي الطاق . واتباعا لخط المصحف . وكذلك الواجب في كل ما اتفقت معانيه واختلفت في قراءته القراء ولم يكن على إحدى القراءتين دلالة تنفصل بها من الأخرى غير اختلاف خط المصحف ، فالذي ينبغي أن تؤثر قراءته منها ما وافق رسم المصحف .
وأما الذي هو أولى القراءتين في : وَالمَلائِكَةُ فالصواب بالرفع عطفا بها على اسم الله تبارك وتعالى على معنى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ، وإلا أن تأتيهم الملائكة على ما رُوي عن أبيّ بن كعب ، لأن الله جل ثناؤه قد أخبر في غير موضع من كتابه أن الملائكة تأتيهم ، فقال جل ثناؤه : وَجاءَ رَبّكَ وَالمَلَكُ صَفّا صَفّا وقال : هَلْ يَنْظُرونَ إلاّ أنْ تأتِيهُمُ المَلائِكَةُ أوْ يَأتي رَبّكَ أوْ يَأتي بَعْض آياتِ رَبّكَ . فإن أشكل على امرىء قول الله جل ثناؤه : وَالمَلَكُ صَفّا صَفّا فظنّ أنه مخالف معناه معنى قوله هَلْ يَنْظُرونَ إلاّ أنْ يَأتِيهُمْ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ وَالمَلائِكَةُ إذ كان قوله «والملائكة » في هذه الآية بلفظ جمع ، وفي الأخرى بلفظ الواحد . فإن ذلك خطأ من الظانّ ، وذلك أن الملَك في قوله : وَجاءَ رَبّكَ وَالمَلَكُ بمعنى الجميع ، ومعنى الملائكة ، والعرب تذكر الواحد بمعنى الجميع ، فتقول : فلان كثير الدرهم والدينار ، يراد به الدراهم والدنانير ، وهلك البعير والشاة بمعنى جماعة الإبل والشاء ، فكذلك قوله : وَالمَلَكُ بمعنى الملائكة .
ثم اختلف أهل التأويل في قوله : ظُلَلٍ مِنّ الغَمامِ وهل هو من صلة فعل الله جل ثناؤه ، أو من صلة فعل الملائكة ، ومن الذي يأتي فيها ؟ فقال بعضهم : هو من صلة فعل الله ، ومعناه : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ، وأن تأتيهم الملائكة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجل : هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ يَأتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ قال : هو غير السحاب لم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم حين تاهوا ، وهو الذي يأتي الله فيه يوم القيامة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ يَأَتِيَهُمُ اللّهُ في ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ قال : يأتيهم الله وتأَتيهم الملائكة عند الموت .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عكرمة في قوله : هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ يأتِيَهُمُ اللّهُ في ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ قال : طاقات من الغمام والملائكة حوله . قال ابن جريج وقال غيره : والملائكة بالموت .
وقول عكرمة هذا وإن كان موافقا قول من قال : إن قوله في ظلل من الغمام من صلة فعل الرب تبارك وتعالى الذي قد تقدم ذكرناه ، فإنه له مخالف في صفة الملائكة وذلك أن الواجب من القراءة على تأويل قول عكرمة هذا في الملائكة الخفض ، لأنه تأول الآية : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وفي الملائكة ، لأنه زعم أن الله تعالى يأتي في ظلل من الغمام والملائكة حوله . هذا إن كان وجه قوله والملائكة حوله ، إلى أنهم حول الغمام ، وجعل الهاء في حوله من ذكر الغمام وإن كان وجه قوله : والملائكة حوله إلى أنهم حول الرب تبارك وتعالى ، وجعل الهاء في حوله من ذكر الرب عز جل ، فقوله نظير قول الأخرين الذين قد ذكرنا قولهم غير مخالفهم في ذلك .
وقال آخرون : بل قوله فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمام من صلة فعل الملائكة ، وإنما تأتي الملائكة فيها ، وأما الربّ تعالى ذكره فإنه يأتي فيما شاء . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ يأتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ وَالملائِكَةُ . . . الآية ، قال : ذلك يوم القيامة ، تأتيهم الملائكة في ظلل من الغمام . قال : الملائكة يجيئون في ظلل من الغمام ، والربّ تعالى يجيء فيما شاء .
وأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من وجه قوله : في ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ إلى أنه من صلة فعل الربّ عز وجل ، وأن معناه : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ، وتأتيهم الملائكة . كما :
حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا إبراهيم بن المختار ، عن ابن جريج ، عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «إنّ مِن الغَمامِ طاقاتٍ يأتي اللّهُ فِيها مَحْفُوفا »وذلك قوله : هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ يأتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ والمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأمْرُ .
وأما معنى قوله : هَلْ يَنْظُرُونَ فإنه ما ينظرون ، وقد بينا ذلك بعلله فيما مضى من كتابنا هذا قبل .
ثم اختلف في صفة إتيان الرب تبارك وتعالى الذي ذكره في قوله : هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ يأتِيَهُمُ اللّهُ فقال بعضهم : لا صفة لذلك غير الذي وصف به نفسه عزّ وجل من المجيء والإتيان والنزول ، وغير جائز تكلف القول في ذلك لأحد إلا بخبر من الله جل جلاله ، أو من رسول مرسل . فأما القول في صفات الله وأسمائه ، فغير جائز لأحد من جهة الاستخراج إلا بما ذكرنا .
وقال آخرون : إتيانه عز وجل نظير ما يعرف من مجيء الجائي من موضع إلى موضع وانتقاله من مكان إلى مكان .
وقال آخرون : معنى قوله : هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ يأتِيَهُمُ اللّهُ يعني به : هل ينظرون إلا أن يأتيهم أمر الله ، كما يقال : قد خشينا أن يأتينا بنو أمية ، يراد به حكمهم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : هل ينظرون إلا أن يأتيهم ثوابه وحسابه وعذابه ، كما قال عز وجل : بَلْ مَكْرُ اللّيْلِ وَالنّهارِ وكما يقال : قطع الوالي اللصّ أو ضربه ، وإنما قطعه أعوانه .
وقد بينا معنى الغمام فيما مضى من كتابنا هذا قبل فأغنى ذلك عن تكريره ، لأن معناه ههنا هو معناه هنالك .
فمعنى الكلام إذا : هل ينظر التاركون الدخول في السلم كافة والمتبعون خطوات الشيطان إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ، فيقضي في أمرهم ما هو قاضٍ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن إسماعيل بن رافع المديني ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن رجل من الأنصار ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «تُوقَفُونَ مَوْقِفا وَاحِدا يَوْمَ القِيامَةِ مِقْدَارَ سَبْعِينَ عاما لا يُنْظَرُ إلَيْكُمْ وَلا يُقْضى بَيْنَكُمْ ، قَدْ حُصِرَ عَلَيْكُمْ فَتَبْكُونَ حّتى يَنْقَطِعَ الدّمْعُ ، ثمّ تَدْمَعُونَ دَما ، وتَبْكُونَ حتّى يَبْلُغَ ذَلِكَ مِنْكُمُ الأذْقانَ ، أوْ يُلْجِمَكُمْ فَتَصيحُونَ ، ثمّ تَقُولُونَ : مَنْ يَشْفَعُ لَنا إلى ربّنا فَيَقْضِي بَيْنَنا ؟ فَيَقُولُونَ مَنْ أحَقّ بِذَلِكَ مِنْ أبِيكُمْ آدَمَ ؟ جَبَلَ اللّهُ تُرْبَتَهُ ، وَخَلَقهُ بِيَدِهِ ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ، وكَلّمَهُ قِبَلاً ، فَيُؤْتَى آدَمُ ، فَيُطْلَبُ ذَلِكَ إلَيْهِ ، فَيَأبي ، ثمّ يَسْتَقْرئُونَ الأنْبِياءَ نَبِيّا نبيّا ، كُلّما جاءُوا نَبِيّا أبى » ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «حتّى يأتُوني ، فإذَا جاءُونِي خَرَجْتُ حتّى آتي الفَحْصَ » ، قال أبو هريرة : يا رسول الله : وما الفَحصُ ؟ قال : «قُدّامُ الَعرْشِ ، فأخِرّ ساجِدا ، فَلا أزَالُ ساجِدا حتّى يَبْعَثَ اللّهُ إليّ مَلَكا ، فَيأخُذَ بِعَضُديّ فَيَرْفَعَنِي ، ثُمّ يَقُولَ اللّهُ لي : يا مُحَمّدُ فأَقُولُ : نَعَمْ وَهُوَ أعْلَمُ ، فَيَقُولُ : ما شأنُكَ ؟ فأقُولُ : يا رَبّ وَعَدْتِنِي الشّفاعَة ، فَشَفّعْنِي فِي خَلْقِكَ فاقْض بَيْنَهُمْ فَيَقُولُ : قَدْ شَفّعْتُكَ ، أنا آتِيكُمْ فأقْضي بَيْنَكُمْ » . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فأنْصَرِفُ حتّى أقِفَ مَعَ النّاسِ ، فَبَيْنا نَحْنُ وُقُوفٌ سَمعْنا حِسّا مِنَ السّماءِ شَديدا ، فَهالنَا ، فَنَزَلَ أهْلُ السّماء الدّنيْا بِمثْلَيْ مَنْ فِي الأرْضِ مِنَ الجِنّ وَالإنْسِ حتّى إذَا دَنَوْا مِنَ الأرْضِ أشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِهِمْ ، وأخَذُوا مَصَافّهُمْ ، فَقُلْنا لَهُمْ : أفِيكُمْ رَبّنا ؟ قالُوا : لا وَهُوَ آتٍ ثُمّ نَزَلَ أهْلُ السّماءِ الثّانِيَةِ بِمِثْلَيْ مَنْ نَزَلَ مِنَ المَلائِكَةِ ، وَبِمْثلَيْ مَنْ فِيها مِنَ الجِنّ وَالإنْسِ ، حتّى إذَا دَنَوا مِنَ الأرْضِ أشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِهِمْ ، وأخَذُوا مَصَافّهُمْ ، فَقُلْنا لَهُمْ : أفِيكُمْ رَبّنا ؟ قالُوا : لا وَهُوَ آتٍ . ثُمّ نَزَلَ أهْلُ السّماءِ الثّالِثَةِ بِمِثْلَيْ مَنْ نَزَلَ مِنَ الملائَكةِ ، وبِمِثْلَيْ مَنْ فِي الأرْضِ مِنَ الجِنّ وَالإنْسِ حتى إذَا دَنَوا مِنَ الأرْضِ أشْرَقَتِ الأرضُ بِنُورِهِمْ ، وأخَذُوا مَصَافّهُمْ ، فَقُلْنا لَهُمْ : أفِيكُمْ رَبّنا ؟ قالُوا : لا وَهُوَ آتٍ ، ثُمّ نَزَلَ أهْلُ السمّوَات على عَدَدِ ذَلِكَ مِنَ التّضْعِيفِ حتّى نَزَلَ الجَبّارُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ وَالمَلائِكَةِ وَلهُمْ زَجَلٌ مِنْ تَسْبِيحِهِمْ يَقُولُونَ : سُبْحانَ ذي المُلْكِ وَالمَلَكُوتِ ، سُبْحانَ رَبّ العَرْشِ ذِي الجَبرُوتِ ، سُبْحانَ الحَيّ الّذِي لا يَمُوتُ ، سُبْحانَ الّذِي يُمِيتُ الخَلائِقَ وَلا يَمُوتُ ، سُبّوحٌ قَدّوسٌ ، ربّ المَلائِكَةِ والرّوحِ ، قُدّوسٌ قُدّوسٌ ، سُبْحَانَ رَبّنا الأعْلَى ، سُبْحانَ ذِي السّلْطانِ وَالعَظَمَة ، سُبْحانَهُ أَبدا أبَدا ، فَيَنْزلُ تَبارَكَ وتَعالى يَحْمِلُ عَرْشَهُ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ، وَهُمْ اليَوْمَ أرْبَعَةٌ ، أقْدَامُهُمْ على تُخُومِ الأرْض السّفْلَى وَالسّمَوَاتُ إلى حُجَزهِمْ ، وَالَعرْشُ على مَناكِبهِمْ ، فَوَضَعَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ عَرْشَهُ حَيْثُ شاءَ مِنَ الأرْضِ . ثُمّ يُنادي مُنادٍ نِدَاءً يُسْمِعُ الخَلائِقَ ، فَيَقُولُ : يا مَعْشَرَ الجِنّ وَالإنْسِ إنّي قَدْ أنْصَتّ مُنْذُ يَوْمَ خَلَقْتُكُمْ إلى يَوْمِكُمْ هَذَا ، أسمَعُ كَلامَكُمْ ، وأُبْصِر أعْمالَكُمْ ، فأنْصِتُوا إليّ ، فإنَما هِيَ صُحُفَكُمْ وأعْمالُكُمْ تُقْرأُ عَلَيْكُمْ ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرا فَلَيَحْمَد اللّهَ ، وَمَنْ وَجَدَ غيرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنّ إلاّ نَفْسَهُ ، فَيَقْضِي اللّهُ عَزّ وَجَلّ بينَ خَلْقِه الجِنّ والإنْسِ وَالَبهائِم ، فإنّهُ لَيُقْتَصّ يَوْمَئِذٍ للْجَمّاء مِنْ ذَاتِ القَرْنِ » .
وهذا الخبر يدل على خطأ قول قتادة في تأويله قوله : وَالمَلائِكَةُ أنه يعني به : الملائكة تأتيهم عند الموت ، لأن صلى الله عليه وسلم ذكر أنهم يأتونهم بعد قيام الساعة في موقف الحساب حين تشقق السماء .
وبمثل ذلك رُوي الخبر عن جماعة من الصحابة والتابعين كرهنا إطالة الكتاب بذكرهم وذكر ما قالوا في ذلك . ويوضح أيضا صحة ما اخترنا في قراءة قوله : وَالمَلائِكَةُ بالرفع على معنى : وتأتيهم الملائكة ، ويبين عن خطأ قراءة من قرأ ذلك بالخفض لأنه أخبر صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تأتي أهل القيامة في موقفهم حين تفطر السماء قبل أن يأتيهم ربهم في ظلل من الغمام ، إلا أن يكون قارىء ذلك ذهب إلى أنه عز وجل عنى بقوله ذلك : إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ، وفي الملائكة الذين يأتون أهل الموقف حين يأتيهم الله في ظلل من الغمام فيكون ذلك وجها من التأويل وإن كان بعيدا من قول أهل العلم ودلالة الكتاب وآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة .
القول في تأويل قوله تعالى : وَقُضِيَ الأمْرُ وَإلى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ .
يعني جل ثناؤه بذلك : وفصل القضاء بالعدل بين الخلق ، على ما ذكرناه قبل عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : «مِنْ أخْذِ الحَقّ لِكُلّ مَظْلُومٍ مِنْ كُلّ ظالِمٍ ، حتّى القِصَاص للجمّاء من القرْناء مِنَ البهائِم » .
وأما قوله : وإلى الله تُرْجَعُ الأمُورُ فإنه يعني : وإلى الله يئول القضاء بين خلقه يوم القيامة والحكم بينهم في أمورهم التي جرت في الدنيا من ظلم بعضهم بعضا ، واعتداء المعتدي منهم حدود الله ، وخلاف أمره ، وإحسان المحسن منهم ، وطاعته إياه فيما أمره به ، فيفصل بين المتظالمين ، ويجازي أهل الإحسان بالإحسان ، وأهل الإساءة بما رأى ، ويتفضل على من لم يكن منهم كافرا فيعفو ولذلك قال جل ثناؤه : وَإلى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ وإن كانت أمور الدنيا كلها والاَخرة من عنده مبدؤها وإليه مصيرها ، إذ كان خلقه في الدنيا يتظالمون ، ويلي النظر بينهم أحيانا في الدنيا بعضُ خلقه ، فيحكم بينهم بعضُ عبيده ، فيجور بعض ، ويعدل بعض ، ويصيب واحد ، ويخطىء واحد ، ويمكّن من تنفيذ الحكم على بعض ، ويتعذّر ذلك على بعض لمنعة جانبه وغلبته بالقوّة .
فأعلم عباده تعالى ذكره أن مرجع جميع ذلك إليه في موقف القيامة ، فينصف كلاّ من كل ، ويجازي حق الجزاء كلاّ ، حيث لا ظلم ولا ممتنع من نفوذ حكمه عليه ، وحيث يستوي الضعيف والقويّ ، والفقير والغنيّ ، ويضمحل الظلم وينزل سلطان العدل .
وإنما أدخل جل وعز الألف واللام في الأمور لأنه جل ثناؤه عنى بها جميع الأمور ، ولم يعن بها بعضا دون بعض ، فكان ذلك بمعنى قول القائل : يعجبني العسل ، والبغل أقوى من الحمار ، فيدخل فيه الألف واللام ، لأنه لم يقصد به قصد بعض دون بعض ، إنما يراد به العموم والجمع .
إن كان الإضمار جارياً على مقتضى الظاهر فضمير { ينظرون } راجع إلى معادٍ مذكور قبلَه ، وهو إما { مَنْ يعجبك قولُه في الحياة الدنيا } [ البقرة : 204 ] ، وإما إلى { مَنْ يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله } [ البقرة : 207 ] ، أو إلى كليهما لأن الفريقين ينتظرون يوم الجزاء ، فأحد الفريقين ينتظره شكاً في الوعيد بالعذاب ، والفريق الآخر ينتظره انتظار الراجي للثواب . ونظيره قوله : { فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين } [ يونس : 102 ] فانتظارهم أيام الذين خَلَوْا انتظارُ توقع سوءٍ انتظار النبي معهم انتظار تصَديقِ وعيده .
وإن كان الإضمار جارياً على خلاف مقتضى الظاهر فهو راجع إلى المخاطَبين بقوله { ادخلوا في السِّلم } [ البقرة : 208 ] وما بعده ، أو إلى الذين زَلوا المستفاد من قوله : { فإن زللتم } [ البقرة : 209 ] ، وهو حينئذٍ التفات من الخطاب إلى الغيبة ، إما لمجرد تجديد نشاط السامع إن كان راجعاً إلى المخاطبين بقوله { يا أيها الذين آمنوا } [ البقرة : 208 ] ، وإما لزيادة نكتة إبعاد المخاطبين بقوله { فإن زللتم } عن عز الحضور ، قال القرطبي { هل ينتظرون } يعني التاركين الدخول في السلم ، وقال الفخر الضمير لليهود بناء على أنهم المراد من قوله : { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم } أي يا أيها الذين آمنوا بالله وبعض رسله وكتبه على أحد الوجوه المتقدمة وعلى أن السلم أريد به الإسلام ، ونكتة الالتفات على هذا القول هي هي .
فإن كان الضمير لمن يعجبك أوْ له ولمن يشري نفسه ، فالجملة استئناف بياني ، لأن هاتين الحالتين العجيبتين في الخير والشر تثيران سؤال من يسأل عن جزاء كلا الفريقين فيكون قوله : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله } جواباً لذلك ، وإن كان الضمير راجعاً إلى { الذين آمنوا } فجملة { هل ينظرون } استئناف للتحريض على الدخول في الإسلام خشية يوم الجزاء أو طمعاً في ثوابه وإن كان الضمير للذين زلوا من قوله : { فإن زللتم } [ البقرة : 209 ] فالجملة بدل اشتمال من مضمون جملة { إن الله عزيز حكيم } [ البقرة : 209 ] لأن معناه فإن زللتم فالله لا يفلتكم لأنه عزيز حكيم ، وعدم الإفلات يشتمل على إتيان أمر الله والملائكة ، وإن كان الضمير عائداً إلى اليهود فهو توبيخ لهم على مكابرتهم عن الاعتراف بحقية الإسلام . وعلى كل الاحتمالات التي لا تتنافى فقد جاء نظم قوله { هل ينظرون } بضمير الجمع نظماً جامعاً للمحامل كلها مما هو أثر من آثار إعجاز هذا الكلام المجيد الدال على علم الله تعالى بكل شيء .
وحرف ( هل ) مفيد الاستفهام ومفيد التحقيق ويظهر أنه موضوع للاستفهام عن أمر يراد تحقيقه ، فلذلك قال أئمة المعاني إن هل لطلب تحصيل نسبة حكمية تحصل في علم المستفهم وقال الزمخشري في « الكشاف » : إن أصل هل أنها مرادفة قد في الاستفهام خاصة ، يعني قد التي للتحقيق وإنما اكتسبت إفادة الاستفهام من تقدير همزة الاستفهام معها كما دل عليه ظهور الهمزة في قول زيد الخيل :
سائِلْ فوارسَ بَرْبُوع بِشِدَّتنا *** أَهَلْ رَأَوْنَا بسَفَححِ القاع ذي الأَكَم
وقال في « المفصل » : وعن سيبويه أن هل بمعنى قد إلاّ أنهم تركوا الألف قبلها ؛ لأنها لا تقع إلاّ في الاستفهام اهـ . يعني أن همزة الاستفهام التزم حذفها للاستغناء عنها بملازمة هل للوقوع في الاستفهام ، إذ لم يقل أحد أن هل ترد بمعنى قد مجردة عن الاستفهام فإن مواردها في كلام العرب وبالقرآن يبطل ذلك ونسب ذلك إلى الكسائي والفراء والمبرد في قوله تعالى : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر } [ الإنسان : 1 ] ولعلهم أرادوا تفسير المعنى لا تفسير الإعراب ولا نعرف في كلام العرب اقتران هل بحرف الاستفهام إلاّ في هذا البيت ولا ينهض احتجاجهم به لإمكان تخريجه على أنه جمع بين حرفي استفهام على وجه التأكيد كما يؤكد الحرف في بعض الكلام كقول مسلم بن معبد الوالبيِّ :
فلاَ والله لاَ يُلْفَى لما بي *** ولا لِلِمَا بهم أبداً دَواء
فجمع بين لامي جر ، وأيّاً ما كان فإن هل تمحضت لإفادة الاستفهام في جميع مواقعها ، وسيأتي هذا في تفسير قوله تعالى : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر } في سورة الإنسان .
والاستفهام إنكاري لا محالة بدليل الاستثناء ، فالكلام خبر في صورة الاستفهام . والنظر : الانتظار والترقب يقال نظره بمعنى ترقبه ، لأن الذي يترقب أحداً يوجه نظره إلى صوبه ليرى شبحه عندما يبدو ، وليس المراد هنا نفي النظر البصري أي لا ينظرون بأبصارهم في الآخرة إلاّ إتيان أمر الله والملائكة ، لأن الواقع أن الأبصار تنظر غير ذلك ، إلاّ أن يراد أن رؤيتهم غير ذلك كالعدم لشدة هول إتيان أمر الله ، فيكون قصراً ادعائياً ، أو تسلب أبصارهم من النظر لغير ذلك .
وهذا المركب ليس مستعملاً فيما وضع له من الإنكار بل مستعملاً إما في التهديد والوعيد وهو الظاهر الجاري على غالب الوجوه المتقدمة في الضمير ، وإما في الوعد إن كان الضمير لمن يشري نفسه ، وإما في القدر المشترك وهو العدة بظهور الجزاء إن كان الضمير راجعاً للفريقين ، وإما في التهكم إن كان المقصود من الضمير المنافقين اليهود أو المشركين ، فأما اليهود فإنهم كانوا يقولون لموسى { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } [ البقرة : 55 ] . ويجوز على هذا أن يكون خبراً عن اليهود : أي إنهم لا يؤمنون ويدخلون في السلم حتى يروا الله تعالى في ظلل من الغمام على نحو قوله تعالى : { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك } [ البقرة : 145 ] .
وأما المشركون فإنهم قد حكى الله عنهم : { وقالوا نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً إلى قوله أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً } [ الإسراء : 90 ، 92 ] ، وسيجيء القول مشبعاً في موقع هذا التركيب ومعناه عند الكلام على قوله تعالى : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام في سورة البقرة .
و ( الظلل ) بضم ففتح اسمُ جمَع ظلة ، والظلة تطلق على معان والذي تلخص لي من حقيقتها في اللغة أنها اسم لشبه صفَّة مرتفعة في الهواء تتصل بجدار أو ترتكز على أعمدة يُجْلَس تحتها لتوقي شعاع الشمس ، فهي مشتقة من اسم الظّل جعلت على وزن فُعْلَة بمعنى مفعولة أو مفعول بها مثل القبضة بضم القاف لما يقبض باليد .
والغرفة بضم الغين لما يغترف باليد كقوله تعالى : { إلا من اغترف غرفة بيده } [ البقرة : 249 ] في قراءة بعض العشرة بضم الغين .
وهي هنا مستعارة أو مشبه بها تشبيهاً بليغاً : السحابات العظيمة التي تشبه كل سحابة منها ظلة القصر .
و { من الغمام } بيان للمشبه وهو قرينة الاستعارة ونظيره قوله تعالى : { لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل } [ الزمر : 16 ] .
والإتيان حضور الذات في موضع من موضع آخر سبق حصولها فيه وأسند الإتيان إلى الله تعالى في هذه الآية على وجه الإثبات فاقتضى ظاهره اتصاف الله تعالى به ، ولما كان الإتيان يستلزم التنقل أو التمدد ليكون حالاً في مكان بعد أن لم يكن به حتى يصح الإتيان وكان ذلك يستلزم التنقل الجسم والله منزه عنه ، تعين صرف اللفظ عن ظاهره بالدليل العقلي ، فإن كان الكلام خبراً أو تهكماً فلا حاجة للتأويل ، لأن اعتقادهم ذلك مدفوع بالأدلة وإن كان الكلام وعيداً من الله لزم التأويل ، لأن الله تعالى موجود في نفس الأمر لكنه لا يتصف بما هو من صفات الحوادث كالتنقل والتمدد لما علمت ، فلا بد من تأويل هذا عندنا على أصل الأشعري في تأويل المتشابه ، وهذا التأويل إما في معنى الإتيان أو في إسناده إلى الله أو بتقدير محذوف من مضاف أو مفعول ، وإلى هذه الاحتمالات ترجع الوجوه التي ذكرها المفسرون :
الوجه الأول ذهب سلف الأمة قبل حدوث تشكيكات الملاحدة إلى إقرار الصفات المتشابهة دون تأويل فالإتيان ثابت لله تعالى ، لكن بلا كيف فهو من المتشابه كالاستواء والنزول والرؤية أي هو إتيان لا كإتيان الحوادث . فأما على طريقة الخلف من أئمة الأشعرية لدفع مطاعن الملاحدة فتجيء وجوهٌ منها :
الوجه الثاني : أقول يجوز تأويل إتيان الله بأنه مجاز في التجلي والاعتناء إذا كان الضمير راجعاً لمن يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ، أو بأنه مجاز في تعلق القدرة التنجيزي بإظهار الجزاء إن كان الضمير راجعاً للفريقين ، أو هو مجاز في الاستئصال يقال أتاهم الملك إذا عاقبهم قاله القرطبي ، قلت وذلك في كل إتيان مضاف إلى منتقم أو عدو أو فاتح كما تقول : أتاهم السبع بمعنى أهلكهم وأتاهم الوباء ولذلك يقولون أتى عليه بمعنى أهلكه واستأصلَه ، فلما شاع ذلك شاع إطلاق الإتيان على لازمه وهو الإهلاك والاستئصال قال تعالى : { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } [ الحشر : 2 ] وقال { فأتى الله بنيانهم من القواعد } [ النحل : 26 ] وليس قوله : { في ظلل من الغمام } بمناف لهذا المعنى ، لأن ظهور أمر الله وحدوث تعلق قدرته يكون محفوفاً بذلك لتشعر به الملائكة وسيأتي بيان { في ظلل من الغمام } قريباً .
الوجه الثالث : إسناد الإتيان إلى الله تعالى إسناد مجازي وإنما يأتيهم عذاب الله يوم القيامة أو في الدنيا وكونه { في ظلل من الغمام } زيادة تنويه بذلك المظهر ووقعه لدى الناظرين .
الوجه الرابع : يأتيهم كلام الله الدالُّ على الأمر ويكون ذلك الكلام مسموعاً من قِبَل ظلل من الغمام تحفه الملائكة .
الوجه الخامس : أن هنالك مضافاً مقدراً أي يأتيهم أمر الله أي قضاؤه بين الخلق أو يأتيهم بأس الله بدليل نظائره في القرآننِ أو يأتي أمر ربك وقوله : { فجاءها بأسنا بياتاً } [ الأعراف : 4 ] ولا يخفى أن الإتيان في هذا يتعين أن يكون مجازاً في ظهور الأمر .
الوجه السادس : حذف مضاف تقديره ، آيات الله أو بيناته أي دلائل قدرته أو دلائل صدق رُسُله ويبعِّده قوله : { في ظلل من الغمام } إلاّ أن يرجع إلى الوجه الخامس أو إلى الوجه الثالث .
الوجه السابع : أن هنالك معمولاً محذوفاً دل عليه قوله : { فاعلموا أن الله عزيز حكيم } [ البقرة : 209 ] والتقدير أن يأتيهم الله بالعذاب أو ببأسه . والأحسن تقدير أمر عام يشمل الخير والشر لتكون الجملة وعْداً ووعيداً .
وقد ذكرتُ في تفسير قوله تعالى : { منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأُخر متشابهات } في [ سورة آل عمران : 6 ] ما يتحصل منه أن ما يجري على اسمه تعالى من الصفات والأحكام وما يسند إليه من الأفعال في الكتاب والسنة أربعة أقسام : قسم اتصف الله به على الحقيقة كالوجود والحياة لكن بما يخالف المتعارف فينا ، وقسم اتصف الله بلازم مدلوله وشاع ذلك حتى صار المتبادر من المعنى المناسبُ دون الملزومات مثل الرحمة والغضب والرضا والمحبة ، وقسم هو متشابه وتأويله ظاهر ، وقسم متشابه شديد التشابه .
وقوله تعالى : { في ظلل من الغمام } أشد إشكالاً من إسناد الإتيان إلى الله تعالى لاقتضائه الظرفية ، وهي مستحيلة على الله تعالى ، وتأويله إما بأن ( في ) بمعنى الباء أي { يأتيهم بظلل من الغمام } وهي ظلل تحمل العذاب من الصواعق أو الريح العاصفة أو نحو ذلك إن كان العذاب دنيوياً ، أو في ظلل من الغمام تشتمل على ما يدل على أمر الله تعالى أو عذابه { وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً يقولوا سحاب مركوم } [ الطور : 44 ] وكان رسول الله إذا رأى السحاب رئي في وجهه الخوف من أن يكون فيه عذاب ، أو على كلامه تعالى ، أو الحاجبة لأنوار يجعلها الله علامة للناس يوم القيامة على ابتداء فصل الحساب يدرك دلالتها أهل الموقف وبالانكشاف الوجداني ، وفي « تفسير القرطبي والفخر » قيل : إن في الآية تقديماً وتأخيراً ، وأصل الكلام أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام ، فالغمام ظرف لإتيان الملائكة ، وروي أن ابن مسعود قرأها كذلك ، وهذه الوجوه كلها مبنية على أن هذا إخبار بأمر مستقبل ، فأما على جعل ضمير { ينظرون } مقصوداً به المنافقون من المشركين أو اليهود بأن يكون الكلام تهكماً أي ماذا ينتظرون في التباطؤ عن الدخول في الإسلام ، ما ينتظرون إلاّ أن يأتيهم الله في أحوال اعتقدوها فيكلمهم ليدخلوا في الدين ، فإنهم قالوا لموسى : { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } [ البقرة : 55 ] واعتقدوا أن الله في الغمام ، أو يكون المراد تعريضاً بالمشركين ، وبعض التأويلات تقدمت مع تأويل الإتيان .
وقرأه الجمهور « والملائكة » بالرفع عطفاً على اسم الجلالة ، وإسنادُ الإتيان إلى الملائكة لأنهم الذين يأتون بأمر الله أو عذابه وهم الموكل إليهم تنفيذ قضائه ، فإسناد الإتيان إليهم حقيقة فإن كان الإتيان المسند إلى الله تعالى مستعملاً في معنى مجازي فهو مستعمل بالنسبة للملائكة في معناه الحقيقي فهو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، وإن كان إسناد الإتيان إلى الله تعالى مجازاً في الإسناد فإسناده إلى الملائكة بطريق العطف حقيقة في الإسناد ولا مانع من ذلك ؛ لأن المجاز الإسنادي عبارة عن قصد المتكلم مع القرينة ، قال حُمَيْد بن ثَوْر يمدح عبد الملك :
أتاك بي الله الذي نَوَّر الهدى *** ونورٌ وإسلامٌ عليكَ دليل
فأسند الإتيان به إلى الله وهو إسنادٌ حقيقي ثم أسنده بالعطف للنورِ والإسلام ، وإسناد الإتيان به إليهما مجازي لأنهما سبب الإتيان به ألا ترى أنه قال « عليك دليل » .
وقرأ أبو جعفر « والملائكة » بجر ( الملائكة ) عطف على ( ظلل ) .
وقوله : { وقُضي الأمر } إما عطف على جملة { هل ينظرون } إن كانت خبراً عن المخبر عنهم والفعل الماضي هنا مراد منه المستقبل ، ولكنه أتى فيه بالماضي تنبيهاً على تحقيق وقوعه أو قرب وقوعه ، والمعنى ما ينتظرون إلاّ أن يأتيهم الله وسوف يقضى الأمر ، وإما عطف على جملة { ينظرون } إن كانت جملة { هل ينظرون } وعيداً أو وعداً والفعل كذلك للاستقبال ، والمعنى ما يترقبون إلاّ مجيء أمر الله وقضاءَ الأمر .
وإما جملة حالية والماضي على أصله وحذفت قد ، سواء كانت جملة { هل ينظرون } خبراً أو وعداً ووعيداً أي وحينئذٍ قد قضي الأمر ، وإما تنبيه على أنهم إذا كانوا ينتظرون لتصديق محمد أن يأتيهم الله والملائكة فإن ذلك إن وقع يكون قد قضي الأمر أي حق عليهم الهلاك كقوله : { وقالوا لولا أنزل عليه ملَك ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون } [ الأنعام : 8 ] .
والتعريف في ( الأمر ) إما للجنس مراداً منه الاستغراق أي قُضِيت الأمور كلها ، وإما للعهد أي أمر هؤلاء أي عقابهم أو الأمر المعهود للناس كلهم وهو الجزاء .
وقوله : { وإلى الله ترجع الأمور } تذييل جامع لمعنى : { وقضى الأمر } والرجوع في الأصل : المآب إلى الموضع الذي خرج منه الراجع ، ويستعمل مجازاً في نهاية الشيء وغايته وظهور أثره ، فمنه { ألا إلى الله تصير الأمور } [ الشورى : 53 ] .
ويجيء فعل رجع متعدياً ، تقول رجعت زيداً إلى بلده ومصدره الرَّجْع ، ويستعمل رجع قاصراً تقول : رجع زيد إلى بلده ومصدره الرجُوع .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عَمرو وعاصم وأبو جعفر ويعقوب ( تُرجع ) بضم التاء وفتح الجيم على أنه مضارع أرجعه أو مضارع رجَعَه مبنياً للمفعول أي يَرْجع الأمورَ راجعُها إلى الله ، وحذفُ الفاعل على هذا العدم تعين فاعل عُرفي لهذا الرجع ، أو حُذف لدفع ما يبدو من التنافي بين كون اسم الجلالة فاعلاً للرجوع ومفعولاً له بحرف إلى ، وقرأه باقي العشرة بالبناء للفاعل من رجع الذي مصدره الرجوع فالأمورُ فاعل تَرْجع .