القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرّةُ عَيْنٍ لّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَىَ أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَقالَتِ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ له هذا قُرةُ عَيْنٍ لي ولَكَ يا فرعون فقرّة عين مرفوعة بمضمر هو هذا ، أو هو . وقوله : لا تَقْتُلُوهُ مسألة من امرأة فرعون أن لا يقتله . وذُكِر أن المرأة لما قالت هذا القول لفرعون ، قال فرعون : أمّا لك فنعم ، وأما لي فلا ، فكان كذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي مَعْشر ، عن محمد بن قيس ، قال : قالت امرأة فرعون : قُرةُ عَيْنٍ لي ولَكَ ، لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أنْ يَنْفَعَنا أوْ نَتّخِذَهُ وَلَدا قال فرعون : قرّة عين لك ، أما لي فلا . قال محمد بن قيس : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَوْ قالَ فِرْعَوْنُ : قُرةُ عَيْنٍ لي ولَكِ ، لَكانَ لَهُما جَمِيعا » .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : اتخذه فرعونُ ولدا ، ودُعِيَ على أنه ابن فرعون فلما تحرّك الغلام أرته أمه آسية صبيا ، فبينما هي ترقصه وتلعب به ، إذ ناولته فرعون ، وقالت : خذه قرةَ عين لي ولك ، قال فرعون : هو قرّة عين لك ، لا لي . قال عبد الله بن عباس : لو أنه قال : وهو لي قرّة عين إذن لآمن به ، ولكنه أبى .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قالت امرأة فرعون : قُرّةُ عَيْنٍ لي ولَكَ تعني بذلك موسى .
حدثنا العباس بن الوليد ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ بن يزيد ، قال : حدثنا القاسم بن أبي أيوب ، قال : ثني سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس قال : لما أتت بموسى امرأة فرعونَ فرعون قالت : قُرّةُ عَيْنٍ لي ولَكَ قال فرعون : يكون لك ، فأما لي فلا حاجة لي فيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وَالّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَوْ أقَرّ فِرْعَوْنُ أنْ يَكُونَ لَهُ قُرّةَ عَيْنٍ كمَا أقَرّتْ ، لَهَدَاهُ اللّهُ بِهِ كمَا هَدَى بِهِ امْرأتَهُ ، وَلَكِنّ اللّهَ حَرَمَهُ ذلكَ » .
وقوله : لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أنْ يَنْفَعَنا أوْ نَتّخِذَهُ وَلَدا ذُكِر أن امرأة فرعون قالت هذا القول حين همّ بقتله . قال بعضهم : حين أُتيَ به يوم التقطه من اليم . وقال بعضهم : يوم نَتَف من لحيته أو ضربه بعصا كانت في يده . ذكر من قال : قالت ذلك يوم نتف لحيته :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما أتيَ فرعون به صبيا أخذه إليه ، فأخذ موسى بلحيته فنتفها ، قال فرعون : عليّ بالذباحين ، هو هذا قالت آسية : لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أنْ يَنْفَعَنا أوْ نَتّخِذَهُ وَلَدا إنما هو صبيّ لا يعقل ، وإنما صنَع هذا من صباه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أنْ يَنْفَعَنا أوْ نَتّخِذَهُ وَلَدا قال : أُلقِيَتْ عليه رحمتها حين أبصرته .
وقوله : وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معنى ذلك : وهم لا يشعرون هلاكهم على يده . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ قال : وهم لا يشعرون أن هلكتهم على يديه ، وفي زمانه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة أوْ نَتّخِذَهُ وَلَدا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ قال : إن هلاكهم على يديه .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ قال : آل فرعون إنه لهم عدوّ .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بما هو كائن من أمرهم وأمره . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قالت امرأة فرعون آسية : لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أنْ يَنْفَعَنا أوْ نَتّخِذَهُ وَلَدا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يقول الله : وهم لا يشعرون أي بما هو كائن بما أراد الله به .
وقال آخرون : بل معنى قوله وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بنو إسرائيل لا يشعرون أنّا التقطناه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن قيس لا تقتُلُوهُ عَسَى أنْ يَنْفَعنا أوْ نَتّخِذَهُ وَلَدا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ قال : يقول : لا تدري بنو إسرائيل أنّا التقطناه .
والصواب من القول في ذلك ، قول من قال : معنى ذلك : وفرعون وآله لا يشعرون بما هو كائن من هلاكهم على يديه .
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات به لأنه عُقَيب قوله : وَقالَتِ امْرأةُ فِرْعَوْنَ قُرّةُ عَيْنٍ لي ولَكَ ، لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أنْ يَنْفَعَنا أوْ نَتّخِذَهُ وَلَدا وإذا كان ذلك عقبه ، فهو بأن يكون بيانا عن القول الذي هو عقبه أحقّ من أن يكون بيانا عن غيره .
يدل الكلام على أن الذين انتشلوه جعلوه بين أيدي فرعون وامرأته فرقت له امرأة فرعون وصرفت فرعون عن قتله بعد أن هم به لأنه علم أن الطفل ليس من أبناء القبط بلون جلوته وملامح وجهه ، وعلم أنه لم يكن حمله النيل من مكان بعيد لظهوره أنه لم يطل مكث تابوته في الماء ولا اضطرابه بكثرة التنقل ، فعلم أن وقعه في التابوت لقصد إنجائه من الذبح . وكان ذلك وقت انتشاله من الماء وإخراجه من التابوت . وكانت امرأة فرعون امرأة ملهمة للخير وقدّر الله نجاة موسى بسببها . وقد قال الله تعالى في شأنها { وضرب الله مثلاً للذين ءامنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجِّني من فرعون وعمله ونجِّني من القوم الظالمين } [ التحريم : 11 ] ، وهي لم تر عداوة موسى لآل فرعون ولا حزنت منه لأنها انقرضت قبل بعثة موسى .
و { امرأة فرعون } سميت آسية كما في الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم « كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران وآسية امرأة فرعون » ويفيد قولها ذلك أن فرعون حين رآه استحسنه ثم خالجه الخوف من عاقبة أمره فلذلك أنذرته امرأته بقولها { قرة عين لي ولك لا تقتلوه } .
وارتفع { قرة عين } على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هذا الطفل . وحذفه لأنه دل عليه حضوره بين أيديهم وهو على حذف مضاف ، أي هو سبب قرة عين لي ولك .
و ( قرة العين ) كناية عن السرور وهي كناية ناشئة عن ضدها وهو سُخْنة العين التي هي أثر البكاء اللازم للأسف والحزن ، فلما كُني عن الحزن بسخنة العين في قولهم في الدعاء بالسوء : أسخن الله عينه . وقول الراجز :
أوه أديم عرضه وأسخن *** بعينه بعد هجوع الأعين
أتبعوا ذلك بأن كنّوا عن السرور بضد هذه الكناية فقالوا : قرة عين ، وأقر الله عينه ، فحكى القرآن ما في لغة امرأة فرعون من دلالة على معنى المسرّة الحاصلة للنفس ببليغ ما كنّى به العرب عن ذلك وهو { قرة عين } ، ومن لطائفه في الآية أن المسرة المعنية هي مسرة حاصلة من مرأى محاسن الطفل كما قال تعالى { وألقيت عليك محبة مني } [ طه : 39 ] .
ويجوز أن يكون قوله { قرة عين } قسماً كما يقال : أيمن الله . فإن العرب يقسمون بذلك ، أي أقسم بما تقرّ به عيني . وفي الحديث الصحيح : أن أبا بكر الصديق استضاف نفراً وتأخر عن وقت عشائهم ثم حضر ، وفيه قصة إلى أن قال الراوي : فجعلوا لا يأكلون لقمة إلا ربت من أسفلها أكثر منها . فقال أبو بكر لامرأته : يا أخت بني فراس ما هذا ؟ فقالت : وقُرّة عيني إنها الآن أكثر من قبل .
فتكون امرأة فرعون أقسمت على فرعون بما فيه قرة عينها ، وقرة عينه أن لا يقتل موسى ، ويكون رفع { قرة عينٍ } على الابتداء وخبره محذوفاً ، وهو حذف كثير في نص اليمين مثل : لعمرك . وابتدأت بنفسها في { قرة عين لي } قبل ذكر فرعون إدلالاً عليه لمكانتها عنده أرادت أن تبتدره بذلك حتى لا يصدر عنه الأمر بقتل الطفل .
وضمير الجمع في قولها { لا تقتلوه } يجوز أن يراد به فرعون نزّلته منزلة الجماعة على وجه التعظيم كما في قوله { قال رب ارجعون } [ المؤمنون : 99 ] . ويجوز أن يراد به خطاب فرعون داخلاً فيه أهل دولته هامان والكهنة الذين ألقوا في نفس فرعون أن فتى من إسرائيل يفسد عليه مملكته . وهذا أحسن لأن فيه تمهيداً لإجابة سُؤْلها حين أسندت معظم القتل لأهل الدولة وجعلت لفرعون منه حظ الواحد من الجماعة فكأنها تعرّض بأن ذلك ينبغي أن لا يكون عن رأيه فتهوِّن عليه عدوله في هذا الطفل عما تقرر من قتل الأطفال . وقيل { لا تقتلوه } التفات عن خطاب فرعون إلى خطاب الموكّلين بقتل أطفال إسرائيل كقوله { يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك } [ يوسف : 29 ] .
فموقع جملة { قرة عين لي ولك } موقع التمهيد والمقدمة للعرض . وموقع جملة { لا تقتلوه } موقع التفريع عن المقدمة ولذلك فصلت عنها .
وأما جملة { عسى أن ينفعنا } فهي في موقع العلة لمضمون جملة { لا تقتلوه } فاتصالها بها كاتصال جملة { قرة عين لي ولك } بها ، ولكن نظم الكلام قضى بهذا الترتيب البليغ بأن جعل الوازع الطبيعي عن القتل وهو وازع المحبة هو المقدِّمة لأنه أشدّ تعلقاً بالنفس فهو يشبه المعلوم البديهي . وجعل الوازع العقلي بعد النهي علةً لاحتياجه إلى الفكر ، فتكون مهلة التفكير بعد سماع النهي الممهد بالوازع الطبيعي فلا يخشى جماح السامع من النهي ورفضه إياه .
ويتضمن قولها { عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً } إزالة ما خامر نفس فرعون من خشية فساد ملكه على يد فتى إسرائيلي بأن هذا الطفل لا يكون هو المخوف منه لأنه لما انضم في أهلهم وسيكون ربيَّهم فإنه يرجى منه نفعهم وأن يكون لهم كالولد . فأقنعت فرعون بقياس على الأحوال المجربة في علاقة التربية والمعاشرة والتبني والإحسان ، وإن الخير لا يأتي بالشر . ولذلك وقع بعده الاعتراض بقوله تعالى { وهم لا يشعرون } أي وفرعون وقومه لا يعلمون خفي إرادة الله من الانتقام من أمة القبط بسبب موسى . ولعل الله حقق لامرأة فرعون رجاءها فكان موسى قرة عين لها ولزوجها ، فلما هلكا وجاء فرعون آخر بعدهما كان ما قدّره الله من نصر بني إسرائيل .
واختير { يشعرون } هنا لأنه من العلم الخفي ، أي لا يعلمون هذا الأمر الخفي .