القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشّ بِهَا عَلَىَ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىَ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن موسى : قال موسى مجيبا لربه : " هِيَ عَصَايَ أتَوَكّأُ عَلَيْها وأهُشّ بِها عَلى غَنَمِي " يقول : أضرب بها الشجر اليابس فيسقط ورقها وترعاه غنمي ، يقال منه : هشّ فلان الشجر يهشّ هشا : إذا اختبط ورق أغصانها فسقط ورقها كما قال الراجز :
أهُشّ بالْعْصَا عَلى أغْنامِي *** مِنْ ناعِمِ الأَرَاكِ والْبَشامِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله : " وأهُشّ بِها عَلى غَنَمِي " قال : أخبط بها الشجر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة " وأهُشّ بِها عَلى غَنَمِي " قال : أخبط .
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة " وأهُشّ بِها عَلى غَنَمي " قال : كان نبيّ الله موسى صلى الله عليه وسلم يهشّ على غنمه ورق الشجر .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ " وأَهُشّ بِها عَلى غَنَمِي " يقول : أضرب بها الشجر للغنم ، فيقع الورق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " هيَ عَصَايَ أتَوَكّأُ عَلَيْها وأهُشّ بِها عَلى غَنَمي " قال : يتوكأ عليها حين يمشي مع الغنم ، ويهشّ بها ، ويحرّك الشجر حتى يسقط الورق الحبَلة وغيرها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسن ، عن عكرمة " وأهُشّ بِها عَلى غَنَمِي " قال : أضرب بها الشجر ، فيسقط من ورقها عليّ .
حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه ، قال : حدثنا عليّ بن الحسن ، قال : حدثنا حسين ، قال : سمعت عكرِمة يقول " وأهُشّ بِها عَلى غَنَمِي " قال : أضرب بها الشجر ، فيتساقط الورق على غنمي .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا مُعاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله " وأهُشّ بِا عَلى غَنَمِي " يقول : أضرب بها الشجر حتى يسقط منه ما تأكل غنمي .
وقوله : " وَليَ فيها مآرِبُ أُخْرَى " يقول : ولي في عصاي هذه حوائج أخرى ، وهي جمع مأربة ، وفيها للعرب لغات ثلاث : مأرُبة بضم الراء ، ومأرَبة بفتحها ، ومأرِبه بكسرها ، وهي مفعلة من قولهم : لا أرب لي في هذا الأمر : أي لا حاجة لي فيه . وقيل «أخرى » وهن مآرب جمع ، ولم يقل أُخر ، كما قيل : لَهُ الأسْماءُ الحُسْنَى وقد بيّنت العلة في توجيه ذلك هنالك . وبنحو الذي قلنا في معنى المآرب ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن عبدة الضبي ، قال : حدثنا حفص بن جميع ، قال : حدثنا سماك بن حرب ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، في قوله : " وَلي فِيها مآرِبُ أُخْرَى " قال : حوائج أخرى قد علمتها .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله " وَلي فِيها مآرِبُ أُخْرَى " يقول : حاجة أخرى .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد " وَلِيَ فِيها مآرِبُ أُخْرَى " قال : حاجات .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح " وَليَ فِيها مآرِبُ أُخْرَى " قال : حاجات ومنافع .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد " وَليَ فِيها مآرِبُ أُخْرَى " قال : حاجات .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ " وَليَ فِيها مآرِبُ أُخْرَى " يقول : حوائج أخرى أحمل عليها المزود والسقاء .
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة " وَليَ فِيها مآرِبُ أُخْرَى " قال : حوائج أخرى .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله " وَليَ فِيها مآرِبُ أُخْرَى " قال : حاجات منافع أخرى .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن وهب بن منبه " وَليَ فِيها مآرِبُ أُخْرَى " : أي منافع أخرى .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " وَليَ فِيها مآرِبُ أُخْرَى " قال : حوائج أخرى سوى ذلك .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله " مآرِبُ أُخْرَى " قال : حاجات أخرى .
إبراز انقلاب العصَا حيّةً في خلال المحاورة لقصد تثبيت موسى ، ودفع الشكّ عن أن يتطرقه لو أمره بذلك دون تجربة لأنّ مشاهدَ الخوارق تسارع بالنفس بادىء ذي بدء إلى تأويلها وتُدخل عليها الشك في إمكان استتار المعتاد بساتر خفي أو تخييل ، فلذلك ابتدىء بسؤاله عما بيده ليوقن أنه ممسك بعصاه حتى إذا انقلبت حيّة لم يشك في أنّ تلك الحيّة هي التي كانت عصاه . فالاستفهام مستعمل في تحقيق حقيقة المسؤول عنه .
والقصد من ذلك زيادة اطمئنان قلبه بأنه في مقام الاصطفاء ، وأن الكلام الذي سمعه كلام من قبل الله بدون واسطة متكلّم معتاد ولا في صورة المعتاد ، كما دلّ عليه قوله بعد ذلك { لنريك من آياتنا الكبرى } [ طه : 23 ] .
فظاهر الاستفهام أنه سؤال عن شيء أشير إليه . وبُنيت الإشارة بالظرف المستقر وهو قوله { بِيَمِينِكَ } ، ووقع الظرف حالاً من اسم الإشارة ، أي ما تلك حال كونها بيمينك ؟ .
ففي هذا إيماء إلى أن السؤال عن أمر غريب في شأنها ، ولذلك أجاب موسى عن هذا الاستفهام ببيان ماهية المسؤول عنه جرياً على الظاهر ، وببيان بعض منافعها استقصاء لمراد السائل أن يكون قد سأل عن وجه اتخاذه العصا بيده لأنّ شأن الواضحات أن لا يسأل عنها إلاّ والسائل يريد من سؤاله أمراً غير ظاهر ، ولذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجّة الوداع : « أيُّ يوم هذا ؟ » سكت النّاس وظنوا أنه سيسميه بغير اسمه . وفي رواية أنهم قالوا : « الله ورسوله أعلم ، فقال : أليس يوم الجمعة ؟ . . . » إلى آخره .
فابتدأ موسى ببيان الماهية بأسلوب يؤذن بانكشاف حقيقة المسؤول عنه ، وتوقع أن السؤال عنه توسل لتطلب بيان وراءه . فقال : { هِيَ عَصَايَ } ، بذكر المسند إليه ، مع أنّ غالب الاستعمال حذفه في مقام السؤال للاستغناء عن ذكره في الجواب بوقوعه مسؤولاً عنه ، فكان الإيجاز يقتضي أن يقول : عصاي . فلما قال : { هِيَ عَصَايَ } كان الأسلوب أسلوب كلام من يتعجب من الاحتياج إلى الإخبار ، كما يقول سائل لما رأى رجلاً يعرفه وآخر لا يعرفه : من هذا معك ؟ فيقول : فلان ، فإذا لقيَهما مرة أخرى وسأله : من هذا معك ؟ أجابه : هو فلان ، ولذلك عَقب موسى جوابَه ببيان الغرض من اتّخاذها لعلّه أن يكون هو قصد السائل فقال : { أتَوَكَّؤُا عليها وأَهُشُّ بها على غَنَمي ولِي فيها مَئَارِبُ أخرى } . ففصّل ثمّ أجمل لينظر مقدار اقتناع السائل حتّى إذا استزاده بياناً زاده .
والباء في قوله { بِيَمِينِكَ } للظرفية أو الملابسة .
والتوكّؤ : الاعتماد على شيء من المتاع ، والاتّكاء كذلك ، فلا يقال : توكّأ على الحائط ولكن يقال : توكأ على وسادة ، وتوكأ على عصا .
والهَشّ : الخَبْط ، وهو ضرب الشجرة بعصاً ليتساقط ورقها ، وأصله متعدّ إلى الشجرة فلذلك ضمت عينه في المضارع ، ثمّ كثر حذف مفعوله وعدي إلى ما لأجله يوقع الهش بعلى لتضمين ( أهشّ ) معنى أُسقط على غنمي الورق فتأكله ، أو استعملت ( على ) بمعنى الاستعلاء المجازي كقولهم : هو وكيل على فلان .
ومَآرب : جمع مَأرُبة ، مثلث الراء : الحاجة ، أي أمور أحتاج إليها . وفي العصا منافع كثيرة روي بعضها عن ابن عباس ، وقد أفرد الجاحظ من كتاب « البيان والتبيين » باباً لمنافع العصا . ومن أمثال العرب : « هو خير من تفارق العصا » . ومن لطائف معنى الآية ما أشار إليه بعض الأدباء من أن موسى أطنب في جوابه بزيادة على ما في السؤال لأنّ المقام مقام تشريف ينبغي فيه طول الحديث .
والظاهر أنّ قوله { مَئَارب أُخرى } حكاية لقول موسى بمماثله ، فيكون إيجازاً بعد الإطناب ، وكان يستطيع أن يزيد من ذكر فوائد العصا . ويجوز أن يكون حكاية لقول موسى بحاصل معناه ، أي عدّ منافع أخرى ، فالإيجاز من نظم القرآن لا من كلام موسى عليه السلام .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.