القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىَ قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } .
يقول تعالى ذكره : وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا من الملائكة ، وهم فيما ذُكِر كانوا جبرئيل وملكين آخرين . وقيل إن الملكين الاَخرين كانا ميكائيل وإسرافيل معه . إبْرَاهِيمُ يعني إبراهيم خليل الله بالبُشْرَى يعني : بالبشارة . واختلفوا في تلك البشارة التي أتوه بها ، فقال بعضهم : هي البشارة بإسحاق . وقال بعضهم : هي البشارة بهلاك قوم لوط . قالُوا سَلاما يقول : فسلموا عليه سلاما ، ونصب «سلاما » بإعمال «قالوا » فيه ، كأنه قيل : قالوا قولاً وسلّموا تسليما . قالَ سَلامٌ يقول : قال إبراهيم لهم : سلام . فرفع «سلام » ، بمعنى عليكم السلام ، أو بمعنى سلام منكم . وقد ذُكِر عن العرب أنها تقول : سِلْم ، بمعنى السلام كما قالوا : حِلّ وحلال ، وحِرْم وحرام . وذكر الفراء أن بعض العرب أنشده :
مَرَرْنا فَقُلْنا إيهِ سِلْمٌ فَسَلّمَتْ *** كمَا اكْتَلّ بالبَرْقِ الغَمامُ اللّوَائِحُ
بمعنى «سلام » . وقد روي «كما انكلّ » . وقد زعم بعضهم أن معناه إذا قرىء كذلك : نحن سِلْم لكم ، من المسالمة التي هي خلاف المحاربة ، وهذه قراءة عامة قرّاء الكوفيين . وقرأ ذلك عامة قرّاء الحجاز والبصرة قالوا سلاما قال سَلامٌ على أن الجواب من إبراهيم صلى الله عليه وسلم لهم ، بنحو تسليمهم عليكم السلام .
والصواب من القول في ذلك عندي : أنهما قراءتان متقاربتا المعنى ، لأن السّلْم قد يكون بمعنى السلام على ما وصفت ، والسلام بمعنى السلم ، لأن التسليم لا يكاد يكون إلا بين أهل السّلم دون الأعداء ، فإذا ذكر تسليم من قوم على قوم وردّ الاَخرين عليهم ، دلّ ذلك على مسالمة بعضهم بعضا . وهما مع ذلك قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما أهل قدوة في القراءة ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب .
وقوله : فَمَا لَبثَ أنْ جاءَ بعجْلٍ حَنيذٍ وأصله محنوذ ، صرف من مفعول إلى فَعيل .
وقد اختلف أهل العربية في معناه ، فقال بعض أهل البصرة منهم : معنى المحنوذ : المشويّ ، قال : ويقال منه : حنذت فرسي ، بمعنى سَخّنته وعَرّقته . واستشهد لقوله ذلك ببيت الراجز :
*** وَرَهِبَا منْ حَنْذِهِ أنْ يَهْرَجا ***
وقال آخر منهم : حَنَذ فرسه : أي أضمره ، وقال : قالوا حَنَذهَ يحْنِذهُ حنذا : أي عرّقه . وقال بعض أهل الكوفة : كل ما انشوى في الأرض إذا خددت له فيه فدفنته وغممته فهو الحنيذ والمحنوذ . قال : والخيل تَحنذ إذا ألقيت عليها الجلال بعضها على بعض لتعرق . قال : ويقال : إذا سقيتَ فأحْنِذْ ، يعني أخْفِسْ ، يريد : أقلّ الماء وأكثر النبيذ .
وأما التأويل ، فإنهم قالوا في معناه ما أنا ذاكره ، وذلك ما :
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : بعِجْلٍ حَنِيذٍ يقول : نضيج .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : بِعِجْلٍ حَنِيذ قال : «بعجل » حَسِيل البقر ، والحنيذ : المشويّ النضيج .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إبْرَاهِيمَ بالبُشْرَى . . . إلى بِعِجْلٍ حَنِيذٍ قال : نضيج سخن أنضج بالحجارة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فَمَا لَبثَ أنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنيذٍ والحنيذ : النضيج .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : بعِجْلٍ حَنِيذٍ قال : نضيج . قال : وقال الكلبي : والحنيذ : الذي يُحْنَذ في الأرض .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن حفص بن حميد ، عن شمر ، في قوله : فجاءَ بعِجْلٍ حَنِيذٍ قال : الحنيذ : الذي يقطر ماء وقد شُويِ . وقال حفص : الحنيذ : مثل حناذ الخيل .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : ذبحه ثم شواه في الرّضْف فهو الحنيذ حين شواه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو يزيد ، عن يعقوب ، عن حفص بن حميد ، عن شمر بن عطية : فجاءَ بعِجْلٍ حَنِيذٍ قال : المشويّ الذي يقطُر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام ، قال : حدثنا يعقوب ، عن حفص بن حميد ، عن شَمر بن عطية ، قال : الحنيذ : الذي يقطر ماؤه وقد شُوِيَ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : بعِجْلٍ حَنِيذٍ قال : نضيج .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : بعِجْلٍ حَنِيذٍ الذي أنضج بالحجارة .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان : فَمَا لَبثَ أنْ جاءَ بعجْلٍ حَنيئذٍ قال : مشويّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد ، أنه سمع وهب بن منبه يقول : حينذ ، يعني شُوِي .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : الحناذ : الإنضاج .
قال أبو جعفر : وهذه الأقوال التي ذكرناها عن أهل العربية وأهل التفسير متقاربات المعاني بعضها من بعض . وموضع «أن » في قوله : أنْ جاءَ بِعجْلٍ حَنِيذٍ نصب بقوله : «فما لبث أن جاء » .
«الرسل » الملائكة وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل . وقالت فرقة : بدل إسرافيل عزرائيل - ملك الموت - وروي أن جبريل منهم كان مختصاً بإهلاك قرية لوط ، وميكائيل مختصاً بتبشير إبراهيم بإسحاق . وإسرافيل مختصاً بإنجاء لوط ومن معه .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الآية تقضي باشتراكهم في البشارة بإسحاق وقالت فرقة - وهي الأكثر - «البشرى » هي بإسحاق . وقالت فرقة : «البشرى » هي بإهلاك قوم لوط .
وقوله : { سلاماً } نصب على المصدر ، والعامل فيه فعل مضمر من لفظة كأنه قال : أسلم سلاماً ، ويصح أن يكون : { سلاماً } حكاية لمعنى ما قالوه لا للفظهم - قاله مجاهد والسدي - فلذلك عمل فيه القول ، كما تقول - الرجل قال : لا إله إلاَّ الله - قلت حقاً أو إخلاصاً ؛ ولو حكيت لفظهم لم يصح أن تعمل فيه القول وقوله : { قال : سلام } حكاية للفظه ، و { سلام } مرتفع إما على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره عليكم ، وإما على خبر ابتداء محذوف تقديره أمري سلام ، وهذا كقوله : { فصبر جميل }{[6416]} إما على تقدير فأمري صبر جميل ، وإما على تقدير : فصبر جميل أجمل{[6417]} .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم : «قالوا : سلاماً قال : سلاَم » وقرأ حمزة والكسائي : «قالوا سلاماً ، قال : سلم » وكذلك اختلافهم في سورة الذاريات{[6418]} . وذلك على وجهين : يحتمل أن يريد به السلام بعينه ، كما قالوا حل وحلال وحرم وحرام ومن ذلك قول الشاعر : [ الطويل ]
مررنا فقلنا ابه سلم فسلمت*** كما اكتلّ بالبرق الغمام اللوائح{[6419]}
اكتلّ : اتخذ إكليلاً أو نحو هذا قال الطبري وروي : كما انكلّ - ويحتمل أن يريد ب «السلم » ضد الحرب ، تقول نحن سلم لكم .
وكان سلام الملائكة دعاء مرجواً - فلذلك نصب - وحيي الخليل بأحسن مما حيي وهو الثابت المتقرر ولذلك جاء مرفوعاً{[6420]} .
وقوله : { فما لبث أن جاء } يصح أن تكون { ما } نافية ، وفي { لبث } ضمير إبراهيم وإن جاء في موضع نصب أي بأن جاء ، ويصح أن تكون { ما } نافية وإن جاء بتأويل المصدر في موضع رفع ب { لبث } أي ما لبث مجيئه ، وليس في { لبث } على هذا ضمير إبراهيم ، ويصح أن يكون { ما } بمعنى الذي وفي { لبث } ضمير إبراهيم - وإن جاء خبر { ما } أي فلبث إبراهيم مجيئه بعجل حنيذ{[6421]} ، وفي أدب الضيف أن يجعل قراه من هذه الآية .
و «الحنيذ » بمعنى المحنوذ ومعناه بعجل مشوي نضج يقطر ماؤه ، وهذا القطر يفصل الحنيذ من جملة المشويات ، ولكن هيئة المحنوذ في اللغة الذي يغطى بحجارة أو رمل محمي أو حائل بينه وبين النار يغطى به والمعرض{[6422]} من الشواء الذي يصفف على الجمر ؛ والمهضب{[6423]} : الشواء الذي بينه وبين النار حائل ، يكون الشواء عليه لا مدفوناً له ، والتحنيذ في تضمير الخيل هو أن يغطى الفرس بجل على جل{[6424]} لينتصب عرقه .
وتأكيد الخبر بحرف ( قد ) للاهتمام به كما تقدّم في قوله : { ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه } [ هود : 25 ] .
والغرض من هذه القصّة هو : الموعظة بمصير قوم لوط إذْ عصوا رسول ربّهم فحلّ بهم العذاب ولم تغن عنهم مجادلة إبراهيم . وقدّمت قصة إبراهيم لذلك وللتنويه بمقامه عند ربّه على وجه الإدماج ، ولذلك غيّر أسلوب الحكاية في القصص الّتي قبلها والتي بعدها نحو { وإلى عاد } [ هود : 50 ] إلخ .
والرّسل : الملائكة . قال تعالى : { جاعل الملائكة رسلاً } [ فاطر : 1 ] .
والبشرى : اسم . للتبشير والبشارة . وتقدّم عند قوله تعالى : { وبشّر الذين آمنوا وعَمِلوا الصالحات } في أوّل سورة [ البقرة : 25 ] . هذه البشرى هي التي في قوله : فبشّرناها بإسحاق } لأنّ بشارة زوجه بابننٍ بشارة له أيضاً .
والباء في { بالبشرى } للمصاحبة لأنّهم جاءوا لأجل البشرى فهي مصاحبة لهم كمصاحبة الرسالة للمرسل بها .
وجملة { قالوا سلاماً } في موضع البيان ل { البشرى } ، لأنّ قولهم ذلك مبدأ البشرى ، وإنّ ما اعترض بينها حكاية أحوال ، وقد انتهى إليها في قوله : { فبشّرناها بإسحاق إلى قوله إنّه حميد مجيد } .
والسّلام : التحيّة . وتقدّم في قوله : { وإذا جاءك الّذين يؤمنون بآياتنا فقل سلامٌ عليكم } في سورة [ الأنعام : 54 ] .
وسلاماً } مفعول مطلق وقع بَدَلاً من الفعل . والتّقدير : سلّمنا سلاماً .
و { سلام } المرفوع مصدر مرفوع على الخبر لمبتدأ محذوف ، تقديره : أمري سلام ، أي لكم ، مثل { فصبرٌ جميلٌ } [ يوسف : 18 ] . ورفع المصدر أبلغ من نصبه ، لأنّ الرّفع فيه تناسي معنى الفعل فهو أدلّ على الدّوام والثّبات . ولذلك خالف بينهما للدّلالة على أنّ إبراهيم عليه السّلام ردّ السّلام بعبارة أحسن من عبارة الرسل زيادة في الإكرام .
قال ابن عطيّة : حيّاً الخليل بأحسن ممّا حُيّيَ به ، أي نظراً إلى الأدب الإلهي الذي عَلّمَهُ لَنَا في القرآن بقوله : { وإذا حيّيتم بتحيةٍ فَحَيّوا بأحسن منها أو رُدُّوها } [ النساء : 86 ] ، فَحكيَ ذلك بأوجز لفظ في العربية أداءً لمعنى كلام إبراهيم عليه السّلام في الكلدانيّة .
وقرأ الجمهور { قال سَلامٌ } بفتح السّين وبِألِف بعد اللاّم . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف : { قال سِلْم } بكسر السّين وبدون ألِف بعد اللاّم وهو اسم المسالمة . وسمّيت به التحية كما سمّيت بمرادفِه ( سَلام ) فهو من باب اتّحاد وزن فَعال وفِعْل في بعض الصفات مثل : حرام وحِرم ، وحلال وحلّ .
والفاء في قوله : { فما لبث } للدّلالة على التعقيب إسراعاً في إكرام الضّيف ، وتعجيل القرى سنّة عربيّة : ظنهم إبراهيم عليه السّلام ناساً فبادر إلى قراهم .
واللّبث في المكان يقتضي الانتقال عنه ، أيْ فما أبطأ . و { أن جاء } يجوز أن يكون فاعل { لَبِثَ } ، أي فما لبث مجيئه بعجل حنيذ ، أي فما أبطأ مَجيئه مصاحباً له ، أي بل عجّل . ويجوز جعل فاعل { لبث } ضمير إبراهيم عليه السّلام فيقدّر جارّ ل { جاء } .
والتّقدير : فما لبث بأن جاء به . وانتفاء اللبث مبالغة في العجل .
والحنيذ : المشوي ، وهو المحنوذ . والشيُّ أسْرَع من الطبخ ، فهو أعون على تعجيل إحضار الطعام للضيف .